بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 آذار 2024 12:00ص التنشئة والتربية في مجتمع متفكّك تائه بين وطنية الراهبة زيادة والترويج للشذوذ الجنسي

حجم الخط
د. حسن محمود قبيسي* 

لو أن المشكلة السخيفة/ الخطيرة في آن، التي أثارتها فئة ضالة من اللبنانيين في التطاول على راهبة مسيحية الإيمان والمسلك تقتصر على خلافات وجهات نظر في مسألة تخص «المجتمع المسيحي» كما يحلو للبعض تسمية عصبيتهم، لما تناولناها. ولو أنها عرضية آنية لما توقفنا عندها. لكن تزامنها مع فضيحة الترويج للشذوذ الجنسي في مدرسة تابعة للرهبانية المارونية، دون اتخاذ أي إجراء - كما جرى في التطاول على الراهبة الجليلة مايا زيادة، على غير قانونيته، دفعنا لدق نواقيس الخطر.
المشكلة – نحذّر ولا نهَول- قد تتطور إلى أزمة وصدام وصراع واقتتال بين نوازل في منازل كثيرة في بيت واحد اسمه لبنان (عطفاً على ما جاء في إنجيل يوحنا 14: 2: «في بيت أبي منازل كثيرة»)، فإما أن يبقى لبنان واحد، وإما فلن يبقى. وأدق وصف له هو ما أطلقه رئيس وزراء لبنان الراحل صائب سلام: «لبنان لا لبنانان». وأول أسس تماسك اللبنانيين قناعتهم بوحدة لبنانا أرضاً وشعباً ومؤسسات، وبعدائية العدو الصهيوني لهم، وأن عليهم الحفاظ على استقلاله بعدما حرره المقاومون بقتالهم وشعبه بصموده، والتمسّك بقيمه وتقاليده وقيمه.
للمشكلة دوافع لا تنحصر باختلاف النظرة إلى لبنان الكيان الوطني وهوية مواطنيه، وموقفهم من النظام الإشكالية والميثاق والصيغة والتفاهم على إعادة النظر في أساسياتهما بعدما تبدّلت المعطيات.
ولها سببها المباشر: معاقبة راهبة لبنانية دعت طلابها للصلاة لأهل الجنوب:
«في الجنوب هناك تلامذة من عمركم يقولون إنهم لا يمتلكون أحلاماً غير تحرير أرضهم. اليوم سنصلي للجنوب، لأطفال الجنوب، لأهالي الجنوب، لأمهات الجنوب، ولرجال المقاومة، لأنهم رجال من لبنان، ويتعبون لحماية هذا الوطن». وتابعت: «نحن إذا لم نصلِّ لهم، ولم نحبهم بغضّ النظر عما نفكر به، سنكون عندها خونة بحق أرضنا ووطننا وكل كتاب نقرأ فيه».
وأضافت: «نطلب من العذراء أن تحمي شبابنا ووطننا لأنه يمرّ بمحنة صعبة، ولا شيء سوى المحبة والتعاضد يقوّينا».
*****
أثار هذا المقطع انتقاداً في صفوف لبنانيين من كسروان، طالبوا بمعاقبة الراهبة بعدما فسر موقفها بأنه يتناقض مع عظات الكنيسة المارونية وبيانات مجلس المطارنة، وجرت دعوات إلى بكركي لاتخاذ التدابير اللازمة بحجة «أن أطفالنا يتعرضون لغسل الأدمغة من قبل بعض الدخلاء على الرهبنة والمدارس».
ووصف مرجع معني ما قالته الراهبة بأنه «نوع من البدع التي ينتهجها بعضهم وتنمّ عن سطحية فكرية وسياسية ووطنية، مطالبا بحملة توعية لتوجهات الكنيسة التاريخية والوطنية في لبنان للحد منها».
واتهمت «القوات اللبنانية» الراهبة بمحاولة غسل دماغ الطلاب المسيحيين.
وبعد إعلان أهالي الطلاب الإضراب العام في مدرسة الغبالة «بسبب الخطاب البعيد عن ثقافتنا، والتي حاولت الأخت مايا زيادة التّسويق له داخل الحرم التربوي»، حسب تعبيرهم، كانت الخطوة الأولى من إدارة المدرسة أن أصدرت بياناً للحد من غضب أهالي التلاميذ، فأشارت الى أن مبادرتها لنشر الفيديو - الذي فيه مناشدتها لطلابها - شخصية وتم دون علم المسؤولين عن المدرسة؛ لكن أوساط الأهالي ردت على ان نشر الفيديو دليلًا على فعلتها عن وعي وسابق تصور وتصميم، إذ قالت حين دعت للصلاة لـ«رجال المقاومة» (يا للهول)!!!
ثم قرّرت إدارة المدرسة منع الراهبة من التعليم نهائياً ونقلها من مدرسة الغبالة إلى مكان آخر.
فبدا أن الاجراءات التي اتخذتها الكنيسة تدلّ على أن التضامن مع جنوب لبنان وفلسطين في مدارس الارساليات المسيحية ممنوع!!!!
وأن الطلب من السيدة العذراء التي اصطفاها الله وفضّلها على نساء العالمين كما جاء في القرآن الكريم، «حماية شبابنا وأولادنا ووطننا لأننا نمرّ بمحنة صعبة كثيرا وليس هناك غير المحبة والتعاضد معهم» جريمة!!!!
*****
أثار قرار فصل الراهبة مايا زيادة من مدرسة راهبات الحبل بلا دنس في غبالة فتوح كسروان، ومنعها من التعليم ردود فعل مختلفة بين مؤيد ومدافع عنها ومطالب بمعاقبتها إلى حد وصف ما قالته بــ «الهرطقة الوطنية»، وسجالاً من قبل لبنانيين آخرين قالوا إن الراهبة لم تنطق إلّا بتعاليم السيد المسيح القائمة على المحبة ونصرة المظلوم، ووضعوا الحملة عليها في إطار العودة إلى الخيانة الوطنية والعمالة للعدو الصهيوني، وإلّا فالعودة إلى نغمة التقسيم بذريعة التعددية، والتعددية عامة في كل المجتمعات الإنسانية دون استثناء، وما منعت العيش المشترك بين المكونات الوطنية لإي أي بلد.
 ونشير هنا إلى أن الراهبة الجليلة مايا زيادة تنتمي إلى رهبنة إيطالية تملك وتدير مدرسة «الحبل بلا دنس» في بلدة غبالة في فتوح كسروان. وتتبع الرهبنة للفاتيكان مباشرة، ولا سلطة مادية للبطريركية المارونية عليها.
أضف إلى ذلك أن أي إجراء في حقها لا يؤخذ كيفما اتُّفق ووفق رغبات سياسية، إذ إن تبعية الرهبنة للفاتيكان تعني أن أي تدبير يستلزم إجراءات وتحقيقات يتدخّل فيها الفاتيكان نفسه؛ وهذا ما لم يراعيه من عاقبها.
*****
في وسائل إعلام ومواقع التواصل الاجتماعي قرأنا يوم الإثنين 11/3/2024 أن: «بلبلةٌ واسعة وراء ورقةِ العمل التطبيقي التي تم توزيعُها على الصف الثاني إبتدائي في المدرسة المركزية في جونيه التابعة للرهبانيةِ اللبنانية المارونية.هذه الورقة المعنونة Toutes sortes de familles، أي جميع أنواع الأسرة، ومن بينها الأسر المؤلفة من والدين من الجنس نفسِه سواء كانوا رجالاً أو إناثاً، أثارت مخاوفَ أهالي التلاميذ أن المدرسة قد بدأت بالترويج للمثلية الجنسية».
وعلى الأثر استدعت القاضي المنفرد في بعبدا جويل أبو حيدر، مديرة المدرسة والمعلمين المعنيين لجلسة استماع، وجاء في القرار القضائي المذكور أن «هذه الدروس المعتمدة تأتي في سياق التحفيز على الشذوذ الجنسي والمخالف للقيم الأخلاقية والتربوية».
وأكدت إدارة المدرسة في بيان نشرته على موقعها الإلكتروني، التي سارعت الى فتح تحقيق في الحادث، «أنه بعد الإطّلاع على المُستند الموزّع على بعض طلّاب الصف الثاني ابتدائي، وما أثيرَ حولهُ من جَدَل، وضعت إدارة المدرسة يدها على الموضوع بكل تفاصيله وتقوم بإجراء التحقيق اللازم تمهيداً لإصدار بيان توضيحيّ تُعلِن من خلاله النتائج والإجراءات والتدابير اللازمة».
أما لجنة الأهل في المدرسة فوقفت إلى جانب الإدارة، وأكدت في بيان أن المدرسة المركزية ملتزمة بتعاليم الكنيسة، شاجبة الحملة التي شنّت على هذه المدرسة.
واعتبرت أن هذه الحملة أسهمت من دون أن تعرف في التسويق والترويج للفكرة المطروحة في الورقة، متمنية لو أن «المهاجمين انتظروا التحقيقات التي تجريها المدرسة في هذا الإطار».
ويُلاحظ هنا التفاوت في الاهتمام الشعبي والرسمي بين كلا الحالتين، ووضع التنشئة والتربية في مجتمع متفكك تائه بين وطنية الراهبة زيادة والترويج للشذوذ الجنسي.
فإلى أين يريدون الذهاب بلبنان؟!..
وهل سيبقى لبنان واحداً موحداً، أم سيكون لبنانان وربما أكثر؟!

* مؤرخ وكاتب سياسي