بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 آذار 2024 12:00ص «الحكي بلاش»؟

حجم الخط
كلما رماني الدهر بشخص يرمي الكلام بلا حساب، أسأل نفسي: «لو ما الحكي ببلاش» هل كانت الأبجدية تهطل من ألسنة الناس كالمطر، أم يعتمد هؤلاء «تقنين الحكي» على غرار تقنين الكهرباء؟
... ونحن صغار، كنا نحاذر كثرة الكلام لأن رعباً أصابنا عندما حسمت جدّتي أمر ثرثراتنا الطفوليَّة بموقف حازم جازم: «ما تحكوا كتير يا ولاد أحسن ما تمرضوا بعيد الشر»!... وفي ذلك العمر النديّ لم يكن بمقدوري أن أحلِّل مغزى هذا التحذير، لكنني أحسست أن ثمة خطراً في طيَّاته، وأن لساني الرشيق قد يوقعني في لجّة بلا قرار.
لعب كلام الجدّة لعبته في نفسي، فرحت أقنع أترابي به، معتمداً الترهيب المفرط، فاقتنعوا وهلعوا، وصاروا يشاركونني بثَّ هذا الهلع في قلب أيِّ ولد مشاغب تعب على لسانه، وأتعب الحاضرين بضجيجه!
... ودخلت لعبة الأرقام على اللعبة فزادتها إثارة. فقد أقنعت نفسي بأن الرقم «1000» هو الحد الأقصى لعدد الكلمات التي يمكنني نطقها بأمان، على أساس أنه بعيد المنال، ومهما ثرثرت لن أبلغه، فقد كان بالنسبة إليَّ رقماً شاهقاً وليس كحال الألف ليرة اليوم.
ولأنني كنت وما زلت أضرب حسابات المستقبل كي لا تضربني غدرات الزمان، صرت وأترابي نقنِّن الكلام نهاراً، ونعوِّض ما فاتنا من أحاديث ليلاً، متسلِّحين بالمثل القائل «كلام الليل يمحوه النهار»، أي أنه بعملية حسابية بسيطة لن يُسجَّل علينا سوى الكلام النهاري القليل. لكن ثرثراتنا على المصطبة القروية الأثيرة في الأماسي الصيفية أزعجت الجيران فرفعوا شكوى عاجلة إلى مجلس الأهل، واتُّخذت بحقنا عقوبات جعلتنا نعيد حساباتنا من جديد!
***
أتذكَّر اليوم هذه المشاهد الموغلة في الوجدان كلما صدمتني شاشات التلفزة بحوار أو تصريح أو تعليق أو مداخلة، وأتساءل: ماذا لو «الحكي مش ببلاش»؟ وصار النطق بألف كلمة خطراً على الحياة؟ أكانت استمرت الثرثرات التي لا طائل منها بين الناس؟
رحمكِ الله يا جدّتي، ليتكِ بيننا اليوم لتري الناس يطلقون ملايين الكلمات، وتدركي أن السكوت الذي كان من ذهبْ... ذَهَبَ مع الريح، وبات عملة باطلة في زمن «الكلام الفاضي»!

خضر حيدر