بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 تموز 2020 12:00ص شخصٍ الرَّائدُ العصاميُّ الشَّيخ أحمد عَبَّاس الأزهريّ - 2 ... الدِّراسةُ في بيروت

حكايةٌ عن مرحلةٍ وأجيالٍ وليست أبداً حكايةً عن شخصٍ

الحاج حسين بيهم الحاج حسين بيهم
حجم الخط
ما أَنْ بَلَغَ الطّفلُ «أحمد عبَّاس سليمان»، الخامسة من سني العمر، حتَّى ألحقته عائلته، مثل كثيرين من أترابه في بيروت، بما كان يعرف، عهد ذاك، بـ «الكُتَّاب»؛ وهو مكان يهتمَّ القيِّمون عليه بتعليم، الأطفال الصِّغار، بعض أوَّليَّاتِ القراءة والكتابة والحساب، كما يسعون إلى تحفيظهم ما يمكن من قصارِ سُوَرِ «القرآن الكريم».

أنهى «أحمد عبَّاس سُليمان»، إذ بلغ العاشرة من العمر في سنة 1863، بنجاح المُقرَّراتِ المطلوبة للتَّخَرُّجِ في «الكُتَّاب»؛ الذي سبق أن أُلحقه به ذووه، في محلَّة «البسطة الفوقا»، في بيروت، خلال السَّنوات الخمس السَّابقة. أصبح «أحمد عبَّاس سُليمان»، هذه المرَّة، تلميذاً في «المدرسة الرَّشيديَّة»، التي أنشأها الشَّيخ «حسن البنَّا»، حوالي سنة 1863. كانت «المدرسة الرَّشيديَّة» أوَّل مدرسة إسلاميَّة عصرية، تُنْشأ في بيروت، للتَّعليم المتوسِّط أو ما يعرف بالإعدادي؛ وثمَّة من يذكر أنَّ مؤسِّسها سمَّاها بـ «الرِّشيدِيَّة»، نسبة إلى والي سورية، عهذاك، «راشد باشا»، (1283-1285 هـ/ 1866-1871)، واسمه الكامل «محمَّد راشد باشا». ولعلَّ اسم المدرسة الفعلي هو «المدرسة الرَّاشدِيَّة»، إذ ما كانت التَّسمية نسبة إلى «راشد باشا» هذا؛ وقد جرى على الاسم تصحيفٌ ما. ومِمَّا يثبتُ العلاقة بين هذه المدرسة، وراشد باشا، والي سوريا، أنَّ الوالي استدعى، زمنذاك، أحد أساتذة المدرسة، «الشَّيخ إبراهيم الأحدب»، ليقدِّم إحدى رواياته المسرحيَّة، «الاسكندر المقدوني»؛ وليشرف «الشَّيخ الأحدب»، بنفسهِ، على إخراجِها وتمثيلها في احتفال خاصٍّ في قصر الوالي وبحضوره. (حمو: 272). وبقال إن الشيخ إبراهيم الأحدب نال مكافأة على عمله من قبل راشد باشا، عبارة عن خاتم ماسيٍّ ومئة ليرة عثمانيَّة. (طرزي:139). والجدير بالملاحظة، ههنا، أنَّ هذه المدرسة، هي غير ما سيعرف لاحقاً، في بيروت، بإسم «المدرسة الرُّشديَّة»، التي ستستحدثها الدَّولة العثمانيَّة، سنة 1845، ضمن سلسلة «المدارس الرُّشديَّة» ، في عهد السُّلطان عبد المجيد الثَّاني؛ بهدف تكوين مؤسَّسة تعليميَّة عثمانيَّة تتبع النِّظام التَّعليميِّ الغربيِّ؛ بعد أن كان التَّعليم المتوسِّط يقتصر على «مكاتب السَّلاطين العظام» التي أسَّسها السُّلطان محمود الثَّاني.

تلقَّى التِّلميذ «أحمد عبَّاس سُليمان» العِلْمَ في هذه المدرسة على أيدي مُبَرِّزين مِن الأساتذة في ذلك الزَّمن، منهم الشَّيخ إبراهيم الأحدب؛ ويبدو أنَّ نظام المدرسة كان يعمد إلى تشجيع المتفوِّقين من التَّلاميذ، لِمتابعة دراستهم بإشراف مباشر، من شخصيَّات أدبيَّة وثقافيَّة، على تعليمهم وتثقيفهم. وهكذا، تسنَّى للتِّلميذ «أحمد عبَّاس سٌليمان»، وبعد ثلاث سنواتٍ من بدء دراسته في المدرسة «الراشِديَّة» هذه، أن يحظى سنة 1866، وقد بلغ حينها الثَّالثة عشرة من العمر، بتوصيَّة من المربِّي الكبير، في تلك المرحلة، «علاَّمة عصره»، الشَّيخ عبد الله خالد، ليكون من مريدي الشَّاعر عمر الأنسي، فيثقف الأدب والمعرفة مباشرة منه وبرفقته.

يعتبر الشَّاعر عمر بن محمَّد بن ديب الأنسي (1237 -1293 هـ) (1821 -1876م)، من الشخصيَّات الإداريَّة والأدبيَّة والثقافيَّة الفذَّة في زمانه؛ إذ كان مطبوعاً على الشعر، فكان أكثر اشتغاله به، على أنه تقلّب في مناصب عديدة؛ منها أنه تقلَّد «نظارة النٌّفوس» (الأحوال الشَّخصيَّة) في جبل لبنان سنة ١٢٦٤ﻫ، بأمر قائمقام جبل لبنان، الأمير الدُّرزيِّ، أمين أرسلان؛ فأقام في بلدة «الشُّويفات» نحو أربع سنوات (زيدان: 346). ويبدو أنَّ صداقة قويَّة نشأت بين الشَّاعر عمر الأنسي، والأمير محمَّد، ابن الأمير أمين أرسلان؛ خاصَّة بعد أن ألغي نظام القائمقاميَّة، وسكن الأمير الدُّرزيُّ، محمَّد في بيروت؛ متفرِّغاً للقراءة والتَّأليف، وصار رئيساً للجمعيَّة العلميَّة السُّوريَّة (أرسلان: 41)؛ وكان الأمير محمَّد، هذا، مثقَّفاً واسع الاطلاع، يهوى الشِّعر والرَّسم ويتقن عدداً من اللُّغات الأجنبيَّة.

تشاء الصُّدف أن يزور الأمير الدُّرزي المثقَّف، صديقه الشاعر السنِّي البيروتي سنة 1867، وأن يلتقي هناك بالتَّلميذ «أحمد عبَّاس سليمان»، الذي يشرف الشَّاعر الأنسي على تعميق معارفه وتوسعة آفاق ثقافته. ويبدو أنَّ الأميرَ صار يُباحث الفتى «أحمد عبَّاس سُليمان» في بعض مسائل النحو، وكان الفتى يُحسن الجواب على كلِّ ما كان يُسائلهُ فيهِ الأمير المُثَقَّفُ من موضوعات؛ فما كان من الأمير محمَّد أرسلان، وهو الدُّرزيُّ الألمعيُّ، إلاَّ أن أُعْجِبَ بما خَبِرَهُ شخصيَّة الفتي «أحمد عبَّاس سُليمان» ورآه مِن اندفاعه نحو المعرفة؛ فاقترحَ الأميرُ عليهِ أنْ يَسْتَكْمِلَ تعليمه، وقد بلغَ الرَّابعة عشرة من سني العُمر، في مِصر؛ وتحديداً بالالتحاق هناكَ طالباً في «الجامع الأزهر». ويصادفُ، أنَّ زميلاً للفتى «أحمد عبَّاس سليمان»، اسمه «خضر خالد»، تمكَّن آنذاكَ مِن الالتحاق بـ «الأزهر» لمتابعة دراسته؛ الأمر الذي ضاعف من حماس الفتى «أحمد عبَّاس» للمثابرة في السَّعي إلى تحقيق سَفَرهِ إلى تلك المؤسَّسة المعرفيَّة العريقة.

يبدو أنَّ المسؤوليَّات العائليَّة التي كانت مُلقاة على عاتقِ، «عبَّاس سُلَيمان»، والِد الفتى «أحمَد»، خاصَّة وأنَّه كان المعيل الوحيد لعائلته، كانت تقفُ عائقاً كبيراً أمامَ تحقيقِ أيَّةَ إمكانيَّةٍ لِسفَرِ ابنهِ «أحمد» على نفقةِ والده وحدها؛ خاصَّة وأنَّ الوالد كثيراً ما كان يَسْتعينُ بابنِهِ، هذا، لِيَعينه في أمورِ عَمَلِهِ الذي تعتاشُ العائلةُ مِنْهُ. ويبدو، كذلكَ، أنَّ خبر الفَتى «أحمد»، ورغبتَهُ الشَّديدة في متابعة تحصيلِ علومِهِ في مِصر، وصلت، عبر الشَّاعر عُمر الأُنسي، إلى الحاج حُسَيْن بَيْهُم (1833-1881)، وكان من كرام ناس بيروت ومِن أدبائها وأثريائها؛ أسَّس في بيروت مكتبة كبيرة، ضمَّت عديداً من المخطوطات النَّادرة والمؤلَّفات القَيِّمة؛ وأنشأ «الجمعيَّة العلميَّة السُّوريَّة»، وكانت مهمة هذه الجمعيَّة العمل على جَمْعِ الشَّمل وإعادة الوُدِّ المفقود بين مختلف الطَّوائف؛ ولقد تولى، الحاج «حسين بيهم»، رئاستها، إثر رئاسة زميله الأمير «محمد بن أمين أرسلان» لها. ولقد أنشأ الحاج «حسين بيهم»، لهذه الجمعيَّة، صحيفة تنطق بإسمها؛ وكان، فضلاً عن هذا كُلِّه، عضواً في «مجلس إيالة صيدا»، وانتُخب، أوائل عهد السُّلطان عبد الحميد الثَّاني، عضواً في «مجلس المبعوثان»؛ فصار نائباً عن مدينة بيروت.

عَيَّنَ الحاج «حسين بيهم»، للفتى الطَّموحِ، «أحمد عبَّاس سليمان»، منحةً مالِيَّةً شَهْرِيَّةً مِن رَيْعٍ أَو لعلَّهُ كان وقفاً، خَصَّه آل بيهم، لطلبة العِلم. وانتدب، الحاج «حسين بيهم»، تالياً، كلاَّ من الشَّاعر «عمر الأنسي»، ورفيقه الشَّيخ «عبد الرَّحمن الحوت»، لِتَليينِ مَوْقِفِ الوالد «عبَّاس سليمان» تجاه الموضوع، وإقناعِهِ بالموافقةِ على سَفَرِ ابْنِهِ إلى مِصر للدِّراسةِ في جامِعِها «الأزهر».

أَذِنَ «عبَّاس سليمان» لابنه الفتى «أحمد»، بالسَّفر إلى مصر، لمتابعة تحصيله العلميِّ فيها في «الجامع الأزهر»؛ وفَرَضَ هذا الوالدُ على نفسه، كذلك، مبلغاً من المالِ، أضافه إلى ما رتَّبه الحاج حسين بيهم، لمساعدة الفتى؛ وكان أن ولَّى «أحمد عبَّاس سليمان»، وهو في الخامِسَةِ عَشَرَةَ مِن سِنِيِّ عُمْرِهِ، وَجْهَهُ شَطرَ مُؤسَّسةِ «الجامع الأزهر» العريقةِ في مصر، سنة 1285هـ الموافقة لِسَنَةِ 1868 للميلاد.

وإلى اللِّقاء مع الحلقة الثَّالثة: الدِّراسةُ في الأزهر



المراجع:

{ حورية محمّد حمو، حركة النقد المسرحي في سورية 1967 - 1988، دار المحرر الأدبي للنشر والتوزيع والترجمة، 1998.

{ فيليب دي طرازي، تاريخ الصحافة العربية - الجزء الثاني، وكالة الصحافة العربية، 2020.

{ جرجي زيدان، تراجم مشاهير الشرق - الجزء الثاني، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.

------------------

 رئيس المركز الثقافي الإسلامي