بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 أيلول 2023 12:00ص السعي وراء الوظيفة!

حجم الخط
درج حملة الشهادات عندنا على البحث عن وظيفة ما مستجدينها مسترخصين لها كل شيء لنيلها منتظرين أسابيع بل سنوات...
اقبلوا عليها إقبالا جارفا، كأنما لم يعد هناك سواها، وكأنما لا يتعلّم الإنسان إلّا طمعا بها. ولا غرو في أن الحكومات النزيهة لا يسعها أن تنصب كرسيا لكل من منحته شهاداتها. لو أصبح كل المتعلّمين موظفين فأين الأمة التي يكونون عليها موظفين؟
حصلت كارثة المودعين في المصارف، فتبخّرت مدخرات الموظفين أولا على يد... كبار الموظفين! فأين غدا الزرّاع والصنّاع الذين سعوا إلى الوظيفة مهما بلغت صغارتها وحقارة راتبها؟ وعلامَ بعض أصحاب الأراضي والأملاك لا يعمدون إلى توسيع نطاق منتوجاتهم وصناعاتهم، ويرفعون من شأنها ماليا واقتصاديا وسياسيا؟ هكذا تقلّص النتاج المحلي واعتاد الناس الراحة لا يتحمّلون حر الصيف وقرّ الشتاء.
الغوا الألقاب والرشاوى تلغوا التهالك على الوظائف!...والواقع أنه لا ينحط إنسان عن الآخر في حالة من الحالات، انحطاط الحيوان عن الإنسان، لأن الإنسان، ولو كان قليل الفطنة أو وضيع المهنة، يبقى إنسانا له غايته السامية ويبقى نفسا روحية أبدية معدّة لسعادة أو كرامة دائمة...
جرفنا تيار غربي عزّز فينا حب الظهور والتبجّح، فنبذنا الأعمال التي تحتاج إلى أناس يشمّرون عن سواعد مفتولة عزما وقوة وإن أتت هذه الأعمال بالربح الأوفر. وما زال معظمنا يسعى لتمضية أكبر وقت في تنميق الذات: فتيات يسترجلن وشباب يتخنثون وكهول يتصابون. وما زلنا، لضعف نفوسنا، نكبّر ذاك الذي يشغل هذه الوظيفة أو ذاك المنصب، من غير أن نقيم وزنا لعامل يكدُّ النهار وشطرا من الليل أو لفلاح يجدُّ طوال نهاره تحت أشعة الشمس. نتهالك على الوظائف الباهرة والألقاب الفارغة والناس في بلاد الناس ينبغون ويخترعون في جو ليس كجوّنا صفاء وإلهاما، ويزرعون ويحصدون في أراضٍ ليست كأرضنا خصبا وطيبا. وهناك، طبعا، ما يقتضي حنكة وافرة وأمانة عظيمة نظير الوظيفة التي تسهر على أمن الدولة وحفظها...
يؤسسون الشركات ويستخرجون حتى في بلادنا كنوزها الدفينة، ونحن ساعون وراء المناصب والمراكز، يزداد عشقنا وتهافتنا عليها، ما يجعل الأمة اتكالية ضعيفة مستعبدة اقتصاديا وسياسيا. ما زال معظم كبار موظفينا كالحجارة في جمادها، بل الحجارة أفضل منهم لأنها ترصف أبنية تقينا عاديات الزمن، وهم عالة على الزمن.

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه