بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 كانون الأول 2023 12:00ص الضياع الفكري!

حجم الخط
في هذا العصر الذي استجلى فيه الكائن البشري كثيرا من أسرار المادة، وغاص باحثا عن حقائق الوجود، تفاقم الضياع الفكري. وهذه الظاهرة لا تختلف عن الضياع النفسي الذي يعانيه كثير من الكتّاب المعاصرين الغربيين والشرقيين، أمثال جان بول سارتر ونيتشه وكامو، وذلك من جرّاء تحسّسهم المشكلات الوجودية التي تحيط بهم، كمشكلة الموت والحرية، أو الغربة والفراغ أو الشعور باللامعنى وباللامعقولية والعدم.
والضياع الفكري ناجم عن عدم توصل الإنسان إلى الحقيقة المطلقة. فمثلا المؤسسات العقائدية ما فتئت في حرب شعواء في ما بينها، وكل مؤسسة ترمي الأخرى بالضلال والزيغ والبُعد عن الحق.
وحقائق ما وراء الطبيعة ما زالت مستغلقة على الإنسان، والمذاهب الفلسفية لم تقدّم لنا حتى الآن الحقيقة المطلقة، وكل مذهب يناقض المذهب الآخر وينفيه.
فالواقعية تنفي المثالية، والمادية على نقيض الروحية، والوجودية في عراك مع الماركسية، والقائلون بالوحدة ينفون الكثرة، والذاتية ترفض الموضوعية.
ثم إن الإنسان ما فتئ تائها في دروب النسبية، ومسألة نسبية القيم الأخلاقية أضحى أنصارها كثرا.
هذا سارتر، زعيم الوجودية الملحدة يحدثنا في مسرحيته «الذباب» على لسان «المربي» وهو يخاطب «اورست» بقوله: «ألم أجعلك منذ حداثتك تقرأ جميع الكتب لكي تألف اختلاف الآراء الإنسانية، واجعلك تطوف مئة مقاطعة، مقدّما لك الدليل في كل مناسبة على مدى ما في أخلاق الناس من تغيّر؟». والكاتب المصري مصطفى محمود يقول أيضا مقالة سارتر في كتابه «ابليس» وهي أن القيم الأخلاقية نسبية وغير ثابتة.
أما المعرفة العلمية فلم تهدنا الى الحقيقة المطلقة بعد.
لا شك في أن العقول المدبرة للأزمات والحروب تنطلق من «ديانات» مستحدثة هي اقتصادية إعلامية تكنولوجية إلغائية، ولكن العلم بالذات ما زال يستقرئ أجزاء المادة باحثا عن الحقائق الجزئية الخاصة. وليس في مقدورنا أن نتكهن هل في وسعه أن يزيح الستار عن جميع طلاسم الكون، وخصوصا أن بعضها من صنع البشر، حتى إن قانون السببية لم تعد له تلك القيمة التي كانت سادت زمنا طويلا. فهذا القانون لا يمكن سريانه على أعمال الأجزاء اللامتناهية الصغر...
الضياع الفكري، إن هو إلّا نتيجة فقدان الضمير والبُعد عن شاهقات القيم الروحية!

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه