بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 أيلول 2023 12:00ص الفكرُ الفنّي الرحباني أم الفنّ الفكري؟

حجم الخط
ما جعلَ المسرح الغنائي الرحباني بهذا التأثير والفعاليّة هو البناء على قواعد فكرية. أساساً عاصي ومنصور جاءا إلى الفنون عامةً من الفكر - الفكر الشِّعري والموسيقي والإنساني. في كل مسرحية، منذ «البعلبكية»، سألَ عاصي وسألَ منصور عن الفكر الذي ينبغي تقديمُه للناس مع الأغاني والألحان وقصص المسرحيات وصوت فيروز. لم يُريدا لصوت فيروز أن يغَنّي فقط، بل أن يحمل فكراً ويطلقه في الأغنية يمكن تسميتُه فكراً غنائياً أو غناء فكرياً. بعض الأصوات الغنائية تنشغل بالأغاني، فهذه أغنية شعبية تنتشر وتصنع شهرة، وتلك أغنية رومانسية أو كلاسيكية أو بلدية تزيد الشهرة. الشهرة بالنسبة إلى الأخوين رحباني كان ترتيبُها تحصيلَ حاصلٍ بعد الأهداف، والأهداف هي: ماذا نقدّم من فكر في تلك الأغاني والمسرحيات لتكون التجربة صاحبة مضمون يتعلّق بالعقل بجانب العاطفة. وعقل الجمهور هو المُخاطَب، لا الإحساس فقط، ولا اللهو فقط، ولا الإستمتاع فقط، العقل أوّلاً مع الإحساس واللهو والإستمتاع بحيث يخرُج الجمهور من المسرحية وقد امتلأ كيانه بما رأى وسمع فيها. والفكر عند الرحباني ليس تثبيت نظريات فنية أو اجتماعية أو أدبية أو نفسية، ولا هو مُناطَحة مع مدارس واقعية وتجريدية وتكعيبية في الفنون، وإنما طَرْح الأفكار ومعالجتها، الأفكار الكبيرة والصغيرة، بلُغة شعبية، وبموازين جمالية يلتقطُها المُشاهد بذكائه وأحياناً بفطرته من دون تمحيص ولا كَدٍّ عويص. وهذا ما كان يميّز المسرح الرحباني عن المسرح «الإختباري» الذي كان مشتَعلاً بين المثقفين في الستينيّات والسبعينيات ويدافعون عنه كأنه يطرح تُحَفاً فنية لا تُضاهى على نصوص مترجَمة لكبار مسرحيي العالم. لم يظهر على الأخَوين رحباني أنهما كانا ينافسان المسرح الإختباري في بيروت، مع أن مسرحيّين روّاداً في ذلك المسرح قالوا إنهم كانوا يحاولون الصمود أمام اكتساح الرحباني المكان والزمان في تلك الحقبة، وركّزوا على أن يستقطبوا إلى ترجمة المسرحيات العالمية للمحكية اللبنانية، أساطينَ الشّعر والنقد والأدب ذوي الأسماء اللبنانية الكبيرة، وكذلك كان المُخرجون متعلّمين وأساتذة وأبناء المهنة أكاديمياً، وكذلك كان الممثلون. وبهذه الطريقة فرَض المسرحيون الإختباريون وجودهم وبات لهم جمهور ينتظرهم. فكان المسرح الرحباني «عدوّاً» طبيعياً لهم، خصماً على الأقل، وكثيراً ما كانوا يؤخذون بما في الأسلوب الرحباني المُختَصر بالبساطة على عمق، وبسلاسة العبارة الحوارية، وبالمعاني الفكرية التي لا تُطلَق في عِظاتٍ يمجّها الجمهور، وإنما بمفردات تصيب المعنى في كَبِدِه، وتجلبه للجمهور، وأحياناً كثيرة عبر الملاحظة الذكية والموقف المُحكَم أو النكتة والموقف الضاحك، في حين كان الإختباريّون يعالجون هموماً ذاتية أو «أجنبية» يُعطونها صبغة محلية، ويُسقِطون عليها الحال اللبنانية، فظلّوا، عند نقطة معيّنة لم يتجاوزوها، وأغلب الظن لأنهم لم يُحسنوا إلباسَ المشكلات الاجتماعية والسياسية المحلية ذاك اللباس الغربي الذي مهما تأنسنَ وكان عاماً وانفتاحياً على المجتمعات المتنوّعة، فإنه اشتُهر في بلد المنشأ وشاع في العالم لأنه ملتصق بالمجتمع وبالإنسان وأزماته وأحلامه وواقعه المُرّ في بلد المَنشَأ...
عاصي ومنصور الرحباني كانا من بلد المنشَأ، ولهما جمهور المنشَأ، ونَصْبَ أعيُنهِما فنون المنشَأ التي عبْرَها كانا يحاولان اختراق العالَم، وكل تلك الأصداء الإيجابية التي تكوكبَت حول الرحباني وفيروز في العالَم العربي الباحث عن هويات فنية حقيقيةِ الإنتماءِ للإبداع، سببُها أن ما نراه ونسمعه ونفكّر به في النتاج الرحباني، انطلقَ وصَبّ في بلد المنشَأ. وحصلَ على شهاداته من الزمن ككُلّ! فعاصي كان يقول «الفن إبنُ الوعي» والوعيُ هنا بالمَعنَيَيْن الأول هو المعرفة والعلْم والإدراك، والثاني عدم استخدام عقاقير تُغَيّب التفكير. ومنصور كان يقول «العقل الكبير يَزرعُ قيَماً كبيرة».
الأخَوان رحباني وصوت فيروز بذلك، أبناء فكر وفنّ. ليسوا أبناء فنّ فحَسب وإلّا كانت أعمالُهم مهما غاصت في الجماليات ستبقى فنيةً لنُخبَةٍ تهوَى هذا الإطار. وليسوا أبناء فكر فحَسب وإلّا كانت أعمالُهم مهما توغّلت بعيداً ستبقى بؤرة تحليل يُشَغّل التفكير ويَشْغلُهُ بالتنظير ولو مع معاناة ما. كانوا أبناء فكر وفن لجعل اللعبة الفكرية طريّة بالفن، وجعْل اللعبة الفنية صلبةً بالفكر. المعادلة صعبة وخطِرة وتتطلّب مهنية وطواعية أكبر من المعهود والمعروف والمألوف. أمّا كيفية تقديم الفكر والفن فهنا المحَكّ الذي فهمَه عاصي ومنصور مزيجاً ينبغي التدقيق في أسلوب تنفيذه.
والدخول إلى فكر المسرح الغنائي الرحباني، من هذا الباب، سهل وفي متناوَل الجميع. فالفكر المُقاوِم تجلّى عند الأخوين في عدد من المسرحيات التي دعَت إلى التحرر والعدالة ومواجهة الظلم والعدوان من «عودة العسكر» إلى «جبال الصوّان» إلى «أيام فخر الدين» إلى «بترا» وغيرها. فكر وطني شفاف وعميق ومُجَرّب ويقدّم خبرات شعوب مع قضية الحرية. فكر المقاوَمة تجسّد حيّاً تماماً في تلك المسرحيات. والخيانة للوطن التي مرّرها الأخَوان في مسرحهما عبر شخصيّات معيّنة، هي الدرس الإنساني الذي يُستفاد منه في منعِ تحوير القيَم البشرية العليا وتخريب المبادئ السامية لأي سبب كان - الوطنية تاج - والخيانة عار. وهذا الفكر النوراني عمل عاصي ومنصور عليه، وسكَباه في مسرحهما صريحاً وكاملاً، في مشهديات فنية وحوارات تناقش وتستخلص وتطرح نتائجها، فتصل الأفكار إلى الجمهور بلا قفازات الخوف من تفسيرات «محليّة» ضيّقة تحاول أن تتقَنّع وتمَوِّه المسائل. كان لعاصي ومنصور الجرأة على قول ما يريدان في قضية الحرية، علناً لا بالتمويه ولا بالمناورة، وعندهما الدم الوطني لا يتحوّل ماء.
من فكر مقاوَمة الإحتلال والظلم إلى فكر الثبات الإنساني على هدف سامٍ والذي لا بد أن يتحقق. لعبَت «المحطة» على هذا الموضوع، و«المرأة الغريبة» التي تطلّعت إلى حلم يستحيل الوصول إليه، وصلَتْ، مع كل تلك الضوضاء التي اندلَعَت حولها وفي مجتمعها. وجاء القطار الذي وعدَت به الناس، وسافر الجميع إلّا هي بعدما نفدت التذاكر. هنا يبرز الأمل كواحد من العوامل التي تُخرجُ الحياة من رتابتها فتتلوّن صورة الواقع، وتتضح قوة الإنسان على فعل الأعاجيب (ومجيء القطار في آخر المسرحية، عجيبة !). وليس مهماً حجم التعب، والمعاناة، والصبر، والسجال الداخلي بين الإنسان وذاته، بقدر أهميّة التشبّث بالأمل والسعي إلى تحقيقه. هكذا تصرّف الفكر الرحباني، ونقَل إلينا المواقف في حكاية «المحطة» بواسطة شخصيّات اختارها من المجتمع لتصل بسهولة واقتناع. وفكرة الطموح البشري وقدرة الإنسان على تحقيقه بالإرادة والذكاء، تكاد لا تخلو أمّة على وجه الأرض من حِكَم عنها، تقليدية أحياناً، وأحياناً علْمية، وفي المرويات الشعبية لدى كل المجتمعات تشديد على الأمل، الأمل بالعمل، الأمل بالصحة، الأمل بتوَقّف الأوجاع الخاصة والعامة، والأمل بتحسّن أوضاع الحياة وظروفها، والأمل بالانعتاق من القيود المادية والمعنوية، وبدلاً مِنْ أن يتطرّق إليها الرحباني من خلال قصة تقليدية متخَمَة بالشعارات والكليشيهات، ذهَب إلى خيَاله الحكائي... وركّب القصة اللطيفة واللافتة والمحيّرة. والجمهور ما أن يخرج من الصالة حتى تتكرّس حيرته في ما شاهد في تفاصيل «المحطة»، فيبدأ عملية التفكير واستخلاص العِبَر.
«يعيش يعيش» هي مسرحية الفكر السياسي الذي شغل المجتمعات العربية سنوات عدّة في ما سُمّي مرحلة الإنقلابات العسكرية. خاض عاصي ومنصور في واقع لبنان والعرب الذي هو لا إستقرار في السياسة ولا الأمن ولا الوطن العادل عَبرَ الاعتراف على الخشبة، بأنه مجتمعنا. والانتقادات الحادة المبطّنة والعارية التي عبّرت عنها المسرحية تقول إن عاصي ومنصور مراقبان جديّان للحياة السياسية والعسكرية والاجتماعية في العالم العربي ويستطيعان التنبيه بالكلمة والنقد إلى ما يمكن أن يحدث من ترهُّل في كفاءات المجتمع من خلال الفوضى في السياسة. وهذا الفكر الرحباني يُكلّم كل فئات المجتمع، الأغنياء والفقراء ومَن بينهم صعوداً ونزولاً، ويصارحُهم بالحقائق جليّةً.
نأتي إلى فكرة الحاكم «الغاشي» على قولة لغة العامة: في «صحّ النوم» و«الشخص» و«هالة والملك». فكرٌ انتقادي ساخر يقدّم نماذج حكّام يسلّمون المقادير إلى حاشية خائفة ومرتهنة لطموحاتها الصغيرة. والرحباني يوصِل هؤلاء «الحكّام» إلى الصدمة عبر حدَثٍ ما بعدما يعرّيهم أمام الجمهور، ويُظهر حتى «تفاهاتهم» غير المتوقّعة التي يمارسونها من دون إعارة اعتبار لأي قيمة وطنية أو سياسية. مسرح غنائي، صحيح، لكنه مسرح الفضيحة المدوّية في شخصيّات يسوقها القدَر إلى القيادة إمّا بالوراثة أو بالقوّة، وفي النتيجة، الناس هم الخاسرون، والشعوب هي التي تتلقّى المصائر السوداء. هذا الفكر الرحباني المتعانق مع الفكر الشعبي الناهد إلى كرامته، يرسمه المسرح الرحباني ويزوّده بكل المُحَسّنات الفنية التي تُدخل الأفكار إلى الأذهان بواقعية على رمزية على مجاز مشهدي رائع.
ويُحكى عن السجون في لبنان والعالَم العربي، حيث المساجين بالمئات متهمون بقضايا لم يرتكبوها ويحاكَمون زوراً وبهتاناً. هذه «لولو» السويعاتيّة تخرج من السجن بعد خمس عشرة سنة... بريئة من التهمة التي ألبسوها إياها منفّذةً الحُكم الذي أصدروه ضدّها، فتهدّد بقتل أحدٍ من الذين ساهَموا في سَجنها، وتضرب الناس بعضهم ببعض. أية عدالة؟ أية قوانين؟ أية محاكمات؟ وما الذي يعيد لهذه اللولو حقها في الحياة التي توقّفت خمسة عشر عاماً؟ لم يجد عاصي ومنصور أفضل من هذه الرواية ليطرحا فكرة المظلومين الأبرياء الذين يُستَغَلّ ضعفهم الإجتماعي لزجّهم في السجون. ومجريات الرواية توصل الفكرة التي تقول إن البريء لا يرتكب جريمة ولا يؤذي أحداً ولو أُوذيَ بنصف عمره.
وفي المسرحيات الرحبانية مئات الأقوال تصلُح أن تكون في أبواب الحكمة الناصعة، وعشرات الحوارات الثنائية الملآنة بالأفكار عن الإنسان والحياة والحرية تصلح أن تكون في أبواب كشف الظلام والشرّ عن البشر. حوار الحرامي (أنطوان كرباج) والشحاذ (سامي مقصود) في «المحطة» واحد من أدقّ الحوارات وأعمقها عن خصائص مهنة كل واحد من الإثنين. حوار هالة (فيروز) مع الملك (نصري شمس الدين) في «هالة والملك» صناعةٌ رحبانية فائقة التعبير عن الواقع بجُمَل تهزّ الأركان. حوار الشخص (أنطوان كرباج) مع بياعة البندورة (فيروز) في نهاية «الشخص» مزيج من الهزء والجدّية لا يُصَدَّق عن حال البلد والمسؤولين. أحد المُهَرّبين في «يعيش يعيش» يصف المخاطر التي في طريقهم «مَرَقنا فوق المغاوِر/ والقوافل رفّ مسافر/ على طرقات ما هيّي طرقات/ عالية ومسنونة  وبالخطر مسكونة/ بتقولي حَرِيف الهوّة.. والهُوّة تحت.. ونهر كبير يهدر تحت/ الحجر لولا وقَع كان انوَجَع/». وفي حوار قرنفل (فيروز) مع الملك (أنطوان كرباج) الذي ينام طوال الشهر وحين يستفيق لا يوقّع إلّا ثلاث معاملات فقط، تطلّ السخرية والمَهانة والمزاجية حين يكلّفها الملك أن توقّع هي من الآن فصاعداً المعاملات للناس كما تريد «إيدِك أرشَق من إيدي». إنه غيض من فيوض كثيرة تتحرّك في  المسرح الرحباني. باختصار: كل نتاجٍ رحباني هو دعوة للعقل إلى وليمة. وصوت فيروز في المسرح لا يخاطِبُ إحساسك وعاطفتك فقط كعادته، وإنما يخاطِبُ الفكر فيكَ أكان فكراً واقعياً أو تجريدياً أو غير ذلك. صوتٌ يتجه فوراً من خلال المواقف المسرحية، إلى رأسك متجاوزاً كل معوقات قد تقف في طريقه.
وفي «جبال الصوّان» هناك مونولوج ما ورائي، غَيبي، أسطوري، تقوله إحدى العجائز عن تاريخ عائلة «غربة» المنذورة للبطولة والشهادة، بصوت كأنه طالع من كهف الزمن في عُمقه وإيحاءاته ورهبته:
- أنا حَنّة الساحلانية
من شي خمسمية سنة...
أهلي إِجو لْهون وسكنوا هالأرض
وحاربوا مع أهل مدلج...
جدو الأوّلاني مات ع البوّابة
وبيّو لمدلج مات ع البوّابة
ومدلج ياللي أنا ربّيتو
كان شَعرو مْخَوتِم
وينام ع إيدي
لمّا مات
تِكي راسو ع البوّابة...
وهل هناك أطرَف وأظرَف من الفكر الفني الماثل فنّاً فكرياً أمامنا في حوار عبَثيّ غريب وربما مجنون في منطِقِهِ وفانتازيّ المواصفات، من مسرحية «ناطورة المفاتيح» التي يهاجر فيها كل أهل البلد هرباً من ظلم الملك، فلا تبقى في البلد غير زاد الخير (فيروز)... لتصبح هي وحدها.. الرعيّة!
هنا الملك (أنطوان كرباج) يخاطب رعيّته.. فيروز:
- زاد الخير.. كيف حال الرّعيّة اليوم؟
- ضجرانة..
- اطلعي.. اطلعي تا نتسلّى!
-لأ، إنتَ نزال.. هون الشوك غطى الشوارع.. لازمنا حدا يدَعّس.. نزال...
- الملك ما بينزل..
- والشعب مش رح يطلع
- الهيئة عايشة عذوقك.. بدي أعرف مين الملك أنا والّا إنتي؟
-المحابيس اللي فلّتّتُن هربوا..
-عارف عارف ما ضل في غير وجّي ووجّك..
- يمكن صار لازم واحد منّا يفل!
- يا عمي هِنّي فلّوا حتى يسقطوني لكن أنا اجتزت الأزمة وبقيت..
- إنت بقيت لأني أنا بقيت.. لكن هلّق عم قول لحالي.. إذا رح ضلّ إنتَ رح تضلّ.. وبيكونوا اللي راحوا بلا تمَن.. منشان هيك رح إلبُس فقري وتعاستي، وتوّج حالي بالأعشاب البرية... وإتمشّى.. تحت زينة الشجر وقبّة السما.. وكل ما ببعُد مسافة، عرشك بيغرق شبر حتى توصل إنتَ للأرض وأنا للحرية.
وفي مسرحية «بترا» هذا الحوار الفكري العسكري بين الملكة (فيروز) والقائد العسكري ريبال (نصري شمس الدين):
-ريبال شو الأخبار؟
- خيل عم تسحب وراها الويل
وبرق خاطف من سنابك خيل
فرسان من هالمَيل
وفرسان من هالمَيل
جرّحوا الليل وجرّحوا بعضن 
وانخلَط دمّن بدم الليل 
وانحَفْرت وجوهن بوجّ الليل..
- ورجالنا؟
- قتلى عم يعَضُّوا التراب
كانوا شباب
مبارح أنا ودّعتُن وكانوا شباب
عم يرقصوا ..ويهيّصوا
كيف بدقيقة الناس بيخلَصوا..
-هيدي الحرب!
- هِنّي كتار وجيشهن زايد عدَدْ..
-هِنّي كتار يكون، والوعد انوعَدْ
ريبال كون المجد، بتكون العدَدْ.
بناء عليه: الفكر، في المسرح، يبدأ من الصناعة المسرحية بجميع وجوهها ومتطلّباتها كقصة مشوّقة، وسيناريو مدروس، وحوارات مضبوطة في سياق من التكامل، وشخصيّات مشغولة بعناية. وفي تناول القضايا الإجتماعية من زوايا تحليلية تتجاوز العلوم الأكاديمية الجدّية إلى خلاصات الأفكار التي تشبه الخميرة المطبوخ منها الخبز. وفي الشأن السياسي الذي يميط اللثامَ عن نواقص وفسادِ نُظُم ضربها العفن، بواسطة التلميح الذي يغازل الوجدان لا التصريح الذي يتوسّل التصفيق. وفي الشأن الوطني بمقاربة عناوين مصيرية عليا وتفجيرها من دون اتّباع «محاضرات» مُمِلّة، بخصوصها. وفي الشأن الإنساني الذي يدخل النفْس ويستنطقها بالرؤيا. والبحث عن هذه العناصر في مسرح الأخَوَين يبرهنُ عن امتلاك قدرات لديهما على توظيف الفكر في الفنون على وجهٍ استشرافي يتعامل بنُبلٍ مع القضايا المهمة، فلا يمتطيها ولا يتاجر بها ولا يستثمر. ويتقبلها الجمهور ولو كانت قاسية عليه أحياناً. فالصدق في المواجهة عبر الكلمة النبيلة والموسيقى الساحرة والغناء المشفوع بالخصوبة هو السلوك الأرقى لإقناع المتفَرّج بأي فكرة نريد، وأي رسائل، وأي محتوى.
والفكر المسرحي الرحباني المُطّلِع على تجارب مسرحية عالمية مشهود لها بالجمال والرقي، يستطيع أن يتصرّف إذا أراد الإستفادة منها بالاقتباس الذي لم يحصل، أو بالاستلهام لكنْ المهم أنه لديه القدرة المضيئة على ترويض الفكرة «الغربية» السّمات وتبديلها بحيث تُسبَغُ عليها روح محلية. وكل ما يمكن أن يقرأه الأخَوان أو يعرفاه من أفكار، يحوّلانه إذا رغِبا إلى لبنانيّ بسهولةِ العارف مواطن القوة والضعف في مجتمعه. هي إذن مهمّة ممتعة في التقاء فكرٍ وفنّ، محلّي على امتداد عالمي يتم فيه تبادل المعطيات على الخشبة ربطاً بجمهور مُدرِك يتلقّف الأعمال الفنية وعينُه على أفكارها وفنونها ومساحاتها النقدية.
وارتباط الفن بالفكر قديمٌ ويتجدّد باستمرار مع فنانين يتجاوَزون محيطَهم وأنفسَهم وحتى أحلامهم. الفنّ عندهم فعلٌ ينبثقُ من أفكار وطروحات وميول وأهواء وتركيبة ذهنية حرّة الخيال وينمّ عن حدسٍ ورغبات، لكنه يكتسب خصوصيته بالطريقة التي نختبر فيها العالم، وكثرٌ يعتبرون الطريقة امتدادا طبيعياً لشخصيتهم. إنه التواصل بمفاهيم حميمة جدًا لا يمكن للكتابة وحدها التعبير عنها بإخلاص وكفاية.  ولأنّ الكلمات وحدها قد لا تكفي، فلا بدّ من ابتكار وسيلة أخرى تحمل نوايانا، إرهاصاتنا، آراءنا ونظرتنا إلى فعل الأيام ومعطياتها فينا، وتتجلى هذه الوسيلة في الفنّ كسِكّةَ تواصل لإعلانِ الخطاب الإبداعي. يكمن العصَب الفني البنّاء إذَن في كيفية استخدامنا تلك الوسيلة، كشفاً للمحتوى الفكري. والفكر والفن عند الرحباني يستدعي دراسة كاملة، ولا يمكن تقديم الأدلّة والبراهين عليها هنا إلّا بنماذج (فقط) من المسرحيات، كونها زاخرة ومتعددة الأشكال والألوان، وبالفعل لا تنضب.
وخِتام المعادلة: ينبغي ألّا يغْلبَ الفكرُ الفنَّ إذا كان صاحبُهُ فناناً، وألّا يغْلبَ الفنُّ الفكرَ إذا كان صاحبُهُ مفكّراً. والإختلاط بينهما له مقاييس واعتبارات تُحدَّدُ بميزان الذهب.

(من كتاب سيصدر منتصف أيلول الجاري بعنوان «أسرار الكُنوز بين الرحباني وفيروز»)