25 كانون الثاني 2024 12:00ص الفنون ليست جنوناً!

حجم الخط
من العجيب الغريب، أن أكثر المتطفّلين على الفن في هذه الأيام، يحاولون تقليد أم كلثوم وعبد الوهاب وسواهما، ما يقتل ملكة الابتكار، ويقضي على موهبة الإبداع. ومن واجب القائمين على إدارة شاشاتنا الصغيرة والإذاعات، أن يحولوا دون هذه البادرة التي استفحل أمرها، وأن يشجعوا المغنين والملحنين والكتّاب على الاستنباط، وأن يفهّموهم أن الفن الشرقي، بحر يزخر بأروع الألحان وأبدع النغمات، فليغرفوا منه ما يلائم احساساتنا، ويوقظ مشاعرنا، فقد كفانا ما تحمّلناه من سخف أولئك الذين يظنون أن الفن الحقيقي كله، كامن في ذلك المزيج الرخيص من الأنغام المتنافرة المتغايرة، التي يسمّونها «فرانكو آراب» أو «راب شرقي»، والتي تتبرأ منها الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية معا، لأنها لا تمتّ إلى الاثنتين بسبب فني، ولا ترتبط بهما بصلة من صلات الإيقاع الصادق واللحون المنبثقة من صميم الإحساس الإنساني المرهف.
إن للموسيقى الشرقية الحقّة، طابعا تستسيغه أذواقنا، وترتاح إليه أفئدتنا. ولهذا، يصغي بعض منا، إلى ما تبثّه بعض المحطات أو البرامج التركية أو الخليجية، من النغمات المطربة، والمقطوعات الطافحة بالرقّة والعذوبة، فما أحرانا أن نقبل على تراثنا الموسيقي العربي، فنعمل لصقله وتحسينه، إذا وجدنا فيه ما يستدعي الصقل والتحسين، لا أن نهمل هذا التراث، ونستعيض منه بحثالات من ألحان يعوزها التناسق، وينقصها الانسجام والحلاوة. وحجّتنا في ذلك، أنها ألحان جديدة، وأننا في عصر يتطلب الجدّة، والتحرر من ربقة الماضي.
لا نعني هنا تمسّكنا بكل ما هو قديم، ولكننا نربأ بأبنائنا، أن يعرضوا على شاشاتنا وإذاعاتنا، عن القديم الجميل، ليتعلقوا بأذيال الجديد القبيح. في الموسيقى الغربية روائع فنية ينبغي ألا نسطو عليها كما فعل أحيانا بعض كبار الماضي القريب في بعض نتاجهم، وأن نشوّه معالمها بالتحوير والتغيير والاقتباس الزري. ومن شاء أن يجدّد ويبدع، فإن مجال التجديد والإبداع رحب في عالمنا الشرقي الوادع، الذي ألهم نخبة من أعاظم شعراء الغرب وكتابه ومتفننيه، قطعا خالدة خلود الأبد.
ثمة «ممثلون» هزليون، قد يصلحون لإثارة ضحك المستمعين أو المتفرجين، ولكنهم لا يصلحون لإدخال لذة التمتع بالفن الرفيع. ولا ندري الحكمة من إذاعة قول أو عرض حوار، يلقى بصوت أجشّ، ونبرات خشنة جافة، لا تهزّ قلبا، ولا تدغدغ عاطفة، ولا تحدث طربا ولا بهجة.
إن في الفن الشرقي قطعا جميلة جليلة، أهمها القصائد والتواشيح والأدوار وبعض الأغاني الشعبية، المملوءة بالوصف الصادق، والنغم البسيط الجذاب، فلتكثر محطاتنا وقنواتنا المتكاثرة والمتنافسة مرضيا، من بث هذه القطع، التي خلفها رهط من مشاهير الملحنين والكتّاب، لتترجم، بلا تكرار نراه في الوسائل الرسمية، عما تفيض به قلوبهم من نزعات، وعما يجيش في صدورهم من خلجات، وعما يتجاوب في مجتمعهم من أصداء وتطورات. ولتبثّنا أيضا منتخبات من الإبداعات المفعمة بعذوبة الصوت، ونفحة التجديد المستحب، لا التجديد المغاير لقواعد الذوق، والبعيد عن رحاب العاطفة، وآفاق الوحي والإلهام.

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه