بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 تموز 2023 12:00ص المير طارق ناصر الدين.. «رباعيّات الحكّام» لإضحاكِ لبنانَ على زُعَمائه!

المير طارق ناصر الدين المير طارق ناصر الدين
حجم الخط
علاقتُه بالله، وعلاقتُه بالشّعر، الوحيدتان اللتان لا يرضى الشاعر المير طارق ناصر الدين أن يناقشه فيهما أحد. الوحيدتان اللتان يعتبر ناصر الدين أنه لا يستطيع العيش بدونهما، ولا أن يجلس إلى نفسه معاتباً أو مؤنباً بدونهما، ولا أن يواجه الواقع بابتسامةٍ أقرب إلى وجوه الأطفال بدونهما. علاقتُه بالله تتخطى ما تقوله الأديان، وما تنص عليه الشرائع التي تتكلّم باسمه والفتاوى التي تصدر من عقول تجمّدت عند النص بالحرف فلا تملك ما يمكّنها من الابتكار ومواجهة الحياة بأسباب الحياة لا بأسباب الموت والتزمّت والانغلاق الفظيع على مفاهيم خرّبت الأزمنة. وعلاقتُه بالشّعر أوسع من أن يدرك هو مساحاتها فيستسلِم بين أياديها، كالراعي الذي يستسلِمُ لقطيعه بين وديان وسهول وهضاب، فتصير القصيدة أجملَ مما يتوقّع منها أن تكون. وحين يصل في جَمْع قصائده إلى تشكيل ديوان ينكشف هذا الأمير في الهوية بأنه خادمٌ مطيع للقصيدة لا أكثر، وأن ما يكتبه هو المعادل الروحي الذي يُبقيه حيّاً.
صدر للمير طارق ناصر الدين أخيراً ديوان «رباعيّات الحكّام». من عنوانه تعرفونه: قصائد هي رباعيات شِعرية بعنوان كبير هو النقمة. النقمة على المسؤولين في السياسة عن خراب البلد وتشرّد شعبه وغياب أمان العيش والصحة  والفرح. من أعماق ناصر الدين يصيحُ في وجوه الجميع «كلّن يعني كلّن» بيَد تحمل عصا غليظة، وبلسان بأربع وعشرين شفرة، وذهن متوقّد يلتقط النواقص الفاضحة والسلوكيات البغيضة والمآرب الشخصية والمواقف المُعلَنة والمُضمَرة لكبار الزعماء، فيجعلها مواضيع لرباعيّاته التي يهشّ بها على كل مَن تسلّم موقعاً في البلد ولم يكن على قدْرهِ في الاحترام وفاعلية الضمير.
يوم اشتعلَت ثورة ١٧ تشرين، حمل طارق ناصر الدين العلَم اللبناني ونزل إلى وسط بيروت ليُبدي إعجابه بالخارجين من طوائفهم وأحزابهم إلى أيادي الوطن. كان مقتنعاً بالقاعدة «كلّن يعني كلّن» ويعمل لها، وكثيرة هي الهتافات الحماسية التي قيلت في «الثورة» كان هو وراءها، كتابةً وانتشاراً، عاكسةً إيمانه بالأجيال الجديدة. حتى المنطق «اليومي» الذي كان يتحدث به في جميع الأماكن، في السرڤيس والدكان ومع ناطور البناية ومع أصدقاء المقهى كان مأخوذاً من منطق المتظاهرين الشباب ومن أفكارهم وتطلّعاتهم حتى خُيّل إليه وإلينا أننا أمام ولادة أُخرى لطارق ناصر الدين..
ويبدو أن تلك الولادة كانت هذا الديوان الشعري الجديد «رباعيات الحكام».. فقد انتهت «الثورة» وعاد ناصر الدين إلى بيته وحياته الخاصة والشّعر، وكل ما فعلَتْه الثورة هو إشعال نفسِه الثائرة أصلاً بعدما أتعبها الزمن، فوقعت السهام اللاحقة على السهام السابقة وتكسّرت على جسده النحيل. وربما خيبة «الثوار» هي الدافع الأخطر الذي أوحَى له بالثأر ممن ضيعوهم وجفّفوا عرَقهم ببرودة الدم والحس والمسؤولية الميتة والفشل!
في «رباعيات الحكام» حوالي ثمانين رباعية.. تتوزع على بحور العروض: الكامل وله حصة الأسد، فالبسيط، فالطويل، فالوافر، وهناك قصيدتان على تفعيلة «فَعِلُن». كل الرباعيات عرضها طارق ناصر الدين على رفاقه وأصدقائه لاستمزاج الرأي ومن خلالهم معرفة ماذا يمكن أن يكون رأي القرّاء، فالشاعر يدرك أن مَن شاور الناس شاركهُم في عقولهم غير أنه كان يسمع ويسمع ويسمع وينال مديحاً وإعجاباً، وحين يعترض واحدٌ على كلمة أو معنى كان طارق يجادل ويجادل ويجادل ويبقي الرباعية على ما هي عليه. كأنه حين يكتب يختار كلمات أبدية غير خاضعة للتبديل، وحين يختار المعنى يشعر أنه المعنى الأصلح، وحين تنتقده في رباعيةٍ ما، على مغزاها السياسي يتدخل هنا عقلُه السياسي الذي لا يتزحزح. لا هو يتأفف من أي ملاحظة.. لأن شِعرَه لن تُستَبدَلَ فيه لفظة ولو بعد سنة نقاش، ولا السامعون والمطلوب رأيهم يتبرّمون لأن آراءهم ذهبت في الهواء. اللهمّ إلّا بعض الملاحظات التي قد تأتي من محِبّ فيحبّها ويطبقها ولكن نادراً جداً. وفي سرير البيت إذ يعود طارق ويسترجع الحوار مع الجميع، يكون استرجاعَ جَوجَلةٍ لا استرجاع تغيير.
لكن.. هل هذا النوع من الشّعر، المباشر في أفكاره، والواضح تماماً في معانيه، والخطابي في مراميه يمكن أن يحمل مواصفات الشّعر الذي يكتبه عادة طارق ناصر الدين؟ طبعاً لا، وطبعاً نَعَم.. فناصر الدين شاعر متطلّب وقاسٍ جداً مع شاعريته، ولا يسمح لها بأن تهون أو تضعف أو تهتزّ، ونتاجه الذي يعرفه الجمهور مليء بالجميل والمدهش، لكنه مدمنٌ على ما نسمّيه «الإخوانيات»، أي قصائد المداعبة مع الأصدقاء التي تتميّز بالصدق والتركيب السلس والمزاح والسخرية من فجّ عميق (وغالباً ردّيات زَجَل ذكي خفيف الظلّ).. وأراد لديوان «رباعيات الحكام» أن يكون من نوع فصحى الكوميديا السوداء، مع إبدال المزاح بالجد، والسخرية المضحِكة بالسخرية التي تؤدي رسائل إنسانية ووطنية خالصة، وتثير الضحك في آن. كما أراد أن يجلد أهل السياسة بسَوط الموزون المُقفّى أمام الناس، من دون تمييز، فالكل عنده متهم بشكل أو آخر، والكل مسؤول عن حرمان اللبنانيين من أبسط شروط الحياة الكريمة.
على أن المثير في «الرباعيات» هو حرص ناصر الدين على أن يكون لكل بيت من أيِّ رباعيةٍ مكانه المحفوظ والمؤدي إلى هدف في ختامها. لا يشقعُ أبياتاً فوق أخرى من دون تحديدِ قصْد، من دون رؤية، من دون تكتيك يصيب المكمن المطلوب في النهاية. لذلك قد تجد تشابهاً بين عناوين «الرباعيات» ومضامينها لكنّ حُسْنَ صياغة طارق ناصر الدين في فصيح السّهل الممتنع، يجعلُها مختلفة عن الأُخريات، بمفردات معينة، وبأفكار مغايرة، وبجُمَل ينهض فيها التعبير ويرتدي زيّاً  مفاجئاً.
والمفاجئ أيضاً هو وفرة المواضيع: سياسة، رئاسة، وزارة، نيابة، مسؤولون، أحزاب، دين، فتاوى، علْم، أمراض، صحة، كورونا، فَلك، فقر، مصرف لبنان، وراثة سياسية، شعراء، نقّاد، صحافة... ووجدانيات شعبية.. وإلى آخر ما يضرب الشعب اللبناني من التعاسة اليومية. كأنما المير طارق طبّق نظرية الجاحظ في أن المعاني مطروحة في الطريق، أما الشأنُ فشأنُ الألفاظ. يأخذ من الطريق ويكتب. مَرّة من تصريح، مَرّة من خبر، مَرّة من قفشة، مَرّة من تعليق. مَرّة من حدَث. على الطريق اللبنانية معانٍ وأفكار كثيرة، ومَهَاوٍ جَمّة يرصدها المير ويقبض عليها ويعتني بالألفاظ التي يصوغها بها ولا يهدأ. كأنما قلبُهُ على رأس لسانه. أمّا علاقتُه بالقصيدة السياسية والاجتماعية فقديمة. وحتى نقدُ الحكام كان يمرّ من حين لآخر في دواوينه السبعة الماضية، لكنْ في «رباعيات الحكام» يعتمد المير النقدَ صَبّةً واحدة في أبواب مختلفة. وثمّةَ الهمّ الشّعري الذي لا يغيب مهما غاب. هَمّ يتنكّبه المير طارق في عزّ هجائه وسخريته ومواجهته رجالاً قطعوا حَبْل السرّة مع العامة وقلبوها على وجهها. ومع كل انتباهِهِ إلى مواضيعه الفجّة المؤلمة بالتعابير التي تحتاجها، هناك انتباهُه إلى أن يأتي بالتعبير الجميل. لا مجانية في كتابة الشعر عند المير طارق ناصر الدين في المطلق. وفي «الرباعيات» هو كذلك..
كان ديوان «رباعيّات الحكّام» في المطبعة عندما اتصلت أربع مؤسسات ونوادٍ ثقافية بالمير تطلب مواعيد لحفلات توقيع الديوان. هذه المؤسسات سبقت غيرها لِعلمها أن مواعيد التوقيع ستنهال على المير الشهير بعلاقات الصداقة على امتداد البلد، لسببين، الأوّل إدراك المعنيّين فيها أن جديد المير الشعري مختلِف هذه المرة في توجيه البوصلة إلى معاناة اللبنانيين مع حكامهم وكشف الخمير والفطير والكامخ بينهما، والثاني هو حاجة اللبنانيين أنفسهم إلى من يأخذ عنهم شَقلة في رفض الواقع ويتكلم باسمهم بشاعرية تحاول ترويض المعنى السياسي الجاف فتجعله سهل التناول والتداول بأبيات قليلة، لا إطالة فيها ولا ترنُّح ولا حشو، وبصدق وحرارة ونخوة تشبه الرجمّ بالحجارة!
هل احتاجت قصائد «الرباعيات» إلى جرأة، أو إلى توقُّع السوء يمكن أن يقع على المير نظراً لقسوة بعضها؟ يجيب المير «أنا من الأول للآخر هيك، أقول رأيي ولا أهتم بردّات الفعل. أنا أجرأُ من ضعفهم، وهُم أضعفُ من الشّعر»...
وسؤال في النهاية: هل يريد المير طارق إضحاك الناس على زعمائهم الحكام؟ الجواب فَوري: بلى هو يريد ذلك، ولشدّة عفوية الكتابة سيحفظ اللبنانيون مقاطع كثيرة من الرباعيات حبّاً بها، وإعجاباً، أمّا بعض الشعراء الذي سيعتبرونها فشة خلق لا أكثر فهؤلاء فهموا الشّعر «دُكمة» (في الفلسفة والماورائيات والتعمية لا أبعدَ ولا أقرب من ذلك) فأنواع الشّعر ليست حكراً على ما يقرّرون. وأعتقد أن هذه «الرباعيات» ستكون في المستقبل القريب خير مُعَبّر عن مرحلة مات فيها اللبنانيون وعاشوا مرّات ومرّات وحكامهم مُتمترسون خلف حساباتهم الخاصة وكراسيهم المقلوبة والمُجَبّرة أرجُلها كما رسَمَتها الفنانة خيرات الزّين على غلاف الديوان.
المير طارق ناصر الدين الذي يكتب الشّعر بالمَحكية بأرقّ ما يمكن من العبارات المُنحازة إلى الصدق والحرارة والمعاني الجميلة، ويكتب الموزون المقفّى في «الرباعيات» منحازاً إلى البلاغة والبيان كعنصرين فائقيّ الجودة التعبيرية.. لم يستطع إلى الآن أن ينحاز إلى أحديهما، ليوغل فيه ويتخلّى عن الآخر. طريقتان للتعبير تخترقان صدره، فتُخرجان منهُ جراحاً ورياحاً، وأفكاراً وأسراراً، وطِيبةَ قلب تعطي الثلج لونه فيصبح أحمرَ...