1 شباط 2023 12:00ص «الندوة اللّبنانيّة» ظاهرة ثقافيّة رائدة

حجم الخط
د. مسعود ضاهر*

في أجواءِ حوارٍ مُشبع بالثقافة والمثقّفين، أسَّسَ ميشال أسمر «الندوة اللّبنانيّة»، وأدارها بكفاءةٍ عالية إلى أن أصبحت ظاهرةً ثقافيّةً رائدة في تاريخ لبنان المُعاصِر، من حيث مُمارَسة النشاط الثقافيّ الأسبوعيّ الدائم المتميِّز قرابة ثلاثين سنة. احتضنت «الندوة» أرقى أنواع المُحاضرات لمفكّرين لبنانيّين وعرب وعالَميّين من مختلف الجنسيّات واللّغات والثقافات. وأُلقيت على منبرها محاضراتٌ بالعربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة وسط حضورٍ كثيف لأفضل النّخب السياسيّة، والثقافيّة، والاقتصاديّة، والتربويّة، والفنّيّة في لبنان. فشكَّلت بذلك منبراً حرّاً لقادة الرأي السياسيّ، وأصحاب الاختصاص، ورجال العِلم والفكر، ومركزَ أبحاثٍ في شتّى مجالات الحياة اللّبنانيّة.
تبلْورَتْ رسالةُ «الندوة» انطلاقاً من أنّ اللّبنانيّين بعد الاستقلال باتوا مُواطنين في دولةٍ مستقلّة. «للمرّة الأولى في تاريخهم، وَجَدَ اللّبنانيّون أنفسَهم أحراراً وأسياداً في سياستهم الداخليّة والخارجيّة، فلم يعُد تاريخهم مثلاً جزءاً من تاريخ الآخرين، عثمانيّين كانوا أم فرنسيّين أم أميركيّين أم بريطانيّين أم عَرباً. إنّها بداية تكوُّنٍ لتاريخٍ لبناني، لوجدانٍ لبناني، لدولةٍ لبنانيّة هي التعبير القانوني والدولي عن إرادة اللّبنانيّين بأن يُشكِّلوا أمّةً ودولةً وشعباً شريكاً في صناعة الحضارة الإنسانيّة».
كان الهدف من تأسيس «الندوة اللّبنانيّة» ترسيخَ المَسار الجديد الذي بَدأ مع إعلان دولة لبنان الكبير لبناء تاريخٍ حضاريٍّ جامِعٍ بين الماضي والحاضر، وهويّة لبنانيّة ذات سماتٍ خاصّة تجمع اللّبنانيّين على امتداد مناطقهم وطوائفهم. وما قامت به «الندوة» شكَّل «تراثاً فكريّاً وثقافيّاً ووطنيّاً مُلتزماً ببناء لبنان الكيان، والوطن والشعب والدولة والرسالة». فهويّة لبنان ذات طبيعةٍ ثقافيّة خاصّة «لأنّه بلد يتمسّك فيه قسمٌ كبيرٌ من أهله بهويّتهم الوطنيّة المحليّة، أي اللّبنانيّة، وحيث نظامه السياسي هو نتيجة ميثاق وطني تَوافَقَ عليه أبناؤه». لذلك أعلن تقيّ الدّين الصلح، وهو واحد من كبار المُتمسّكين بعروبة لبنان الكاملة، وليس النفعيّة، في محاضرةٍ له من على منبر «الندوة» في العام 1953، ما يلي: «لبنان هو البلد الوحيد الذي قام كيانه مستقلّاً عن سائر الكيانات العربيّة على إرادة قسم من أبنائه، ثمّ على رضى القسم الآخر من سائر بَنيه».
وَعت «الندوة» منذ نشأتها أهميّة التكوُّن الثقافي والفكري للهويّة اللّبنانيّة، على أن تكون منبراً لنشْرِ الوعي بتاريخ لبنان، وحدوده الجغرافيّة المُعترَف بها دوليّاً، ونِظامه السياسي المَبني على الميثاق الوطني، ومؤسّساته الاجتماعيّة، والحقوقيّة، والثقافيّة المُنفتِحة على جميع الثقافات العالَميّة. لذلك أُطلق على لبنان لَقَب «سويسرا الشرق». لكنّ الفارق النَّوعي بين الدولتَيْن كبيرٌ جدّاً. فقادة الدولة السويسريّة استنبطوا حلولاً عقلانيّة لمشكلاتِ وطنهم، في حين تنقَّل زعماءُ الطوائف في لبنان من فشلٍ إلى آخر. وتقاعست النّخبُ السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة اللّبنانيّة عن دراسة التجربة السويسريّة وغيرها من تجارب التحديث النّاجحة في بناء الوحدة الداخليّة الصلبة والعَيش المُشترَك. واكتفت بتردادِ مُقارَناتٍ شكليّة، وتقليد مقولات التجارب الأخرى من دون العمل الجدّي لاستنباطِ مقولاتٍ تحديثيّة بخصائص لبنانيّة. لذا بقيت الديموقراطيّة اللّبنانيّة أسيرة التوافقيّة الطوائفيّة التي تُلغي الديمقراطيّة. ولم تَنجح النّخبُ اللّبنانيّة في استنباطِ مقولاتٍ علميّة تُحافِظ على العَيش المُشترَك بين اللّبنانيّين على أُسسٍ وطنيّة خارج القَيد الطائفي، وتَدعم التفاعُلَ الإيجابي بين القوى الاجتماعيّة المُنتِجة في لبنان. مردّ ذلك إلى أنّ البورجوازيّة اللّبنانيّة هي بورجوازيّة رَيعيّة غير مُنتِجة. فأدَّت سياساتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة إلى كثيرٍ من المآسي للقوى المُنتِجة في لبنان. وما زال اللّبنانيّون أسرى بورجوازيّة الخدمات، والصفقات، والهندسات الماليّة لمصلحة زعماء الطوائف وقادة الميليشيّات، على حساب إذلال اللّبنانيّين وإفقارهم.
عملت «الندوة» على بلْورةِ «فلسفة سياسيّة» للبنان؛ فلسفة بناء الكيان اللّبناني على أُسسٍ «قويّة»؛ فلبنان، هذا الكيان الحديث الطري، بحاجة لأن يجدَ مبرّراته التاريخيّة والحضاريّة في الماضي السحيق، وذلك ردّاً على المقولات التي تَعتبر لبنان «كياناً صَنعه الاستعمار»؛ ثمّ انتقلت من دائرة التنظير للبنان الكيان إلى مرحلة بناء الدولة اللّبنانيّة كضامنٍ أساسيّ لوجوده واستمراره. وتزامَنت هذه الرغبة مع بداية العهد الشهابي الذي أَطلق المحاولة الجديّة الوحيدة في تاريخ لبنان لبناء الدولة وإصلاح مؤسّساتها. كان على الدولة اللّبنانيّة أن تتبنّى فلسفةً تُحدِّد نظرةَ لبنان واللّبنانيّين إلى الإنسان في عالَمٍ تتجاذبه مدارس فلسفيّة كبيرة من ماركسيّة ووجوديّة وشخصانيّة؛ فكان على لبنان أن يبلْور فلسفةً تتناسب وواقعه، وأن يعتمدَ سياسةً خارجيّة نابعة من الوقائع التاريخيّة والجغرافيّة التي تَشكَّل منها. من هنا كان مَيل «الندوة» لاعتماد مبدأ «الحياد الإيجابي» في التعاطي مع الصراعات العربيّة - العربيّة. واختارَ القيّمون عليها حلّاً وسطاً بعدم الفصْلِ بين الدّين والدولة كما تنصّ عليه العلمانيّة، ولا بالدَّمج كما هو حال الطائفيّة، بل «التمييز» ما بين الروحي والزمني، بحيث يتمّ تطوير الزمنيّات وفق المبادئ والقيَم الروحيّة السامية التي تقول بها الأديان.
النقيض التامّ لفكرة لبنان
وَعَتِ «الندوة» بعُمق الخطرَ الإسرائيلي منذ نشأة الكيان الصهيوني وما تشكّله إسرائيل من «خطر وجودي» هو الأهمّ على لبنان. ليس لتسبُّبِها بتشرُّدِ جزءٍ كبيرٍ من الفلسطينيّين من أرضهم ودفْعهم إلى لبنان بكلّ ما لهذا اللّجوء من تداعياتٍ خطيرة على هذا البلد، بل لأنّ الكيان الصهيوني بكلّ ما يمثّله من «نموذج عنصري» هو النقيض التامّ لفكرة لبنان القائمة على اللّقاء والتعدّديّة والتسامُح والتلاقُح الفكري والحضاري والثقافي. «فلبنان ليس قادراً لا على تجنُّب الصراع مع إسرائيل ولا على البقاء على الحياد؛ ذلك لأنّ إسرائيل تشكِّل تهديداً دائماً له. وهذا ما يحتّم عليه التضامُن مع «أشقّائه العرب». «ولقاء العروبة واللّبنانيّة لم يَعُد تَرفاً ولا موضوعاً ثقافيّاً أو فكريّاً فحسب، بل ضرورة وجوديّة للبنان في صراعه الحضاري مع إسرائيل».
عملت «الندوة» بشكلٍ موازٍ على تعزيز الفكرة المتوسّطيّة، وتكريس مقولة «لبنان بلد متوسّطي بامتياز». واعتَبر القيّمون عليها أنّ هذا التوجُّه المتوسّطي لا يتناقض مع التوجُّه العربي لـ «الندوة». فهي أرادت للفكرتَيْن المتوسّطيّة والعربيّة أن تتصالحا في لبنان، لا بل أن يكون لبنان مكاناً للّقاء، من خلال موقعه على المتوسّط، ما بين العرب والأوروبيّين، وما بين الحضارة العربيّة والحضارة الغربيّة.
كان كمال جنبلاط المُحاضِر الأوّل على منبرها. كان عمره 29 سنة حين قدَّم أولى مُحاضراته بتاريخ 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 1946 بعنوان: «رسالتي كنائب». وقد ألقى تسعَ مُحاضراتٍ على منبرها، ثلاث منها بالعربيّة وستّ بالفرنسيّة. وحرصَ على المُشارَكة حضوريّاً في الندوة الأخيرة بتاريخ 27 أيّار/ مايو 1974. في «رسالتي كنائب» تحدَّث جنبلاط عن جوهر تفهُّمِ وتفهيم الديموقراطيّة الصحيحة للمُواطنين اللّبنانيّين، «على أن أعكس لهم في تفكيري وفي شِعري وفي كتاباتي وفي عملي شيئاً من هذه الروح الإنسانيّة الخلقيّة البنّاءة». وهناك نواحٍ عديدة من رسالة النائب أُلخّصها ببعض العناوين الآتية: النظام البرلماني وتطوّره، النائب والعقيدة، العقيدة والعِلم، النائب والشعب، الديماغوجيّة، نظريّة التمثيل، لا وكالة في النيابة، نظريّة الدولة الحديثة والنائب، النّخبة المختارة... النائب والسلطة، النائب والأحزاب السياسيّة.
وكَتَبَ غسّان تويني في تقديم كِتاب «عهد الندوة اللّبنانيّة» الصادر عن دار النهار 1997، «متى يُعطى لنا، متى نقدر، أن نؤرِّخ عهودنا والأجيال بالحركات الثقافيّة والموائل الفكريّة التي كانت دوماً تُحرِّك السياسة بدل أن نترك السياسةَ تسلب المُجتمع، بل التاريخ، حقائقَه لتُقيمَ لأصنامِ الحُكم أبراجاً؟». كان الحضور المُنتقون «علّيّة القوم من وزراء ونوّاب وكبار رجال الفكر والإدارة والقضاء والمال والاقتصاد في لبنان». لا تنفتح أبواب «الندوة» خصوصاً، ولا عقول أهلها وقلوبهم، إلّا لمَن يُحسن التنزُّه عن العصبيّات الضيّقة التي تقفل الأبواب وتسدّ الآفاق.... «والميزة في الندوة أنّ جمهورها كان مُنسجماً على ثنائيّةٍ غير مرئيّة».
وحدَّد د. ناصيف نصّار سمات «الندوة» بقوله: «كانت الندوة اللّبنانيّة، كعملٍ ثقافي، أشبه بجمعيّة من دون نظام أساسي وأشبه بمؤسّسة من دون هكيليّة وظائفيّة». «كانت ندوة لبنانيّة في المعنى الواسع، شكلاً ومضموناً، ندوة هادفة إلى خدمة الدولة اللّبنانيّة في جميع المجالات، وفقاً لمتطلّبات الوفاق الوطني والتقدُّم العصري»... «كانت تجربة جديدة في العمل الثقافي في تاريخ لبنان... كان هاجسها مشكلة التوفيق بين الاستقلال اللّبناني والانتماء العربي، بين القوميّة اللّبنانيّة والالتزام العربي». «مرَّت الندوة بين تأسيسها في العام 1946 في طورَيْن تفصل بينهما أحداث العام 1958. في الطور الأوّل سعت إلى استقطاب قادة الرأي في لبنان لتكوين نخبة مفكّرة ملتزمة قضايا البناء الوطني. وفي الطور الثاني سعتْ إلى مُعاونة الدولة في بناء مؤسّساتها ضمن الرؤية الإصلاحيّة التي مثَّلتها الشهابيّة... لكن كلّ شيء تغيَّر بعد الخامس من حزيران/ يونيو 1967».
ووَصفها مؤسِّسُها ميشال أسمر بقوله: «الندوة تعبير عن الوعي اللّبناني. كان يجب حشْد القيَم اللّبنانيّة الأصيلة كلّها من دون تمييز واستنهاضها للعمل معاً، رجاة اكتشاف وجه بلادنا من جديد. هذا الوجه الذي تداولته آلاف الحقب وطمستْ معالِم دعوته سيطرةٌ عثمانيّة ما أطولها، وخَتَمَها ربعُ قرنٍ من الانتداب الفرنسي. منبر ملتزم يهيّئ لنا معرفة ذاتنا. كان علينا أن نُقيم البرهان على مدى ما يستطيعه معاً الجيلان القديم والحديث، وما تستطيعه معاً الثقافة العامّة والتقنيّة، القوّة المُلتزِمة والطلقة، من أجل تشييد رسالة لبنانيّة تكون من الوحدة ما يعود على أواصرها بالتمكين، ومن الصوابيّة ما يجعلها تنشد الخير للجميع. كان علينا أن نلقي للبنان فلسفة سياسيّة وأن نركِّز أسسه على متين الركائز. لذلك كان ينبغي تكسير الأُطر السياسيّة العتيقة، أو بالأحرى كان ينبغي تخطّيها من أجل بنيان كلّ شيء على أُسس الفكر. كانت «الندوة» تدعو النّخبة اللّبنانيّة إلى وصْلِ ما انقطع. كانت تدعوها إلى أن تضع ذاتها في خطّ التاريخ، إلى أن تنطق بلغة الشعب، لغة العمل والكدح، لغة المهنة، لغة الجدّ والكفاح، لغة التاريخ الحقيقيّة».
ألقى ميشال شيحا أربع محاضرات من على منبر «الندوة». ومن أولى استخلاصاته لاستمرار الكيان اللّبناني: «بما أنّ لبنان بلدٌ تتشارك فيه الأقليّات الطائفيّة، فلا يُمكن سياسيّاً أن يستمرّ طويلاً من دون مجلس نيابي يكون محطّ التقاء الطوائف واتّحادها، بغية المُشارَكة في إجراء الرقابة على حياة الأمّة السياسيّة. فحينما نستغني عن المجلس نَنقل المُناقَشة إلى المحراب أو في كنفه، ونؤخِّر في المقابل التنشئة الوطنيّة».
نُشير أخيراً إلى بعض المُحاضرين العالَميّين الذين أغنوا تراثها الثقافي من أمثال أرنولد توينبي، والحبيب بورقيبة، ولويس لوبريه، وليوبولد سنغور، وأحمد طالب الإبراهيمي، وفرنسيسكو غابريالي، ولويس ماسينيون، ومكسيم رودنسون، وجاك بيرك. وتنوّعت موضوعاتها لتطال التاريخ، والجغرافيا، والسياسة، والصحافة، والأدب، والشعر، والفلسفة، والتربية، وعِلم النَّفس، وعلوم الطبيعة، والذرّة، والتراث، والفنون والكثير غيرها. وأجرى باحثون مُعاصرون نقاشاً مُكثّفاً حول البُعد الثقافي في محاضرات «الندوة»، التي اعتبروها تمهيداً لبناء مجتمع مدني متحضّر، بعيداً عن لغة الحرب. وكانت الندوة موضوعاً لأطروحة دكتوراه أعدَّها الباحث أمين إلياس وصَدرت في كتاب بالفرنسيّة في العام 2019.
ختاماً، شكَّلت محاضراتُ «الندوة اللّبنانيّة» سلاحاً ثقافيّاً عبر سياسيّين مُناضلين لَعبوا دَور المُربّين الذين عملوا على إحداث التطوُّر الكبير الذي عرفه تاريخ لبنان الثقافي قبل اندلاع الحرب اللّبنانيّة. ومنهم مَن سَمع رياض الصلح يقول في البرلمان اللّبناني «بَنَيْنا الدولة وبقيَ علينا أن نبني الوطن». ومنهم مَن كرَّر مراراً: «لبنان وطن صعب يتطلَّب درجةً عاليةً من الحِكمة السياسيّة، لكنّه وطن غير مُصطنع في مكوّناته وشوائبه».
---------------
*مؤرِّخ من لبنان
(بالتعاون مع مؤسسة الفكر العربي - نشرة «أفق»)