بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 كانون الثاني 2023 12:00ص الواقعية والتخييل

حجم الخط
بداية، لا بد من القول، إن «الواقعية»، مدرسة فنية، تتكئ على حياة الإنسان وتموضعه في الزمان وفي المكان. تسير معه إلى الجهات التي يسير إليها، فتحادثها وتخاطبها، وتحادثه وتخاطبه من خلالها. وكذلك من خلال تأثيره عليها، ومن خلال تأثره بها. ولهذا ربما تحدث نقاد الواقعية، عن دقة الوصف الواقعي، وعن دقة الإندماج الواقعي، وعن دقة الإنصهار بالواقع، حتى لتكاد الواقعية، هي بنت الدقة في كل شيء وحتى لتكاد الدقة حصرية في المدرسة الواقعية. وبات في مدركات الناس، أن الواقعية والدقة متلازمتان، ولا تنفصل إحداهما عن الأخرى. فالواقعية عندهم، هي في جزء منها، الدقة. والدقة أيضا، هي في جزء منها واقعية. مثلما لا يكون على العظم إلا اللحم، ومثلما لا يحمل اللحم إلا العظم.
وهناك نقاد يوافقون على هذه الصيغة النقدية، ويعتبرونها حصيفة، ويعتبرونها عقلانية، ويعتبرونها مبدأية. لكنهم يعقبون على ذلك، فيتساءلون، ولهم الحق في التساؤل، لأن لا شيء في حدود العقل والحياة، بعيد عن التساؤل، لا يطاله التساؤل، وربما يتساءل الناس، عن صلة الواقع بالنفس، وبالعقل، عن صلة الواقع بالإحساس، وهذه الأمور كلها بشرية. وهي لكونها بشرية، تختلف في تقدير درجاتها من شخص إلى شخص، ومن هنا كان إختلاف النقاد الذين ينتمون إلى نفس المدرسة الواقعية، في التقدير، وفي الوصف، وفي الترغيب، وفي التأليب والتنفير، حتى بلوغ التفاوت في درجات القبول أو الرفض.
وهناك من يسير بهذه الطروحات والآراء النقدية أيضا، ويقبل بها قبولا طيبا، لأنه يلمس التفاوت في التقديرات بين أحكام جماعة نقاد المدرسة الواقعية، غير أنهم يتساءلون ثانية عن سر هذا التفاوت، وعن مصدر هذا التفاوت، وعن قيمة هذا التفاوت، وعن مدة هذا التفاوت، ولهذا نراهم يذهبون إلى التقديرات المختلفة للنقاد الواقعيين، فيبررونها، ويطوعونها، ويحملونها أكثر مما تحتمل. وهم في ذلك، يتفاوتون في الرفض والقبول، حتى بلوغ أعتى درجات النفس من ذلك. فماذا نقول إذا لهؤلاء الذين سلكوا مع الواقعيين سلوكا طيبا، ثم إذ هم يستوقفونهم، يتمهلونهم، يسألونهم عن سر الإختلاف فيما بينهم، على أساس من هذه الدرجة العميقة، أو هذه الدرجة البسيطة من الإختلاف.
الإقرار بالإختلافات في الأحكام النقدية الواقعية، أمر مطلق، فلا يختلف فيه رأيان. لأن منبع هذا الإقرار، هو العمق النفسي أو قل البُعد الفكري أو الوجه العقلي، عند الإنسان. فضمن وحدة النفس والفكر والعقل، عند كل شخص، يبدأ التقدير مبدأه. وعلى أساس من هذه الوحدة العميقة في الإنسان، يمكن أن نرجع، كل رؤيا، كل تبصرة، كل تبصر، كل إعمال رأي، في الواقعية النقدية الفنية.
هذه الرؤيا مشتملة، عرفها أفلاطون، ومن بعده أرسطو بالتخييل الفني، بحيث يزيح التخييل الشخصي، جميع الموضوعات، عن مادتها اللاصقة بها، ويمنحها تخييلا شخصيا، هو ما يبرر فيما بعد، الرؤى المتباينة للأشخاص، بحيث يراها الشخوص، برؤى متباينة، على أساس من وحدة النفس والعقل والفكر، لدى كل واحد منهم على حدة.
فإلى الوحدة النفسية لدى كل شخص، إنما نرد عملية التخييل، لدى فحص أي شيء، لدى رؤية أي موضوع، لدى قراءة أي أثر، مهما كان يصف بواقعية، ومهما كان يجد في الواقعية، ومهما كان يصدر عن واقعية.فالتخييل مرد كل الرؤى المختلفة، مرد كل التناقضات في الآراء النقدية، مهما كانت قراءتها واقعية ودقيقة في واقعيتها.
التخييل كفيل بالتزيين. وهذا العمل تعتمل به النفس فتخرجه من حيز العدم إلى حيز الوجود. وهو ما يوفر لنا فرصة القول بالجمع بين التخييل والتزيين.
إن ربط التخييل بالتزيين، أمر ضروري لكل باحث، حتى ينجو من التهويم في الآراء، بل حتى يصف الواقعية بالواقعية نفسها، تلك التي تشتق من الأعماق الوجودية، نفسا ومادة، في الخارج وفي الداخل، على حد سواء.

أستاذ في الجامعة اللبنانية