بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 تشرين الثاني 2023 12:00ص تَوْأَمَةُ العربيّ أبي نواس و.. الفرَنسي بودلير: شِعرُ الاحتفال بخرَاب الحياة!

حجم الخط
إذا كان صحيحاً أنّ الطيور (والبشَر) على أشكالِها تقعُ كما يقول المثَل العربي، فإن الشاعر الفرنسي شارل بودلير إذا عاد في الزمن إلى العصر العباسي... لَوَقَعَ فوراً بشكله ومضمونه على شكل الشاعر العربي أبي نواس ومضمونه، ولأمكن أيضاً توأمَتُهما كما يُتَوئمون في هذه الأيام المدنَ التي تتشابه طبيعتُها وجغرافيتُها، فيكون إعلانُ توأمَةِ بودلير وأبي نواس حياةً ثانية لهما ومادة جذْبٍ جديدة للقارئ في العالَم...
ما فوق الألف عام هي المسافةُ بين زمن أبي نواس وزمن بودلير. أبو نواس في العصر العباسي «٧٣٠ م»، وبودلير في القرن التاسع عشر «١٨٥٠م»، لكن عوامل التشابه بينهما لا تُصدّق في دقّتها وصدقِ تفاصيلها، على الأقلّ في ناحيتين ثابتَتَيْن:
١- طبيعة الحياة التي عاشها كلّ منهما من اليُتم إلى الضياع مع أم متعدّدة الزوج أو الرجل، إلى الخمر والمجون وعيش الشارع السّفلي في المجتمع..
٢- النظرة المغايرة إلى الشّعر، ومحاولة الخروج الجدّي من التقليد والانسياق اللاإرادي مع الماضي الشّعري والجَمَالي إلى صناعة تجديد يبني مع المستقبل ويطوّر حضور الشعراء في توليد قصائدهم وتعزيز دورهم.
فكرةُ الحياةِ كلِّها عند أبي نواس لم تكن خاضعة للاهتمام بالتفاصيل والمجريات التي تحدُث لهُ. كان الذهابُ إلى ما وراء الحياة المباشرة، مشاكلِها، تعقيداتِها، متاحاً لهُ عبر الخمر واللذائذ التي كان لا يترك وقتاً من دونها. الخمر واللذة الجسدية مع النساء والغلمان، فقد كان اقتناءُ الغلمان وممارسة الجنس معهم أكثر شهرةً أحياناً من العلاقة الطبيعية مع نساء. يُروى أن أميراً مهيّأ لتسلّم السلطة، كان مولعاً بالغلمان ولعاً استثنائياً ما «اضطر» والدته إلى احضار مجموعة صبايا وقصّ شعرِهنّ على طريقة قَص شَعْرِ الغلمان ودفعهن إليه. لكنه تمنّع. التهتّك والعربدة والجنوح نحو المباذل كان ديدنَ أبي نواس، مع صحبةٍ منتقاةٍ من الندمان المنخرطين في «التجربة» التَحتِيّة إلى أعماقها. صحبةٌ كان يرى أبي نواس إليها وكأنها من خيرة القوم بل خيرة من يُحسِن التعامُل مع الأيام. يقول عنهم وعن الشراب:
دارت على فتيةٍ دانَ الزّمانُ لهُم
فما يُصيبُهُمُ إلّا بما شاؤوا...
عن «الغربة» إياها يقول بودلير:
{ مَن تحب أكثر، أيها الإنسان اللغز، قل؟ أباك، أمك، أختك، أم أخاك؟
- ليس لي أب، ولا أم، ولا أخت، ولا أخ.
{ أصدقاءك؟
- أنت تستعمل كلاماً لا يزال معناه حتى اليوم خافياً عنِّي.
{ وطنك؟
- أجهل في أيِّ خطِّ عرض يقع.
{ الجمال؟
- أحببته بطيبة خاطر، إلهاً وخالداً.
{ الذهب؟
- أكرهه كما تكره أنت الله.
{ إذًا، ماذا تحب، أيها الغريب العجيب؟
- أحب الغيوم... الغيوم العابرة... هناك... الغيوم الرائعة!
هذا تمييز عالٍ لنفس بودلير، لحاجاته هو دون حاجات الآخرين حتى الوطن.. يوازي تمييز أبي نواس العالي لشخصه ولأصدقائه في حفلات الشراب وصحبة الغلمان ومجالس الغناء، وهي لم يدَّعيها أبو نواس ادّعاءً أو يُلَفّقُها عنهم تلفيقاً وإنما كان بالفعل يرى الأصحاب هكذا مع إنهم، في الواقع، قد لا يُدرِكونَ أي معنى مما قصَد أبو نواس الذي رفَع من شأنهم حتى باتوا في نظره قادرين على تحريك الزمان وقيادته فلا يصابون إلّا بما ارتضوا هم أو بما قرّروا لا بما تسوقُه الأقدار والظروف لهم. أي أن أبا نواس أعطاهم بعض صفات الألوهة. وأغلب الظنّ أن هذا التنزيه لنُدمائه وخِلّانِه كان في مواجهة النظرة الإجتماعية الهابطة لهم. فالمجتمع يُهينُهُم أما أبو نواس فيكْرمُهُم ويعظّم من شأنهم!
يقول بين جدّية ومزاح رائعَين مسُتَعطياً رضا الخليفة الغاضب:
بكَ أستجيرُ من الرّدَى، وأعوذُ من سطَوَاتِ باسِكْ/ وحـيَــاة ِ رأسِـكَ لا أعُــودُ لمثلِها، وحياة ِ رَاسِكْ /
مَنْ ذا يكونُ أبا نُوَاسِـكَ إنْ قـتـلـتَ أبـا نــواسِــكْ!
وحين يقول بودلير «يتجلّى الشاعر في هذا العالَم المُمِلّ، بقرار من القِوى العليا» لا يبتعد كثيراً عن القوى الغيبية التي أعطاها أبو نواس لنفسِه كشاعر ولندمائه في البيت المذكور. منشأ الشاعر بالنسبة إلى بودلير «قوى عليا» وتَعني اكتساب البُعد الإلهي مباشرةً، كما يمكن أن تَعني التمتّع بقدرات مختلفة تماماً عن البشر العاديّين، وتالياً فإن وصْفَ العالَم «بالمُمِل» يُخفي أن دور الشاعر هو تخليص الحياة من الرتابة والروتين والجفاف، وتخليص الناس، وتخليص الوقت كله والأيام من الدوران في حلقة مفرَغة ومفزِعة.
في مكان آخر يقول بودلير: «العالَم ليس إلّا مستشفىً ضخمةً يريد جميعُ مَن فيها، تغيير أسِرّتِهِم».. هو نفسُه الضّجَر والبرودُ وعدمُ القدرة على تغيير شيء.. بمعنى اليأس.. بمعنى الموت. فهل فكرةُ بودلير هذه بمنأى عن بيت أبي نواس الشهير:
«فقُل لمن يدّعي في العلْم فلسفةً/
حفظتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ؟»
معروفٌ أن تعقيدات اليُتم والفقر والمعاناة الاجتماعية تختلف في تداعياتها على الناس، بين شخص وآخر. هنا، في الخمّارة والحانة لا وجود للطبقات الإجتماعية فلا غني ولا فقير، ولا وجيه ولا متواضع، الكل أمام الكأس سواسية كأسنان المشط، في الرغبات العارمة التي لا تقف سدود في مواجهتها وفي التخبط بعد ذلك، وفي التعبير عن الأزمة الذاتية والعامة. أبو نواس منذ سنّ السادسة عمل عند عطّار وحمَلَه فضولُه وشغفُه إلى التتلمذ على أيدي أشخاص مشهود لهم في بعض الكتاتيب أو في الشوارع والأزقّة: والبة بن الحباب، وخلَف الأحمر، ومنهما تعلّم لا الشّعر فحسب ، بل النظرة إلى الشّعر أيضاً، وبهذا دخلَت في ذهنه الإرهاصات الأولى للكتابة ثم التجديد. ما كان أبو نواس يطرح نفسَه مجدِّداً ولا زعيم مدرسة، وإنما كان زعيم نفسِه في قول الشّعر، وفي فهمه، وفي التعبير عنه من دون الاستناد إلى ما سبَق. وليس خافياً أنه استخدم السخرية في قَدْحِ التقليد الشّعري وذَمِّه بأسلوب يدفع إلى الضحك العلني المجلجِل لا الابتسام فقط. تصوّروا أي وضعية لاهية متهكّمة ذكية كان «يناقشها» عندما انتقد الوقوف على الأطلال بالقول:
 «قُلْ لمن يبكي على رسْمٍ درَسْ/ 
واقفاً، ما ضَرَّ لو كانَ جلَسْ ؟/ 
إترك الرَّبعَ وسلمى جانِباً/
واصطَبِحْ كَرْخِيّةً مِثْلَ القبَسْ؟». 
هو لم يكتفِ بالتنمُّر على «الواقف» على الأطلال بل «هَدَاه» إلى الجلوس (أنظُر!) وإلى ما يعتبره أفضل وأجَلّ، أي «خُذِ الخمرةَ المنيرة كالقبَس». لا يقف أبو نواس عند حدود تَكْرِيْهِ غيره بأسلوب افتتاح القول الشّعري القديم بالبكاء، بل ينصحه بالبديل الذي هو.. الكأس مع أن لا وجه تشَابُه مطلَقاً بين هذا وذاك، ولا يتلاقيان في أي سبيل. وهذا هو أبو نواس الذي كان خارج العادة في تعابيره الشّعرية ويقاربُ شيئاً بشيء ليس من جنسِه، وكان نموذجاً لنفسِه قبل الآخرين. وكان لافتاً مَيْلُ الوجهاء إلى صداقته رغم تهشّم صورته الإجتماعية، ولا تُنسى علاقته بهارون الرشيد الذي كان يحبّه ومع ذلك كان يعمد إلى سجنه أحياناً لكثرة الشكاوى عليه فضلاً عن سبب آخر هو خشيَة الرشيد من أن تؤثر صحبة أبي نواس على مكانته كخليفة يفترَض أن يكون مثالاً. لكنّ الثابت هو صداقتهما. أيضاً صداقة الأمين ابن هارون الرشيد معه. وصعود هذه العلاقة وانحدارها تبعاً لوقائع معينة. والصداقة بين الشعراء والأدباء والفنانين من ناحية، والخلفاء والملوك والكبار في الحكم من ناحية أخرى لم تكن يوماً قائمة على مجانية أو واسطة ومحاباة. فالحاكم يستقبل المتميّزين من الناس إمّا لاستئناسه بأشعارهم أو بأخبارهم أو برواياتهم وفنونهم، ولعل هؤلاء من بين كل زائري القصور، الوحيدون الذين لا يمون أحد على أحد في استلطافهم أو محبّتهم وفرضهم على الآخرين. لذلك يتمكن البعض منهم من سَحْر الملوك والحكام بما لديهم من المواهب، والشّعر عند أبي نواس وخفّة الظل كانت مفتاحه إلى أبواب الكبار في السّلْطة.
وإذا كان قد ذُكر في أكثر من تحليل عن علاقة شاعر «أزهار الشر» بودلير بشاعر آخر يوازيه في البؤس والظلام في الحياة هو أدغار ألن بو، فأحَبّه وشُغف به ورأى صورته فيه، فإن قلّةً ذَكَرت عن ذلك التماهي العجيب بين بودلير وأبي نواس. يضاف إلى ذلك رأي ما زال غير مبتوت به هو تأكيد بعض الكُتّاب الفرنسيين على إن بودلير تعرّف على أبي نواس من خلال بعض الترجمات الأدبية العربية التي وصلت إلى فرنسا في القرنين السابع والثامن عشر، ومنها ما يتحدث عن حياة أبي نواس ويَذكُر شِعرَه بكثافة، وهذا ما علّقَ بودلير بشخصيّته التي يقال إنه وجد فيها (بودلير) نفَساً جديداً على ذاك الذي كان يُترجَم من شِعر العرب تلك الأيام، وثمة من روَى على لسان أحد أصدقائه أنه كان يذكُر أبا نواس ويتحدّث عن حياته وأسلوبه وامتزاج شخصيته الشعرية بشخصيّته الإنسانية تماماً كحاله، ولو أن هذا ليس معروفاً أو مُضاء عليه من أهل اختصاص!
وكما كان بودلير مغموراً وغير «معتَرف» به في الوسط الفني الفرنسي الرسمي، كان أبو نواس.
وكما كان بودلير مادة تهكّم ويُفضَّل استبعاده حتى من الذكر عند الحاجة، كان أبو نواس. وكما كان شِعر بودلير من عُصارة حياته ومن بنات أفكار الواقع الأليم، كانت حياة أبي نواس نبعَ قصائده. ومع أنه مدَحَ ورثَا وقال قصائد كثيرة رغبة في التكسّب المادي، إلّا إن شِعره في الخمريات والنساء واللهو بقيَ الأفضل، وإن إيجاد أبيات شِعرية جميلة وجديدة وذات صُوَر زاهية ومتلألئة في قصائده المدحية أو الرثائية مسألة تحتاج لقِلّتِها إلى تنقيب عناية وتدقيق، بينما في باقي شِعره الخمري أو الهجائي تتّضحُ السلاسة الجمالية والصوَر الذكية، وتصدمك أحيانا في كل بيت. ذلك أن الفطرة والسليقة والحيوية لا تتحرك في قصائد المنفعة المادية التي «يرتكبُها» أبو نواس، بينما تتمايل برشاقة وعفوية وإبداع في قصائد الخمر والغزل. فهل لأحدٍ منّا وصفٌ يحفظه أو يبتكره لقوة تأثير الخمر على البشر أقوى وأشَفّ وأروع من قول أبي نواس:
«كأنما أَخْذُها بالعين إغفاءُ»؟
والأخْذُ هنا بمعنى الامتلاء منها (ولها معنى جنسيّ أكثر تجسيداً للحالة)، وكلمة «إغفاءُ» تعني الذهاب في حالة توازي الخَدَر؟
احتاجَ بودلير إلى خمسين عاماً حتى ظهَر اسمه بين مؤسسي التجديد الشّعري، كشاعر يعتمد الوزن ثم كشاعر نثري، ولم يكن ديوان «أزهار الشرّ» التحفة الفنية الوحيدة في نتاجه الذي بلغ عشرات الكتُبِ والدواوين، أمّا أبو نواس فكان في حياته شهيراً ومعروفاً لكن طغت على صورته ملامح الماجن، السليط اللسان، الفاقد الأهلية العقلية أحيانا خصوصاً حين يدخل الخمر، في مزاجه السّيئ بالتصرّف مع الناس، وكان أغلب النقّاد في العصر العباسي يتحاشون الخلط بين مستوى شِعره ومستوى سلوكيّاته في الشارع، لكنّهم لم يحسبوه يوماً بين الشعراء الكبار من طراز أبي تمّام أو البحتُري أو المتنبي مثلاً، ذلك أن ثمة منطقاً أخلاقياً كان يفرض أحكامه على الأدباء والشعراء، وأبو نواس ليس في هذه المساحة التي تطلّعَ فيها هؤلاء الثلاثة نحو تأكيد التجربة الذاتية والخبرة في الاصطدام بالكون والأشخاص، وربَطوا شِعرَهم بالمعاناة العميقة المُعبَّر عنها بمسحات حِكَميّة عالية، بينما النظرة عند أبي نواس لم تغادر كثيراً منطقة البحث بين أوّلِ الشهوة والمباهج الجسدية وآخِرها، وبين الأوّل والآخِر حالةُ شاعرٍ جاهرَ بالممنوعات من كل فجّ عميق، وجاهر بالغلمان المرفوضين عند فئات واسعة، وجاهر برفاق السوء، وجاهر بالكُفر والزندقة... وكان شاعراً حقيقياً في حالاته كلّها. وقد ساوى تماماً بين كل ما يفعل ويحب، فلم يكتب إلّا ما كان يهزّه ويهزّ سامعيه، وحتى الذين لم يعتبروه شاعراً أساساً لم يقيموا اعتبارهم على نتاجه المتميّز بل على صيتِه الهشّ وسُمعته الفاجرة وأسلوب حياته المتفجّر موبقات.
أمّا عن التوبة فرغم أن قصائد عدة قالها أبو نواس في هذا الشأن، لكن الشك استمرّ في أنها صحيحة أم لا، وناتجة من توبة نصوحة أم من مراعاة كَبر في السنّ ومرَض في الجسد وضعف حالٍ ومالٍ:
إلهي لا تعذبْني فإنّي 
مُقِرّ بالذي قد كان منّي
يظنّ الناسُ بي خيراً وإنّي 
لَشَرُّ الناسِ إن لم تَعْفُ عنّي!
ونهاية بودلير لم تكن أخف وطأة من نهاية أبي نواس، فقد هجم عليه دائنوه وهرب منهم فغيّر مكان سكَنه بين فندق وغرف صغيرة أربعين مرة في سنتين واشتدّت عليه الأزمة ففكر بالانتحار عام ١٩٤٥ وطَعَن نفسَه في صدره لكنه نجا. وكانت لهُ بقية حياة لا تطاق.
يقول بودلير:
«أحسد مصير الحيوانات الأكثر رداءة
لأنها تستطيع أن تغطس في نعاس غبيّ
في الوقت الذي تنحلّ فيه بكرة
خيوط الزمن ببطء»...
... ويقول أيضاً في مكان آخر، عابثاً لطيفاً كالظلال:
امرأتي ماتت، أنا حرّ
أستطيع أن أشرب على كَيفي
عندما كنت أعود بدون فلس في جيبي
كانت زعقاتها تمزق أعصابي
أنا سعيدٌ كمَلك
الهواءُ نقي، والسماءُ رائعة
عشنا صيفاً مشابهاً
عندما كنت مغرماً بها!
... ولأبي نواس هذا المقطع:
أَيا رُبَّ وَجهٍ في التُرابِ عَتيقِ
وَيا رُبَّ حُسنٍ في التُرابِ رَقيقِ
وَيا رُبَّ حَزمٍ في التُرابِ وَنَجدَةٍ
وَيا رُبَّ رَأيٍ في التُرابِ وَثيقِ
أَرى كُلَّ حَيٍّ هالِكاً وَابنَ هالِكٍ
وَذا نَسَبٍ في الهالِكينَ عَريقِ
فَقُل لِقَريبِ الدارِ إِنَّكَ ظاعِنٌ
إِلى مَنزِلٍ نائي المَحَلِّ سَحيقِ
إذا امتَحَنَ الدُنيا لَبيبٌ تَكَشَّفَت
لَهُ عَن عَدوٍّ في ثِيابِ صَديقِ.
والحب (مع المرأة) عند أبي نواس لم يكن شيئاً لازِماً في متن الحياة، أو أساساً من أُسُسِها، وحين كتب غزلاً لم يُفلِح في تقميش شِعر بمستوى ما كتب سخريةً أو إدماناً للشراب أو بمواجهة المجتمع. فأغلب شِعره العاطفي موجّه إلى جارية اسمها جنان: جميلة وذكية وامرأة علْم كما روي عنها وكانت وصيفةً لسيدة جليلة. جنان رفضت أن يقترب إليها أبو نواس اقترابَ عاشقَين بعد محاولات لم تُنتِج تعارفاً كالمألوف. وصدودها كان تعبيراً عن احتجاجها على شخصية أبي نواس الركيكة غير المُعتَبَرة في المجتمع. وبودلير هو الآخر عاش قصة حبّ متفسّخة زادت من تعقيدات يومياته المُضيّعة بينه ككائن مسبوق باللعنات كيفما توجّه، وبين حبيبة مغمورة بصعوبات عيش فتّاك. وينبغي دراسةُ الأمر موضوعياً: إلى أي حدّ كانت المرحلة الزمنية التي عاش فيها أبو نواس ثم بودلير، كلّ على حِدة، مخضوضة بالأزمات السياسية والاجتماعية التي أثّرت سلباً في جذبهما المأساوي نحو الطابق السفلي من الوجود بما فيه من ظلام وعفن ورطوبة قاتلة، وكيف كانت طِباع الناس تشكِّل بمعاييرها «نموذج» الرّجُل المكتمل العناصر، ولم يكن في أبي نواس ولا في بودلير «المقوّمات» المطلوبة، فانكفآ أكثر فأكثر حتى باتت الحياة عبئاً لا عليهما فحسب، بل على أغلب من كان يتعامل معهما! فتحوّلا إلى فِدائيَّيْن في تخريب حياتهما وقرآ فوقها قصائدهما رثائيات وأغاني لا تعرف أين هي تلطمُ ولا أين هي تنظُمُ!
وتحتل الأسئلة الخاصة بالوجود وبالإنسان حيّزاً واضحاً في قصائد بودلير وقصائد أبي نواس على حدّ سواء، وتستطيع تبيُّن الكثير من التفاصيل المشتركة في المعاناة بين سطور هذا وسطور ذاك. الرفض والمعاندة والرضوخ والاستسلام في آن واحد. حالات مشتبِكَة ومشترَكَة بين حياتين بعيدتين في الزمن قريبتين في الملامح الكبرى والصغرى التي تحاصرهُما. أدنى الأشياء قيمة في عين أبي نواس وعين بودلير قد يفتح مجالاً لأصعب الأسئلة التي لم تعرف جواباً يوماً، فكيف بالأشياء الأساسية المتعلّقة بالنفس والجسد وما بينهما من تواصل وتفاصُل. على أن الغرابة تكمن في قدرة الشاعرين على ابتكار السؤال من جوف مرارات تتلاحق كأنها على موعد مع نفسِها المُتوَهَّمة ولا تريد أن يتبدد الموعد واللقاء، مع النتيجة التي لا تقدّم ولا تؤخّر في النهاية. ذلك أن القصيدة المندلعة من عصب بشري، ومحترقة بالألم البشري، بمشاركة شؤون الدنيا وشجونها، تحاول أن تُقَلِّبُ صاحبها على النار في الطريق إلى جهنّمهِ المحتَّمة، ويبدو الطريق على الورق أرَقّ بكثير من الطريق في الواقع النفسي. من هنا تتخذ بعض القصائد شكل الفتوحات أحياناً في المعاني والأفكار المتوثّبة، غير أنها لا تواظب على الثقل التعبيري في مواضيع أخرى فيفلتُ زمامها في أكثر من اتجاه!
يقول الأدب العربي عن شُعراء مثل أبي نواس أنهم كانوا مثابة «صعاليك» وفي بعض شِعرهم ما لم يصطَدْه العباقرة من الأسوياء، بينما يقول الأدب الغربي عنهم أنهم «بوهيميون» باعوا الواقع والحاضر والماضي والمستقبل بأيام وهمية مُتخَيَّلَة اختاروا تجسيدها بالشِّعر العالي أمام عمْرٍ يرمي فيه الإنسان نفسه كأي شيءٍ تافه في مكان تافه في زمن تافه، وهو يظن أنه مالكُ المُلْكِ... إلّا قليلاً!