بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 آذار 2024 12:00ص جوليان فينسان: مع ازديادِ مَعارِفنا يزدادُ جَهلُنا

حجم الخط
ترجمة: د. محمود الذوّادي*

التقدُّم الذي حقَّقته البشريّة هو حصيلة نور العِلم الذي اكتسبته المُجتمعاتُ البشريّة، والعصر الحديث شاهدٌ على ذلك. فقراءة التأمّلات الفلسفيّة في المقابلة التالية مع الأستاذ الفرنسيّ المُتميّز في فلسفة وتاريخ العلوم في جامعة نانت Nantes جوليان فينسان Julien Vincent والتي نُشرت في عددٍ خاصّ من مجلّة Les Grands Dossiers des Sciences Humaines بعنوان «ما هو العِلم؟» (العدد 64، سنة 2021، ص60-62)، تُعمِّق فهمَنا لطبيعة هذا العِلم.
تتلو النظريّات بعضها بعضاً وتتجمَّع المعارف، لكنّ جَهلنا يزداد أيضاً مع كثيرٍ من التقدُّم في المعرفة العلميّة:
س: ما هو التقدُّم العلميّ؟
ج: كاقترابٍ أوّل من الموضوع، التقدُّم العلمي يشير إلى تجميع المعارف حول الطبيعة. في الوقت نفسه، يشير هذا المفهوم إلى فكرة أنّ نظريّات مختلفة تتوالى عبر التاريخ، وإلى تفسيراتٍ علميّة جديدة تعوِّض القديمة. نستطيع أن نفكِّر في أنّ هذَيْن المَعلمَيْن متلازمان طبيعيّاً: فنظريّة جديدة، يُنتظر أن يكون لها مجموع معارف أكثر أهميّة، وإذن أكثر قوّة، قادرة على تفسير عددٍ أكبر من الظواهر من السابقات. لكنّ الأشياء أكثر تعقيداً من ذلك. مثلاً، فنظريّة أكثر قوّة لا تُلغي حتماً السابقة لها. أنظر إلى القانون الذي يَصِف سقوطَ الأجسام ويفسِّرها في عِلم الفيزياء: وَقَعَ تأسيسه في إطار الفيزياء الكلاسيكيّة لغاليلي وإسحاق نيوتن في القرن السّابع عشر. وَقَعَ تعويضُ هذا الإطار النظري بالنسبيّة العامّة لألبرت أينشتاين في القرن العشرين. تسمح هذه المُقارَبة بتفسير ظواهر أكثر، بخاصّة عندما يتعلّق الأمر بحركاتٍ سريعة جدّاً على سلّم الكَون؛ على الرّغم من ذلك تبقى مُعادَلات إسحاق نيوتن صالحة لكلّ سلّم آخر نستطيع استعماله في حساب مدار الأرض على سبيل المثال.
س: هل تُتمِّم أو تُعوِّض المعارفُ الجديدة المعارفَ القديمة؟
ج: هذا سؤال كبير. من جهة، لا نكران أنّ بعض المعارف تبقى حتّى لمّا يُهجَر الإطار النظري الذي كان سبباً في ميلادها. فعُمر الأرض والصفة الزمنيّة للخاصيّات الكميائيّة وخاصيّات مناطق المخّ غير مستعدّة للشكّ فيها. من جهةٍ أخرى، فإنّ ظهور نظريّة جديدة لا تؤمن بحصول «تقدُّم»، بمعنىً «أكثر قرباً من الحقيقة» اليوم، على سبيل المثال، يتّفق علماء الفيزياء على القول إنّ أربعة تفاعلات بدائيّة، كهربائيّة مغناطسيّة جاذبيّة، مسؤولة عن جميع الظواهر الفيزيائيّة الملاحظَة في الكون. لو نعود إلى العصر القديم، سنَجد أنّ كثيراً من الفلاسفة فكَّروا بعد الفيلسوف أمبادوقليس (خمسة قرون قبل ميلاد السيّد المسيح) أنّ كلّ الأجسام والعناصر الماديّة كانت مكوَّنة من أربعة عناصر: الماء والأرض والهواء والنار. لنطْرح على أنفسنا السؤال: هل إنّ إحدى هذه النظريّات أكثر قرباً من نظريّة أخرى إلى «حقيقة» تميل إلى القول قطعيّاً، ما هي طبيعة المادّة والتفاعُلات في الكون؟ عندما نجيب بالإيجاب، كما نريد، نخلط الحقيقة بالقوّة أو بالنجاعة. في الواقع، لا نملك الإجابة عن أيّ شيء جليّ.
س: لماذا تكتبون أنّ جهلنا يزداد، في الوقت نفسه الذي تزداد فيه معارفنا؟
ج: من وجهة نظري، إنّ الذي يتقدّم ليس المعرفة النهائيّة لقوانين الطبيعة؛ فاكتشافٌ علميٌّ ما، لا يقول لنا أبداً ما هو العالَم في الحقيقة، وباستقلاليّةٍ عن الطريقة التي نُدركه بها. بعبارةٍ أخرى، فالذي يتقدَّم هو امتلاك المعرفة بأنفسنا في صلب الطبيعة. لكنْ هناك أيضاً شيء لا يُدرَك، ولا يكاد تجديد مساءلته ينتهي. لنضرب مثلاً كي نكون أكثر وضوحاً: في القرن السّابع عشر يؤكِّد رينيه ديكارت René Descartes بعد جيوردانو برونو Giordano Bruno أنّ الكون ليس نوعاً من الفقّاعة، ولا يوجد حدٌّ يُحيط عالمنا، وهو أمر متناقض مع ما فكَّر فيه القدماء. بالنسبة إلى ديكارت، ليس هناك تميُّز أساسي بين هذه المساحة، من دون نهاية، والمادّة التي ترتبط بها. كانت هذه النظريّة مصدراً للتقدُّم، لكنّها فَتحت أيضاً تساؤلات «مدوّخة» للبشريّة. كيف تُفهم هذه المادّة التي تكوِّن السموات؟ إلى أيّ حدّ يتمدَّد العالَم إذا لم يكُن له حدود؟ ما هي طبيعة النجوم والكواكب؟ كم تبعد عنّا وبشكلٍ نهائي، وما هو موقعنا الخاصّ في الكون؟ فكلّ مرّة يتمّ الإعلان عن نظريّة، تَفتح هذه النظريّة مقداراً مُساوياً من الأبواب لِما تجلبه من أجوبة وتُرجعنا إلى جهلنا الأساسي بالنسبة إلى أنفسنا.
س: لنأخذ مثالاً حاضراً، على أيّ شيء تشهد جائحة كوفيد19: في الوقت نفسه تشهد على التقدُّم العلميّ والتوالي في جهلنا؟
ج: يُظهر هذا الحدثُ من ناحيةٍ أنّه ليس هناك ما يدعو إلى الإيمان بالنسبيّة. بفضل التقدُّم الكبير في البيولوجيا الجزئيّة، كنّا قادرين على فكّ جينوم الفيروس ومتغيّراته في وقتٍ قصير. إذن، فالتقدُّم موجود. لكنْ بصفةٍ عامّة أكثر، هذه الأزمة تشدّ الانتباه، لأنّها تسمح برؤية ازدواجيّة كاملة للتقدُّم العلمي الكبير. من جهة، وبالإضافة إلى تسلسُل الفيروسات، فإنّ البحوث الأساسيّة التي أُنجزت حوله منذ بعض عشرات السنين سمحت بإعداد خطّة تلقيحيّة بكفاءة كبيرة في وقتٍ قصير جدّاً. تحقَّق كثيرٌ من التقدُّم في موضوع النمْذَجة، ولاسيّما في الرياضيّات، بفضل أدواتٍ رقميّة ومعلوماتيّة، فكان لذلك أثرٌ متناقض: فبواسطة قدرتها على دمْجِ المعطيات الجديدة، سمحت النمذجات بالحصول على انعكاساتٍ دقيقة، لكن في الوقت نفسه، فإنّ فرضيّات البداية متغيّرة من فريق إلى آخر، والنتائج المتحصَّل عليها كانت متغيّرة جدّاً، الأمر الذي أزعج الجمهور. يبدو لي أنّ جهلنا قد تقدَّم أيضاً، وأنّ بعض المفاهيم الأساسيّة في عِلم الجائحات/ الأوبئة أصابها الارتعاش.
س: ما هي الأسئلة الجديدة التي ظهرت مثلاً؟
ج: جميع تلك الأسئلة ذات العلاقة في الحاضر والمستقبل بالجائحات. هل يجب البحث عن تحقيق مناعة جماعيّة عندما، لأسبابٍ متعدّدة، لا يكون جزءٌ كبيرٌ من سكّان العالَم قد قام بالتلقيح في شكلٍ جيّد، وفي الموعد المطلوب؟ كيف تُفهم المعالِم الجديدة وتصنيف تلك الأمراض التي تُنقل من الحيوانات إلى البشر؟ لا نعرف أيضاً تفسير الفَرق الكبير في ردّ الفعل بحسب سنّ الناس المُصابين. يجب أيضاً الأخذ بعَين الاعتبار عمليّات تطوّرية داروينيّة بأنّ هذه الجرثومة ومتغيّراتها تحضر لدينا بإيقاعٍ مدهش.
إلى أيّ حدّ يرتبط نشاطنا على الكوكب الأرضي، ضياع الغابات والتربية الحيوانيّة المكثّفة وديمقراطيّة التنقّلات العالميّة، بظهور هذه الجائحات؟ ربّما يجب استحداث نوعٍ من عِلم أساسي «بيئي/ إيكولوجي».
س: يَجِدُ الجمهورُ صعوبةً في تمييز العِلم «كنشاطٍ قَيد الإنجاز» والمعارف المُكتسبَة، وكذلك المُنازعات التي تظهر في طليعة المشهد. كيف يستطيع الإنسان العاديّ أن يضعَ نفسَه في هذه الظروف؟
ج: عندما يُجابِه العِلم أزمةً وتوسّعاً في الظواهر المدروسة، كما هو الحال مع أزمة هذه الأمراض، يتحرَّر، فيَطرح الباحثون والباحثات فرضيّات، وتبدأ المُنازعة. يحدث في لحظةٍ ما، كما يَصف ذلك توماس كون Thomas Kuhn، حين يتعرَّض البارادايم/ الإطار الفكري المُهيمِن للمُساءلة، ومنه يظهر نموذج جديد لهذه المُنازعات. لكنّ هذه «الثورات العلميّة» معقّدة! فليس للإنسان العادي المَعارف الضروريّة كي يعرف مَوضعه في هذه المُناقشات. يُشبه هذا الوضع حالة لو طلبنا من شخصٍ ما لم يتعلَّم أبداً الموسيقى أن يبيِّن الفَرْقَ بين عِلم الطباق ونظيره عِلم الإيقاع؛ فمن المحتمل أنّه لا يفهم حتّى السؤال، وهذا أمر عاديٌّ جدّاً... ولا نستطيع إرجاعه ثانيةً إلى الجمهور الكبير، لكن نستطيع أن نتحسَّر أنّ العلوم لا تمثّل جزءاً أكبر من الثقافة العامّة، كما هو الحال مع عِلم التاريخ أو الأدب، على سبيل المثال. فالثقافة العلميّة مُعترفٌ بها في الوقت نفسه كأمرٍ مُهمٍّ جدّاً، لكن ليس كشيءٍ ثقافيٍّ أساسيّ. فحتّى نُخبنا السياسيّة يُظهرون أحيانا أميّةً عِلميّة حقيقيّة، بينما هُم يُدْعَون للمشاركة في إشكالاتٍ معقّدة. إذن، يبدو لي ضروريّاً نَشْرُ الثقافة العلميّة أكثر، حتّى يستطيع كلُّ فرد أن يقدِّر أحسن ما تستطيع العلوم القيام به، وما هي حدودها.
س: هل من الأفضل وجوب إيضاح الفَرق بين البحث الأساسيّ والتطبيقات العمليّة بخاصّة؟
ج: العلوم الأساسيّة والتكنولوجيّات أو الهندسة، هي مجالاتٌ مختلفة في جوهرها. ومن المؤكَّد اليوم أنّه لطالما يقع الخلط بين التقدُّم والابتكار. وهكذا تتمثّل الفكرة السائدة في أنّه يجب على العِلم خدمة شيء ما. هذا من جهة. من جهة أخرى، فإنّ وجهة النَّظر هذه موروثة في جزءٍ كبير منها من العِلم نفسه. فالقرنان الثّامن عشر والتّاسع عشر شهدا ازدهار «العلميّة» القائلة إنّ تراكُم المعارف العلميّة والتطبيقات العمليّة تُزوِّدنا بنموذجٍ يُمكن نقله إلى أنشطةٍ إنسانيّة أخرى. نجم عن ذلك عقدٌ اجتماعي وأخلاقي جديد للإنسانيّة. لكن مع الأسف، يكفي النَّظر إلى التاريخ لنَلحَظ أنّ هذا لم يفلح. فالتأويلات والتطبيقات التكنولوجيّة للعلوم لم تستطع تغذية إيديولوجيّات قاتلة فقط، لكن ليس هناك عنصرٌ ناقلٌ للتقدُّم العلمي في اتّجاه التطوُّر السياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي. لماذا؟ بالضبط، لأنّ البحث الأساسي لا يختلط مع التكنولوجيّات والتقنيّات، وبصفةٍ عامّة أكثر، مع كلّ أشكال التطبيق العملي. فالبحث الأساسي هو نشاط ذو منطق خاصّ به أيضاً، وله نهايته الخاصّة به، كما لاحَظَ سابقاً الفيلسوف أرسطو في العصور القديمة. فالبحث الأساسي مدعوٌّ لتلبيةِ حبّ فضولنا الفكري، من دون أن يزوّدنا، بالضرورة، بنتائج تطبيقيّة.

* عالم اجتماع من تونس
(يُنشر هذا المقال بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونيّة الصادرة عن مؤسّسة الفكر العربيّ)