بيروت - لبنان

اخر الأخبار

27 كانون الثاني 2024 12:00ص حفلات معلّقة بين الأرض والسماء «يقتلُها» توقيتُها!

حجم الخط
الحفلات الغنائية الاحترافية جدا في الشكل والمضمون، الراقية في المشهدية، التي تقامُ في المملكة العربية السعودية، يمكن القول إن العالم العربي لم يعرف على مدى اهتمامه بالحفلات منذ الأربعينيات من القرن الماضي، أجمل منها حتى اليوم، لا في التحضير الموسيقي ولا الغنائي ولا في التصوير ولا في الديكور ولا في السينوغرافيا ولا في شيء. كأنما هذه الحفلات كانت في خيال شاعرٍ كالمتنبي مثلاً وحين فتَحَها أمام سيف الدولة أخذت طريقها إلى التنفيذ. بمعنى أنها حفلات قادمة من عالم غير محسوس غير ملموس ثم طُوّع ليكون في المتناوَل. النقاد الفنيون والجمهور المتابِع ومحطات التلفزة من المحيط إلى الخليج في حالةِ تكهُّنٍ بذلك السّحر التقني والفني المذهل الذي لا سوابق لهُ في ما سمِعنا ورأينا في بلادنا الواسعة، وكل حفلة تُتبَع بأخرى تُتبَع بثالثة فرابعة، ومن جميلٍ ألى أجمل إلى أكثر جمالاً. لا المغنون الضيوف يتعبون وهم ينفّذون ما كان محض صُوَر تمرّ في خيالهم في السابق ويرجون مجيء ظروف تذلّل ما كان مستحيلاً، ولا التقنيون، والمهم ولا الموسيقيون يُظهِرون طرَفاً من عتب أو عدم امتنان أو انزعاج من شيء. فعلاً وقولاً ممنوع الغلط، وعليك أن تراقب الفرقة الموسيقية الباهرة التي كأنها من صنف ملائكة وُضِعت في أمكنتها وطُلِب إليها أن تعزف أغاني قديمة وجديدة، في القديمة روائح زمن جميل لا يُنسى، وفي الجديدة طبائع الإبداع، وعليك إن كنتَ مستمعاً خلّاقاً وتفصيلياً ودقيقاً في الانتباه أن ترفع يديك بآهٍ طويلة من الروح. ونجوم العرب، لبنانيين ومصريين وخليجيين يملأون المكان بحضورهم الفاتن وبأصواتهم الغنيّة بالشجن والحب. هي حفلات لا يُضاف إليها حرف عن نقصان، وإذا أُضيفَ يُضاف عن نُشدان الاكتمال الأكبر. وحتى الاكتمال الأكبر الذي قد لا توفّق إليه حفلة لسبب ما، فإنه رفيق أكثر الحفلات التي تصل إلينا عبر الشاشة التي يجدر بنا الاعتراف بأن مخرجها ومصوّريها ليسوا عالميين بالهوية أو بالاحتراف المهني فقط، بل عالميين في معنى التقاط التفاصيل الدقيقة فكأن المصوّر رادار قائم بذاته يبحث على مدار وقت التصوير عن اللُقيات التي يحبّ، وكأن الكاميرا ملكة إغراء يبذل مَن حولها أنفسَهم في سبيلها.
غير أن عائقَين قويّيَن يرافقان الحفلات، وكل هذا الانتاج الضخم، غير المسبوق هُما: أولاً عدَدُها المتتالي السريع الإيقاع الذي «تقتل» فيه الحفلاتُ بعضها، بالتصاقها ببعضها وبتعاقبها العاجل الذي لا يرحمها هي نفسها. فكل حفلة من هذه الحفلات التي احتاجت أسابيع وربما أشهُرا في الإعداد، تحتاج أياماً على الأقل بعد التنفيذ ليتم استيعابُها من الجمهور، وتحليلُها من الإعلام. فالعادة أنه إذا كان لديك حفلة واحدة لنجمٍ من الكبار تبقى على أيام تُحصِي ما قيل من آراء مختصين حول سلبيات وإيجابيات في الحفلة، فكيف بك وأنت أمام عشرة نجوم كلٌّ قائم بذاته وقد اجتمعوا في أغانٍ لواحد أو أكثر منهم؟ عشرة أصوات رائعة وبارعة على مسرح واحد، فما هو السبيل للإحاطة بما فعل كل واحد من بينهم، وماذا كانت نتيجة التقائهم، وما هذه الثمرة الغرائبية المذهلة التي نشاهدها ونتحسّسها للمرة الأولى؟
والعائق الثاني، موقّت، وعربيّ المنحى، وهو أن الحفلات هذه على عظمة ما فيها من فنون الموسيقى والغناء واجتماع النجوم الكبار في جيل الشباب أو الجيل الذي يتوجه في أغانيه للشباب، تقام في الوقت نفسه الذي تتعرض مدينة غزة الفلسطينية لأبشع ظلْم في التاريخ المعاصر من عدوان إسرائيلي لا يفهَمُ شيئاً غير القتل والتدمير. وعلى رغم أن ذلك قد يوضع في خانة تفسير سياسي ليس وقته الآن، إلّا أن تفسيراً آخَر يسرق الكاميرا والأضواء فعلاً ليرسمَ ما يجري في خانةِ مواجهة الموت بالحياة والفنون. لكنّ ضغط الحالة الفلسطينية، حتى ولو لم تُحسَب الحفلات في ملعب «الترجمة» السياسية المقصودة، فإنها لا تجدُ لدى المتابعين أو الراغبين بها كفنّ غير متاح دائماً، بالوقتَ الكافي والملائم للانصراف إليها عن قُرب. هَمُّ غزّة الكبير يمنع الكثير من الجمهور ولو لم يتمسكوا بأي تفسير سياسي أن يتابعوا حفلات السعودية بهدوء ورويّة، إنسانياً ووجدانياً، لذلك فهي تخسَر كثيراً من معانيها.
لقد سبقت حفلات الغناء في المملكة العربية السعودية، جميع مَن كانوا سابقيها في العالم العربي، بالمسارح التي تُبنى وكأنها معلّقة بين الأرض والسماء، وبنجوم الغناء الذين اكتسبوا مشروعية عالية وكرامة فنية تضاعِفُ جماهيريتهم وهذا وحده لو انهم سيخططون له سنوات وسيبذلون في سبيله الأموال لن يستطيعوا وحدَهم تحقيقه بهذا الحجم والاتقان. وثمة ما ينبغي أن يُعتَرَف به لهيئة الترفيه في المملكة وهو أن الغناء العربي الذي يطلَع كل مدّة بعد مُدّة، من يقول بمَوته، أي مَوتُ الغناء عبر مَوت الأصوات التي تعبُر الأجيال، يعود هذا الغناء من السعودية إلى البيوت العربية معزّزاً بثقة عالية. ويتبين أن هناك نسبة كبيرة جداً من الأغاني العربية، سواء من مصر أو لبنان أو الخليج ما مرّت في ربع القرن الأخير كما يمرّ السائلُ على مائدة اللئام، بل، عبر تظهيرها بهذه الأشكال الاستعراضية في حفلات السعودية، استعادت أنفاسَها وطرحت ما عندها من جديد ولفتت العيون والقلوب، وكان على ما يبدو ينقصها التركيز عليها في إطار جَمالي عام!
هناك غزو فني عربي من السعودية مشغول بصبر واحتراف وأرقام مالية فلكية أخضَعت أكبر التصاميم الهندسية المسرحية، وأكبر الفرق الموسيقية، وأكبر النجوم لإرادة الجمال الفني الذي فيه طعم خُلود مُرتَجى!