بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 أيلول 2023 12:00ص خواء... ولكن!

حجم الخط
اللبنانيون قساة إزاء أنفسهم. متأهّبون لانتقاد أحدهم الآخرين مردّداً كليشيهات سلبية بلا تمیيز، من مثل: انهم أناس أمّيون بدائيون فوضويون أشرار وأثرياء حروب; أما النساء، فمغفّلات يُنفَق عليهنَّ وتستحوذ عليهنَّ شؤون أجسامهنّ والدُّرجة - ولكنهنَّ دوماً متخلّفات عن «صرعة» ما أجنبية - يُصلح اشكالهنَّ نفخُ «بوتوكس» من هنا ومشرط من هناك، يخدمهنَّ فريق عمل غريب عجيب، يسئنَ التصرف مع الخادمات، وهنّ غائبات عن أولادهنَّ الذين هم حتماً سيئو التنشئة جدّ مدلَّلين..
لا شك في انّ هذه الظاهرات واقعية، ولكنها لا تستحوذ على المشهد العام الى حدّ انها تمثّل نموذجاً مثاليّاً أصليّاً. ونسأل أحيانا من أين تأتينا هذه النزعة الأليمة المدمّرة والعقيمة الى نكء جروحنا حتى تسيل منا الدماء. هل مردّها الى اننا خضونا مراراً الى كيانات غربية بحيث تسعى للإشاحة عن أمثالنا فنتبنّى وجهة نظر الأقوى؟ هنا سلوك مَن يقول «نعم، ولكنني لستُ منهم»؟
ولكن، ماذا لو عكسنا الصورة المؤسِفة تلك؟..
ماذا لو نظرنا بالأحرى الى جانبها الخفيّ؟ ليست حياتنا سهلة في بلد ما زال يفتقر الى مقومات الاستقرار ويعرج على أساس من قوانين قديمة وبنى تحتية مهجورة وإدارة رعناء. ولكن، إذا ما أنعمنا النظر في تلك المدن الفوضوية والأزقّة المصدَّعة وتعايش العهود والثقافات والعادات، وتشابك الخطوط الكهربائية والقنوات البالية والصهاريج المتنقّلة في عزّ كانون وجبّالات الباطون والجرّافات «المدخَّنة» والشاحنات المكشوفة التي تعيق السير ليلَ نهار، وفي أولئك المتسوّلين الوافدين من كل حدب وصوب والذين یزعجون سائقي السيارات على كل مفرق طرق، وفي الوقت الضائع والضغط النفسي غير المجدي، إذا ما أنعمنا النظر في كل ذلك، رأينا انه يقودنا الى واقع هوية بل شخصية لا تخلو من الفائدة والجدوى. ذلك ان هذا الصخب والتشوّش و«التفاصيل» التي يعشعش فيها جميع الشياطين، التي تستنفدنا، ما لم تتجسّد بين الفينة والفينة في أعمال عنف فجائية، تولّد في النهاية جيلاً جديرا بالاهتمام!
فما زال لبنان يصدِّر الى العالم كباراً في عوالم الفن والعلم والسياسة الراقية. من خوائنا، تنطلق جذوة من هنا وجذوة من هناك. الحال ان عالماً يتاخم الكمال لا يصلح لتفجير قوى العقل والخيال. الكبت الذي ينمّي بعض كبارنا يحمل بعضنا على الحلم بعالم أفضل. الأحلام التي يولّدونها من حيث لا يعلمون ويريدون، هي جد دقيقة وتستجيب لنواقصنا. في عالم تتفاقم فيه مظاهر الفوضى والاكتظاظ بالسكان، ترتدي نظرة لبنانيّ أو لبنانية ما طابع الكلية بل الخلاصية. بفضل مادة أحلام أولادنا، يبتدعون بلسماً للجراح والأحزان ويستعيضون من الجمال كلما أزاحه عنهم قساة القلوب!
ان خواءَنا لمضيء أحيانا!

أستاذ في المعهد الدولي للدكتوراه