بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 شباط 2024 12:00ص د. خالد زيادة في كتابه "مصر - الثقافة والهوية": رصد دقيق لتطوّر السياسة ودور المثقّف

د. خالد زيادة د. خالد زيادة
حجم الخط
يغلُّ د. خالد زيادة عميقاً في تناوله للوضع السياسي في مصر في العصر الحديث وكيف تطوّر هذا الوضع إن داخلها أو حولها وتأثير ذلك، متجاوزاً الحدود الجغرافية، وكيف ان تأثير المثقف قد تجاوز هذه الحدود مساهماً في نشر نماذج حديثة في الكتابة نقل من خلالها أساليب التعبير الشائعة في أوروبا، شملت استخدام الصحف لنقل ما يشهد العالم من تطورات في العلوم والتقنيات والسياسة.
نظراً لأهمية الكتاب تنشر «اللواء» المدخل إليه الذي يضيء على مضمونه.

هذا الكتاب محاولة لرصد تطور السياسة في مصر، بالتوازي مع تطور دور المثقف منذ بداية القرن التاسع عشر، وحتى السنوات الأخيرة.
وما يدعونا إلى هذه المحاولة هو الأسئلة الكثيرة التي لا تزال الإجابات عنها عامة أو غامضة، خصوصاً حين نعزل المثقف عن بيئته وتجربته، ونطلب منه دوراً كأنه يملك الحلول لمشكلات مجتمعه أو كأنه نبي معاصر، وهنا، يطرح السؤالان الآتيان: هل يمكن أن نعزل الثقافة عن السياسة، وأن نرفع المثقف فوق السياسة وتناقضات القوى السياسية في لحظة ما؟ وهل المثقف مستقل حقيقة عن الدولة وقادر على أن يحدّد بنفسه دوره ووظيفته بمعزل عن السلطة القائمة؟ وإذا افترضنا أن للمثقف دورا، فهل يبقى هذا الدور من دون تبديل؟ أو ألا يطرأ عليه تغيير من حقبة إلى أخرى؟ وإذا افترضنا أن للمثقف دوراً ووظيفة، فهل ثمة تناقض بين الأمرين أم إنهما يتكاملان؟ وهل تصاعد دور المثقف السياسي أو الاجتماعي يطغى على وظيفته كاتبا أو جامعيا أو غير ذلك، أم إن انحسار الدور لهذا السبب أو ذاك، يخفض من شأنه وشأن وظيفته؟ وإذا تخلّى المثقف عن دوره وأجبرته الظروف على التخلّي عن دوريه الاجتماعي والسياسي، فهل يبقى محتفظا بصفته أم إنه يتحوّل إلى مجرد حرفي أو صاحب مهنة؟
ويمكننا أن نطرح أسئلة من نوع آخر: ما مساهمة المثقف في بناء الدولة، ومساهمته في بلورة الفكرة الوطنية ؟ وهل هو الذي صاغ الهوية الوطنية أم شارك قوى أخرى في صوغها؟
أسئلة عدّة إذا، لا يمكن أن تُطرح باعتبارها أسئلة نظرية تتطلب إجابات من العيار نفسه، وإذا كان من المتعذر الإجابة عنها جملة، فإن الإجابة لا بد أن تكون في إطار تجربة محددة أو تجارب مقارنة.
يحتاج الخوض في هذه المحاولة إلى أمرين، الأول: تعيين المثقف، ومتى ظهرت الشخصية والتسمية، والأمر الآخر هو وضع الأسئلة في إطار تجربة تاريخية محددة. 
من البدهي القول إن ظهور المثقف وبروزه سبقا التسمية، وعادة ما تُطلَق التسمية على أولئك الذين اكتسبوا شيئاً أو بعضاً من ثقافة الغرب، والذين احتلوا وظائف لم يكن العالم التقليدي الفقيه يقوم بها، وهي تتجاوز علوم الكاتب الديواني أو المحاسب الذي يحصي الضرائب. هذه الوظيفة تجدها في مصر أو في تركيا العثمانية حين كان العاهل يرسل بعثات إلى عواصم أوروبا ليتعلم أفرادها التقنيات الحديثة ويطّلعوا على أساليب الإدارة في الدول الأوروبية. وحتى فترة متقدمة من القرن التاسع عشر، كان يصعب الفصل بين الوظائف الإدارية والتعليمية والعسكرية، وكان في إمكان الشخص الواحد أن يتقلب في هذه الوظائف خلال فترة خدمته الدولتية.
وبعد أن أُطيحت القوات العسكرية القديمة/ السيفية، وأُنشئ جيش نظامي مدرّب وفق العلوم الأوروبية، نما دور المثقف على حساب الأركان الثلاثة التي تقوم عليها الدولة التقليدية، وهي العلمية والقلمية والسيفية.
يعني ذلك أن البحث يتطلب الرجوع إلى حقبة التحديث. ويمكن من الناحية المنهجية أن نأخذ في الاعتبار ثلاث حقبات كبرى مرَّ بها عالمنا العربي: الأولى هي مرحلة الإصلاح أو النهضة، والتي تعرف أيضا بمرحلة التنظيمات التي شملت معظم سنوات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والثانية هي المرحلة التي شهدت السعي إلى الاستقلال وبروز الوطنيات مع هيمنة نسبية للأفكار الليبرالية، والثالثة هي المرحلة التي استَتَبت فيها الأنظمة الوطنية من طريق النضال ضد الاستعمار أو من طريق الثورات والانقلابات.
إن الثقافة، مدارس واتجاهات، لا تتأثر تأثّرا آليا بالتغيّرات. ونظرا إلى كون المراحل التي أشرنا إليها لا يتجاوز كل منها سوى بضعة عقود، فإن كثيرين من الذين كانوا يمارسون المهن الأدبية والفكرية استطاعوا أن يعايشوا أكثر من مرحلة، حيث يصعب القول إن الانتقال من مرحلة إلى أخرى لا يؤثر في آراء هذا المثقف أو ذاك، ولا في مواقف كلّ منهما.
لكن الأمر الأهم في هذا السياق هو وضعية المثقف ضمن التراتبية في الدولة والمجتمع، والدور المتاح أمامه وحدوده والعوائق التي يجابهها.
في مرحلة النهضة والتنظيمات، كانت الأدوار متاحة لأولئك الذين تلقوا تدريبا غربيا وأخذوا بعض علوم أوروبا وأتقنوا لغة من لغاتها، الفرنسية في معظم الحالات، حيث كانوا شركاء في مشروع العاهل، وكانوا هم الذين ساهموا في بناء مؤسسات الدولة الحديثة. يرجع ذلك إلى اقتناع جميع الفاعلين، من سياسيين وإداريين ومثقفين، بأن من الممكن تمثل ثقافة أوروبا، وبأن بناء قوات عسكرية وأجهزة دولة، وأجهزة قضائية وتعليمية نظيرة لما سبق لدول أوروبا أن أنشأته وأظهرت فاعليته ما هو إلّا مسألة وقت وتدرب. وقد استمد المثقف تأثيره من خلال المسؤوليات التي أناطها به العاهل أو الحاكم.
كانت مرحلة النهضة قد أتاحت ظهور وسائط تنشر عبرها الأفكار والمصطلحات الجديدة، مثل المعهد الذي يدرس علوماً حديثة ولغات أوروبية. وكانت هذه الوسائط في قبضة الإدارة الدولة، وقد عكست مناخاً انطوى على أمور شتّى، بما في ذلك المطالبة بإقرار الدستور. وخلال سنوات قليلة، حدثت تطورات ستنهي عهد التنظيمات وحقبة النهضة، كان أبرزها إعلان الدستور في اسطنبول في عام 1876، ثم تعليق العمل به خلال سنة واحدة، وقيام ثورة عرابي التي تلاها الاحتلال الإنكليزي لمصر في عام 1882، في الوقت الذي احتلت القوات الفرنسية تونس.
قد لا يكون ثمة رابط يصل بين تلك الأحداث والوقائع، إلّا أنها أدّت إلى ظهور رأي عام مهم، وإن كان ضيقاً أو محدوداً، يطالب بإعادة العمل بالدستور أو مجابهة الاحتلال الأجنبي. وخلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، نشأ مثقف غير مرتبط بخدمة الدولة، ولا هو موظف في إداراتها أو مؤسساتها، في الوقت الذي توسعت دائرة قراء الصحف المعترضة، بالتالي تكون رأي عام يناقض رأي الحاكم، حيث أدّى ذلك كله إلى نشوء السياسة التي عبّرت عن نفسها في أحزاب أو تيارات ليبرالية وإصلاحية.
اختلفت وضعية المثقف؛ ففي تلك الفترة التي ميزت السنوات الأولى من القرن العشرين، كان المثقف هو الداعية إلى الدستور والمعبّر عن الوطنية والمروّج للأفكار ومطلق الشعارات. وقد استمر على ذلك النحو عقوداً، تجاورت فيها شعارات بناء الدولة والمطالبة بالاستقلال والتحرر، وصولا إلى نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، هنا أو هناك.
في إطار العالم العربي، كانت مصر البلد الذي تسمح تجربته التاريخية منذ بداية القرن التاسع عشر بتعقّب التحولات التي عبّرت عن بروز المثقف، وبناء الوطنية، وصراعات الهوية، وصعود دور المثقف وتحولاته وتراجعه واندثاره أمام الدولة والنظام الذي استحوذ على دور المثقف عبر إسكاته أو احتوائه.
على عكس محيطها العربي أو محيطها الأفريقي، كانت مصر تسعى إلى دور سياسي يتجاوز جغرافيتها التي تضعها في عزلة عن العالم. وسعت خلال 200 عام إلى النهوض بدور إقليمي يجعلها قوة دولية، لكنها كانت تنكفئ وترجع إلى العزلة. وكان دور المثقف يختلف من مرحلة إلى أخرى؛ ففي الظروف المصيرية والتحولات، كان العلماء وأهل الخبرة والقانون يحضرون أو يستدعون إلى تأدية أدوارهم. لكن استتباب الأمور بعد حسم الصراع على السلطة، كان يعيد المثقفين إلى وظائفهم.
إن تاريخ مصر يقدم لنا الأمثلة على علاقة المثقف بالسلطة والعسكر؛ ففي مرحلة الانتقال من الدولة الأيوبية إلى الدولة المملوكية، وخلال سنوات الاضطراب، برز عز الدين بن عبد السلام (1181-1262) الذي أصبح مرجعاً وحكماً وناصحاً للقادة والسلاطين. وقد تكون الحقبة المملوكية (1250-1516) أكثر من سائر حقبات تاريخ مصر بروزا من حيث ارتفاع شأن العلماء فيها، وهم الذين أصبحوا قادة الأهالي وشركاء في السلطة في فترة اتسمت بخصوبة في الدراسات العربية والفقهية والمعجمية؛ ذلك أن الفترة العثمانية شهدت تراجع شأن العلماء وركود الحياة العلمية في مصر، وفق ما سجل عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه. مع ذلك، فإن الاضطراب الذي أحدثه الاحتلال الفرنسي، وهروب أمراء المماليك سيضعان العلماء في واجهة الأحداث؛ إذ إن نابليون بونابرت كلّفهم إدارة البلاد من خلال الديوان الذي شكّله. واستمر العلماء في قيادة الأهالي والتعبير عن مطالبهم حتى تسميتهم محمد علي واليا على مصر، فسلبهم هذا الأخير دورهم الأصلي وألزمهم تأدية وظائفهم في التدريس، إلا أن محمد علي سيعمل خلال فترة حكمه المديدة، على إعداد خبراء في الإدارة والمعاهد والجيش، تميّزهم خبرتهم الحديثة التي تلقّوها في معاهد فرنسا أو من خبراء فرنسيين، يبرز هذا الخبير المثقف الذي يمثله رفاعة الطهطاوي، ثم علي مبارك الذي برز دوره في عهد الخديوي إسماعيل.
‏ورث المثقف الحديث طرفاً من وظائف العالم، واستحوذ على وظيفة كاتب الديوان. لكن هذا المثقف، وعلى عكس العالم التقليدي، يدين بوجوده إلى مشروع الدولة الحديثة، وقد عمل في مؤسسات تلك الدولة ودرس في ما افتتحته من معاهد. إلّا أن صلة المثقف بالدولة وفكرتها لا تقتصر على خدمتها والعمل من خلال مؤسساتها، بل أصبحت أفكاره مرتبطة باعتماد الدولة لها، وهذا يعني أن دور المثقف الحديث ووظائفه قد ارتسما بالعلاقة مع الدولة، معارضا أو مواليا. ويعود ذلك إلى قبول مفهوم السلطة؛ فالدولة التقليدية كانت مهمتها تقتصر على فرض الضرائب وجمعها، ويتولى ذلك جهاز الكتاب (القلمية)، فيما يتولى العسكر (السيفية) مهمة أخرى، ويتولى شؤون الشريعة وتدريسها والعمل بأحكامها العلماء (العلمية) الذين يشكلون جسما يتمتع باستقلال نسبي عن السلطة السياسية، وفق تقليد رسخ منذ أيام المماليك.
هذا الاستقلال النسبي الذي تمتع به جسم العلماء، افتقده المثقف الحديث الملحق بمؤسسات الدولة والمرتبط وجوده بفكرتها؛ إذ إن مهمة الدولة الحديثة لم تعد تقتصر على جمع الضرائب وتوفير الأمن، بل إنها استحوذت على الفضاء الاجتماعي العام، وصار الأمن والتعليم والقضاء والعمران بإشراف مؤسساتها. باختصار، فإن الحياة اليومية أصبحت في يد الدولة التي فرضت القيود، أي التسجيل والدفترة، فأصبح كل فرد (مواطن) مقيداً في سجلات الولادة والجندية والتعليم والعمل... إلخ. وبهذا المعنى، فإن فكرة المثقف المستقل هي مجرد استعارة رمزية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المثقف المعارض الذي يعارض دولة قائمة باسم دولته المثالية، أو الدولة كما يفترض أن تؤدي وظائفها.
إن الدولة، إضافة إلى فكرتها وسيادتها، لا يمكن أن تفهم أو أن تمارس عملها، إلّا من خلال أجهزتها الإدارية - البيروقراطية - التي يشغلها خبراء ومتعلمون مثقفون ثقافة حديثة، ومن مهماتهم أداء الوظائف المنوطة بهم، من زراعة وصناعة وتجارة وتعليم، في الوقت الذي ترسم الدولة المدى الجغرافي - الترابي - الذي تبزغ فيه الوطنية، والذي يساهم المثقف في صيغته والتعبير عنه. بيد أن الوطنية لا تنهض إلّا إذا استندت إلى قوى اجتماعية فاعلة.
كانت تجربة مصر خلال القرن التاسع عشر نموذجا متقدما في محيطها، حيث مرّت خلاله بمراحل عدة، بدءاً بمرحلة القضاء على بنى السلطة التقليدية، ثم بناء مؤسسات الإدارة والحكم، وتأسيس جيش بدّل علاقة المصري بالدولة، وإصدار قانون ملكية الأرض، ثم وضع بنية التعليم الحديث، وإنشاء المعالم الرمزية، كجزء من تحديد هوية الدولة.
كان تأثير المثقف في مصر قد تجاوز حدودها، وساهم في نشر نماذج من ثقافة حديثة في المقالة والقصة والرواية، نقلت من خلالها أساليب التعبير الحديثة الشائعة في أوروبا، واستخدمت الصحف لنقل ما يشهد العالم من تطورات في العلوم والتقنيات والسياسة.
لقد انتشر إشعاع مصر شرقاً وغرباً في العالم الناطق بالعربية، من غير أن يقتصر ذلك الإشعاع على نشر الأفكار الليبرالية مع بدايات القرن العشرين، إذ كانت مصر سبّاقة إلى نشر الأفكار الإصلاحية، واستمرت ريادتها الثقافية حتى نهاية الستينيات.