بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 أيار 2024 12:00ص رمزي حميدان ديواناً (نشوة العصيان)

حجم الخط
«في ظلمتي/ تحاول شهوتي/ أن تصعد/ إلى حضن الشيطان/ عند كل محاولة للإفلات/ تتعثر في/ طقوس الذاكرة/ وتدافع الأصوات المحنطة/ بورق التوت».
صيغة الوعي بالشعر، عادة ما تبدأ في وقت مبكر من حياة الطفل، فكل ما يقوم به من نأمة أو حركة أو أي تعبير بالقول، أو بالإشارة أو بلغة الجسد، إنما يشكّل بدايات الشعر الطفولي: رفضا ومواجهة وفرحا وغبطة وتألبا. إذ عالم الطفل الأولاني، هو عالم الشعر. وكل تعبير عنده، إنما هو صيغة شعرية شعورية عفوية. إنه نوع من الشعر العفوي، الذي يمايز بين القبول والرفض. وهل الطفل، إلّا أول القصيدة؟! هل الطفل، إلّا أول الشعر؟! وإلّا ما معنى فرح العائلة به، كما تفرح القبيلة، بولادة شاعر، إنه صنو الشاعر، إنه الشاعر الإستباقي لنبوغ الشاعر، الذي يلتحق بمدرسة الشعراء ويتخصص عندهم بالقبول وبالرفض، أو كما أسماه رمزي حميدان، بالعصيان:
«رمزي حميدان. نشوة العصيان. دار الفارابي. بيروت: 110 ص. تقريبا».
«فراشة/ سئمت/ تركت الأرض إلى/ مدارات الفضاء/ تحاول إستنشاق/ رحيق النجوم/ في بستان/ الإله».
موضوعات عديدة وعريضة، يقاربها الشاعر في ديوانه بنوع من القبول أو الرفض، بنوع من الهزل أو الجد، بنوع من الكوميديا أو التراجيديا. يخرج من مخزونه الحياتي والثقافي، ما يصلح لأن يكون مادة لشعر العصيان أو التمرّد. وحين نراه ينتشي بذلك، فكأنما يكون قد عبّر عن قبوله لنفسه في الذروة التي تجسّد نشوة العصيان.
«في النص/ جدار يتحرك بين فواصل الكلمات/ كانت ولادتي الأولى/ سرابا/ توهمت الواقع في ضباب الحياة/ أنها غريزة ذاكرة تلبس وجه التنين/ لن أخضع للعماء/ سأحفر هذا الجدار بأظافري/ بمخيّلتي/ بأحلامي التي أيقظتها آلهات الحب/ الأولى».
يعالج رمزي حميدان مسائل بل قضايا متشابكة، في وطن مشتبك مع نفسه كل يوم، في مجتمع يختلط فيه الحابل بالنابل، ولا ندري، متى يتوقف الإشتباك، لا ندري وقت الهدنة، ولا فترتها، ولا طولها ولا قصرها، لأن الإشتباك مع النفس في عزّ المواجهات، هو من أصعب، لا بل من أعقد أنواع الإشتباكات، لأنه في برهة رمزي حميدان، إنما ينتج الشعر، النشوة، العصيان، والقبول بخوض معركة العصيان.
«كل زهور الحديقة، نساء/ الغيم شهوتي/ الريح لهفتي/ وشمسي لن تولد/ إلّا على شفاه زهرة/ واحدة».
تشكّل الوعي بالشعر، هو أول العصيان، هو التنبؤ به، هو إمتشاقه سيفا وترسا، في معركة الوجود. فكيف يدافع الشاعر عن حضوره، عن وعيه، عن موقفه، عن إبداعه، إذا لم يعمد لتثوير ذاته، وإبداعها ثورة في الطريق إلى الحياة.
«ذاتنا رحيل دائم/ إلى كل الأمكنة/ هل هي حاجة نخترعها بملء إرادتنا/ أم عبودية؟/ نهرب من الواقع/ إلى حلم/ لا يحركه إلّا هذا الواقع/ نفسه».
يجمع رمزي حميدان، معظم لحظاته الإبداعية الساخنة، تخرج لتوّها من كهف الروح، ثم تأخذ لتتشكّل مواقف، فيها الكثير من المواجهة والرفض، فيها الكثير من القبول وإثبات الذات، إذ الإثبات الشعري عنده، إنما هو من نسيج النشوة والإنبهار بالموقف الكلي الإرادة، الذي قرر أن ينحو في منحاه اللامعقول.
«في ذاكرتي/ لم أجد ما يغريني/ سوى إحتمال/ ألا تكوني/ قد ولدت بعد».
هكذا يصير عند رمزي حميدان، كل شيء للحب، كل شيء للوطن، كل شيء للحرية، كل شيء للتعبير عن معادلة الرفض والقبول، في البرهة الواحدة.
«وسط جنوني تسكنين/ لا تعبثي بي/ سألتك، عم تفتشين؟/ عن جسد ليس لك/ عن ثورة/ عن رجل لم يولد بعد/ إذهبي/ الريح هنا الموت/ الرغبة حرام/ والحرية مصلوبة على/ شجرة الحياة».
 لا يمتلك رمزي حميدان وفرة من الوقت حتى يطرح المطولات علينا، إن هو إلّا الإلماح الصادق المكثف الرقراق في النفس، إن هو إلّا الشعر الساخن، في البرهة الناضجة، إن هو إلّا الموقف الحاسم والجازم، الذي لا عودة عنه، لأن رمزي حميدان ليس من الشعراء الذين يقطعون الوقت، وهم يسرحون، وهم يهيمون وراء الأخيلة الداخنة.
«تحت شجرة التفاح/ جلس الزمن العربي/ ينبش في التراب/ لا يزال يبحث، من أين جاءت حروف العلة/ وقواعد الإعراب».
في عناوين قصائده، ما يشي بالتضجر من الوقت، وفي نصوص أشعاره، ما يجعلنا نشعر برهاب ضياع الوقت. فهو دائم الخوف من التوهان في مجاهيل الأفكار التي تحتشد عنده، وتجعله يرتبك فيها: ما الخطأ وما الصح.
«وطن/ ينهب الوقت/ حوّلته السماء وحشا يفترسني كل يوم/ يسلبني الأمل/ يمزق ريح السفر/ في زنزانة المنفى/ رسمت/ على الجدار وجه إمرأة حبلى/ أجلس كل مساء، أحاول أن أستمع/ إلى صوت المخاض/ لعلني أرى / الأفق/ يخرج حاملا يديه/ هويتي/ وخبرا عن موت/ الذاكرة».
يؤجل رمزي حميدان حسم المواقف إلى حين نضوجها في مواسمها، وهو ليس من نوع التردد القاتل، الذي يميت بذرة الشعر في تربة النفس، بل على العكس من ذلك، نراه محتشدا مترقّبا مستنفرا، لكل صولة ولكل جولة، إذا ما كان الأمر متعلقا بالموقف الجاد، حتى من السفيف والسخيف.
«وحدي في العراء/ أتنشق مفرداتي الخاوية/ أحاول إغواء سراب/ كي أصدق/ أن الحصاد جاء/ شفتاك/ لغتي/ قمح قصائدي/ ولهفة كل معاصي/ الشعراء».
رمزي حميدان شاعر الجديّة المطلقة، لأنه شاعر النشوة وشاعر العصيان. يشرب كأسه حتى الثمالة، ثم ينتبه إلى نفسه، كمن أصابه مسّ. يفتش عن حقيقة الأمر، في المرأة وفي الوطن، في الدارة وفي ملاعب الصبا، وفي سجل الذكريات. يقدّم لنا نوعا جديدا من الشعر الذي لا يتكلّفه، ألا بمقدار ما ينتشي به. يحقق في نفسه: نشوة العصيان.
«حرّة أنت/ مولودة/ على صورة من/ في السماء/ ردّي له ضلعه/ واعتصمي بحبل/ الرغبة في داخلك/ وليفعل ذكر الجنة/ ما يشاء».

أستاذ في الجامعة اللبنانية