بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 آذار 2022 12:00ص روسيا وأوكرانيا ما صنعه الحداد

حجم الخط
فجأة، لم يعد بين الدولتين: روسيا وأوكرانيا، إلّا السيف، إلّا ما صنعه الحداد. فمنذ تفكّك الإتحاد السوفياتي، و«حظوة» أوكرانيا بإستقلالها، أخذت هذه الدولة الوليدة، هذة البلاد التاريخية، بالإبتعاد شيئا فشيئا، عن دولة روسيا الإتحادية الجديدة.. البديلة عن إمبراطورية القياصرة، وعن الدولة البلشفية. وأخذت تظهر في سياستها الداخلية والخارجية، ملامح الإبتعاد عن الكنف القديم الذي عاشت جميع عهودها القديمة في ظلاله. كذلك بدأت تظهر طموحاتها للعيش في كنف الغرب، تمرّدا منها على النظام القديم الذي يشدّها إلى الشرق، وطمعا في العيش في نظام حداثوي عصري جديد، سقفه الاتحاد الأوروبي، وفضاؤه الغرب.. بل يمكن أن تأمل أن تكون الولايات المتحدة الأميركية نفسها، وحلف الناتو أيضا، سداه ولحمته.

منذ تسعينيات القرن الماضي، والدولتان، روسيا الاتحادية وأوكرانيا، تعيشان على قلق العلاقة بينهما. وكلما كانت الأخوة تشدّهما للتلاقي، كانت المصالح تنحو بهما للإبتعاد، وللتباعد. كانت روسيا الاتحادية تشعر بالحزن وقد أضحى التنائي عنها، سياسة الدولة الأوكرانية. وكانت هذه الدولة الغرور والطموح، تشعر بالحزن أيضا، حين ترى عين روسيا لا تزال طامحة إليها، حتى بعد طلاقها منها، وإنفكاكها عنها.

على هذه الثنائية المتناقضة بين الدولتين اللدودتين، وبين الشعبين الشقيقين الصديقين، من حيث العرق والدين والأرث، كانت الهوة تزداد يوما بعد يوم بينهما. كانت المشاعر العدائية تشتعل، وكان الشغب بالسياسة يشغل بال الطرفين. وكلما كان هذا الشغب يشتدّ ويقوى، فيدنو من حدود الفتنة والوقيعة بين الدولتين، كانت حكمة البلدين، ترجّح العودة إلى الهدوء، بدل التجرؤ على إجتياز الحدود، والعمل بعداوة خلفها.

كانت العقود الزمنية تطوي بعضها بعضا على ضيم، وكانت المصالح الأقتصادية والتجارية، بالإضافة إلى التاريخ المشترك، وإلى الجغرافيا المتداخلة، وإلى الودائع الروسية الكثيرة، التي تركت في أوكرانيا، بعد مغادرتها، لما يجعل الأمور صعبة للغاية، ويجعل الجمر تحت الرماد، قابلا للإضرام وللإشتعال.. ولا ينتظر إلّا إثارة الرماد ونفثه في الهواء والنفخ في الوقدة.

الحديث عن التكامل الصناعي بين روسيا وأوكرانيا، قديم للغاية.. ولا يستطيع الطرفان التبرؤ منه، أو عدم أخذه بعين الإعتبار ولو في ظل الحملة أو الحرب القديمة والمستجدة. وكذلك الحديث عن التكامل بين الشعبين، نسغا ونسقا وديانة وعرقا. ولا يمكن إهمال ذلك، وجعله على رفوف الأزمنة الماضية، وتحت غباره القديم. فكلما بدت نأمة من جانب من الجانبين، كانت النفوس تغلي، وكانت العزائم تشتد، وكانت البيارق تلوح بالتصعيد والفتنة والحرب.

ظلت روسيا الاتحادية على سياستها القديمة، بالرغم من المتغيّرات التي ضربتها والبلدان التي كانت تعيش في فلكها، في شرقها وفي غربها، وفي جنوبها وفي شمالها، على حد سواء. فما أقامت أي إعتبار، لتفكك الولايات عنها، ولا لإنفراط عقد الدول فيها، كل في إتجاه. لم تكن روسيا الإتحادية، تنفك عن الحنين للمجد القديم، بل كانت كلما سنحت لها الفرصة، تغامز أوكرانيا، وتتغامز عليها. والشعب الأوكراني وقد شبّ عن الطوق، يطمع في التأسيس على الحاضر الحداثوي الجديد بطوابعه الغربية، ويبدي تمنّعا شديدا عن العودة لبيت الطاعة والإنضواء تحت سقف الحياة الثنائية القديمة..

كانت روسيا الإتحادية لا تنفك تعاودها مرارة إنفصال أوكرانيا عنها، لما فيها من إحتياط الوقود المتنوّع، ولما فيها من إحتياط الحبوب المتنوع، ولما فيها من إحتياط الزيوت، ومن إحتياط السهوب: قمحا وخضارا وفاكهة وثمارا، وماء وماشية، ومراعي، وحدائق، وعمائر، وجنائن: على مدّ النظر.

وبالرغم من إنفراط نجمة القلادة، أوكرانيا، عن جيد روسيا الإتحادية، ظلت هذه الدولة ذات التاريخ الامبراطوري القديم والعريق، تحنّ لودائعها في آسيا وأوروبا. وأوكرانيا هي أغلى الودائع على قلبها. وكانت سياستها تغلي، كما ساستها، كلما نظرت إلى أوكرانيا، وهي تعمّق طلاقها منها، وتجعله طلاقا بائنا. كان ذلك شديد القسوة على قلبها. ولطالما احتشدت في التعبير عن غيظها، منذ مطلع الألفية الثالثة. ولكنها، ما كانت ظروف الدولة الروسية تسمح، بما سمح به رئيسها الحالي لنفسه، ووجد فرصته إليها.

يتداعى تاريخ العلاقات السياسية والإقتصادية والإجتماعية كله اليوم، بين روسيا الإتحادية وأوكرانيا السيادية. وتتداعى الأزمات الكبرى كلها، ليس بين هاتين الدولتين وحسب، وإنما في دول العالم كلها، منذ دخول روسيا بلاد أوكرانيا الشاسعة لإستعادتها إلى بيت الطاعة. وتظهر ملامح الكلفة الإقتصادية، والحرب لم تتجاوز أسبوعها الثاني. وهي على ما يبدو طويلة الأجل. وهي كذلك ذات ظلال كثيفة ودخان وغبار، يخرج من فوهة الجحيم، على دول المعمورة كلها. ونحن لا نريد تقديم الشواهد، لشدّة وضوحها للناس، من خلال المشاهد والإنعكاسات، ومن خلال الشاشات والإذاعات ووكالات الأنباء.

واليوم، مع إرتفاع الكبير لأسعار التكاليف، ولأثمان البضائع، ولتعاظم الهجرة داخل أوروبا وخارجها، ولإشتداد الخناق على الأمم والشعوب، ودولها، لا بد لنا من التحذير من طول الأزمة، وما يحمله ذلك من إنعكاسات رهيبة على حياة الناس، لا في روسيا ولا في أوكرانيا، وحسب، وإنما على ظهر الكوكب.

فالآلام كبيرة، والجروح عميقة والإنقسام العالمي، في الذروة. وأما التضخم العالمي، فهو يصل إلى جميع الدول بلا إستثناء. الإنقسام الذي صار في الذروة، جعل العالم يستعيد الحربين العالميتين القديمتين. وهو بالتالي يتجدّد وإن بصيغة أخرى. وهذا لما ينذر بالتورّط في حرب عالمية ثالثة أشدّ قسوة على الطرفين المتخاصمين، وعلى المحورين المتقابلين خلفهما، وعلى دول العالم أجمع، بإعتبار العولمة، قد صارت الفناء الخلفي لهما.

إننا لنرى ذلك بوضوح شديد، ما دام ليس بين القادة في روسيا وليس بين القيادة في أوكرانيا ولا بين أهل السياسة، لا في الشرق ولا في الغرب اليوم، بعد إشتداد أوار الحرب، إلا ما صنعه الحداد.


أستاذ في الجامعة اللبنانية