بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 حزيران 2023 12:00ص سعيد عقل قيادةُ «جنونِ العظَمة» على كلّ الجبهات!

حجم الخط
أغلب النقاد والشعراء الذين تناولوا الشاعر سعيد عقل، سَواء أكانوا مُحِبين أو معترضين، نسَبوه إلى الشعر العباسي تفسيراً لفخامة لُغته الشعرية وطريقة تركيبه البيت الشعري على نسَق كان يُعنى باللفظ والمفردات والصّوَر والمعاني المُتخلّية عن القديم، نتيجة أجواء التأثّر بالحضارات التي دخلت على ذلك العصر، أمّا الحقيقة، فإذا كان لا بدّ من إعادة سعَيد عقل شاعراً إلى زمن ما، فهو زمن الشعر الأندلسي. ففي هذا الزمن درَج تزيين الشّعر إلى أوسع قدر مستطاع، وتم الإعتناء بالبحور العروضية القصيرة الأسهل للغناء والموشحات وجرى تنويع القوافي في القصيدة الواحدة مع إعتماد الكلمات الرقيقة غير الفظّة التي كانت سائدة في شِعر ما قبل فتح الأندلس. وسعيد عقل كتب غالباً على البحور العروضية الطويلة لكنْ باعتماد تقنية الحبْكة الخاطفة بالكلمات وكأنها بحورُ «موشّحات» قصيرة! وهذا كان يسمّيه هو «اللّعب».
والأرجح أن طبيعة الأندلس الخضراء وسهولة الحياة ومتطلباتها والتعرّف على المجتمع الجديد وثقافته وعاداته ويوميّاته فتَح الباب أمام نظرة جديدة ومختلفة للشّعر عموماً، فوق ما اتسَع العصر العباسي، بل كان الشّعر (والغناء) أحد أبرز تجلّيات تلك النظرة فضلاً عن الفلسفة والتراجم وتلاقي الأديان وما لها من دَفْعٍ على صعيد الفكر والأدب وأنماط الحياة.
غير أن سعيد عقل، وإنْ كنا عثرنا على ينابيع لهُ في شِعر الأندلس، كان شاعراً قادراً على هضم العصور في أريحيّته الشعرية الشخصية، وعلى «تأليف» مكانةٍ خاصة وتثبيتها وفَرْضها على واقع زمن الأربعينيات وما تلاه. هناك صفات كثيرة، وعناصر عدّة كانت تجمع بين عقل وعدد من شُعراء المرحلة، بعضهم تأثّروا به، وبعضهم أثّروا فيه، ومن السهل جداً أن نحدّد تلك الصفات بالميل إلى تجاوز الماضي الشّعري والذهاب إلى خلْقِ تجارب خاصة تستفيد من إنجازات الماضي، لكنْ بحرصٍ على الإبتكار أوّلاً في المناخات والأفكار ثم في أساليب الصياغة وضمن المدارس الفنية الرومنسية والرمزية. وكان سعيد عقل إبن هذه المرحلة المتوهّجة والمتطلّعة إلى التغيير.
كان واضحاً من البداية أن سعيد عقل لن يرضى بأقل من الصدارة كشاعر. معدَّل الثقة الكبيرة بالنفس، والإيمان المطلَق بقدرته على الوجود الفاعل وجَعْل الآخرين يلتفتون إليه وينتبهون إلى أهميّته ويتهيّبون حالته الشعرية الحرّاقة، دفَعَه إلى عدم انتظار الآخرين للإعتراف به معتمداً على ما في ذاته من الدفق والغزارة والقوة وتمكّن من ذلك الموقع، فالجمهور والشّعراء يومها كانوا يقيّمون قصائده فيأتي التقييم رفيعاً على مستوى النصّ المدهش فكرةً وتركيباً وصناعةً وأسلوباً، وبات من السهل جداً حين تذكر اسمه في مطالع الخمسينيّات أن يعرفه الكثر في لبنان رغم «التواصل» المنعدم أو المتخلّف في البلد، والمحدود جدّاً.
في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي غلبَت على سعيد عقل أفكار «الحزب القومي السوري الإجتماعي» وكتب نشيدين للحزب، لكنه منذ ١٩٥٨ إثر «الثورة» في بعض لبنان على حكم الرئيس كميل شمعون (في ظِلّ بروز اتجاه طاغ لدى فئات مسْلمة وازنة بالانحياز إلى أفكار الرئيس المصري جمال عبد الناصر التي تدعو إلى وحدة البلدان العربية، ما أخاف فئات مسيحية لبنانية على «المصير») بزَغَت لدى عقل فكرة «القومية اللبنانية» التي كانت موجودة في البلد، لكنْ مُتَسَتَّر عليها، فراحَ يُنَظّر لها حتى أواخر أيّامه، معتبراً أن اللبنانيين لا تاريخ يربطهم بالعرب والعروبة (كيف؟ وبناء على ماذا؟!).. ومن هنا عزفُهُ المستدام على نغمة اللهجة العامية بدلاً من اللغة العربية، والمطالبة باعتماد الحرف اللاتيني تخلّصاً من كل رابط مع المنطقة. وهو يعلم إحصائياً أن أكثر من نصف العائلات اللبنانية جاءت إلى هذه الأرض ضمن هجرات قسرية أو طلباً للعيش من المناطق العربية، البعيدة في اليمن والقريبة في سوريا، وما بينهما، لا من مكان آخر. ولنا عودة إلى ذلك.
ولعلّ المميزات التي كسبَها لنفسه شعرياً على مستوى الزمن الذي عاشه هي:
أوّلاً - اللغة. فقد عمد سعيد عقل إلى «إختراع» لغة شِعرية جديدة ومغايرة لما كان معروفاً ومألوفاً لدى الأوساط الأدبية والاجتماعية معاً. وإذا كان أمير الشعراء أحمد شوقي قد اعتمد السلاسة في البيت قاعدة وطّور من ضمن هذا السياق بحيث ليّنَ ورصّع المعاني، فإن ما فعلَه سعيد عقل كان تكوين البيت من الحرف إلى المفردة إلى التقاء الكلمة بالكلمة وتشكيل علاقة أُخرى غير مألوفة بينهما، وصولاً إلى جمْع الجُمْلة بالجُمْلة التالية بدقة متناهية تشبه الأحجار المتراصّة في أي بناء. فالحرف عند سعيد عقل مهمّ، ويجب أن يجيء في مكانه، ويؤدي وظيفة منها صوتية ومنها شعرية. فحين كتب قصيدة المديح في الإمام علي قال: «كلامي على رَبّ الكلام هوىً صعبُ/ تهيّبتُ إلّا أنني السيف لم يَنْبُ..» وحين سُئل لماذا لا يقول «لا يَنْبُو» أجاب مع تفخيم اللفظ «لَمْ.. لَمْ.. قوة الميم بتاخد اللفظة لعندها».
ومرّة اعترض الأخَوان رحباني على كلمة «اسْتَسْمَتْهُ» في قصيدة «تلكَ لبنان» التي غنتها فيروز، فلم يقبل بتغييرها وتم غناؤها كما طلَب. والأمثلة لا تُحصى في معرض دفاعه عن حرف ما في قصيدته، فكيف بالبيت أو بالقصيدة. كانت لُغتُه نقيّة، برّاقة، فلا تجد صعوبة في معنى البيت بل في تركيبه أحياناً كثيرة، بين استدراك معنىً هنا، أو تظهير معنىً هناك، أما المضمون فيُفهم من خلال تحريك الكلمات، تقديم بعضها، تأخير بعضها الآخر، وتثبيت كلمات في محلّها ليحلو السبكُ الشّعري في عينه هو قبل عيون الآخرين وكان يعتبر أن ما يختاره من المفردات وشقيقاتها ويعجبه، سوف يُعجب القارئ أو المستمع. أمّا الجزالة والأناقة والرّفعةُ والأُبّهة اللغوية المتمادية فكانت دأبه الثابت بحيث لم «تنجُ» قصيدة منها. وأقول «تنجو»لأن بعض القصائد دخلَت في غيبوبة استقوائية بمفرداتها فذهَب المعنى إلى مكان آخر. ففي قصيدة للشّام هذا البيت «وإنّما الشعر دربُ الفتكةِ ارْتُجِلَت/ على العُلى، وتملَّتْ رفعةَ القِبَب». وكان سعيد عقل بارع الصياغة الشعرية إلى حدّ أنه كان قادراً على إلْهائك بالمناخ الذي حرّكه وبالصورة التي بدَعها من التلاعب بالكلمات فتنسى قيمة البيت الحقيقية التي قد تكون عادية. وكان حريصاً على فنيّة ما يكتب أو ينشد في المناسبات، فنيّةٌ إيقاعية يكاد يُشعِرُك في ترتيبها أنها خرجت عن الإيقاع وهي في قلبه، وفنيّة بنائية بحيث تَخرج القصيدة من بين يديه، متعادِلةً في أبياتها من جهةِ المستوى، فلا تفاوُتَ ولا فراغات ولا هبوط فارتفاع فهبوط فارتفاع.. كأنما هناك ميزان فائق الحساسية يُلفِتُه إلى ثُغرة ما في القصيدة فيسدّها، أو خلل ما ويتجاوزه، أمّا الضعف فلا موطئ قدم له... وإلّا كان أهينَ عليه أن يمزق القصيدة من الأصل. وكان عقل مؤمناً دهريّاً بالجماليات، الجماليات الفنية في كل الفنون، وأوّلها الشّعر حسب تقديره، وكان يعتمد تلك الجمالية جدّياً ولا يُدخُل في قصيدته كلمة «ثقيلة الدم» ولا تعبيراً «غليظ الظلّ» ولا جُملة متوارَثة ومُستهلَكة، ويصرّ على أن الشاعرية تبدأ بالحفاظ على الجماليات وتعميقها وخلْق مفاهيم جديدة لها لتستمر على الزمن.
ثانياً: الموضوع. كثيراً ما كانت مواضيع سعيد عقل الشّعرية «تقليدية» كالغزل والرثاء والمديح والتأمُّل والتاريخ لكن من المستحيل أن تكون «معالجته» لأي موضوع تقليدية. وهنا المرتبة المُستَحَقة التي تبوأها. أقول الغزل ولا أقول القصائد العاطفية، فسعيد لم يقتنع بأن المرأة يمكن أن تكون موضوعاً لقصيدة عاطفية حسيّة «مادية». لذلك اختار الغزل الذي هو مخاطبة المرأة من بعيد، وعبْر «أشيائها» الواضحة التي لا تنمّ عن غريزةٍ أو ميول في الجنس والشهوة وما شابَه من دقائق الإقتراب والحميمية.
كان يراها تمثالاً من الحُسن ومثالاً في الطهارة ونموذجاً من البشر المُنَزّهين، وحين يكتب عنها لا يتخيلها في سرير، ولا «يدنّسُها» بمسّ أو ملامسة. وإذا كان صعباً على كل شاعر أن يُحضِر المرأة إذا كانا في حالة حب حقيقية، إلى القصيدة من دون أن يُحضرَها كلها، جسداً وروحاً وعشقاً وأحاسيس متبادَلة وغرقاً في نعيم شخصي بين اثنين لا بين واحد في الخيال وواحد في الواقع، فإنَّ سعيد عقل كان واضحاً أنه لا يحضن المرأة إلّا في خيَاله، ولا يحبّها إلّا في «الصورة»..
بمعنى أن قصيدة الغزل عنده كانت تشبه قصائد الغزل العربية القديمة التي كان شُعراؤها لا يعرفون مِن المرأة، غالباً، إلّا شكلها الخارجي، فيهيمون ويكتبون ويملأون البلاد تشبيباً بها، بالإسم والرسم فقط، لغياب الجسم. وكانوا لا يرفضون الجسم لكنهم غير قادرين على التقاطه، أمّا سعيد عقل فالنساء حوله كالنّحل لكنه مترفّع متمنّع عنهن، يكلمهن من برجه «الملائكي»، ويرفض «الإحتكاك» بهن. ولطالما طُرح السؤال: هل كان سعيد عقل لا يقربُ المرأة بناء على عقيدته الروحية أم بناء على عُقدته الجسدية؟.. إذ أنه في حالة الزواج الوحيدة في حياته، لم يدُم زواجه أكثر من شهر وانتحرت الزوجة، وأخبارُها لبعض القريبين أن سعيد لم يقترب منها طوال المدّة مما أورثها صدمة قاتلة!
يقول عقل في كتاب هو عبارة عن مقابلة طويلة تحمل مذكّراته: «المرأة الشريفة النبيلة هي التي تستحق الشّعر العظيم. الغزل ليس للأمور التي فيها وسَخ وعار. أتغزّل بالمرأة التي لم تحب إلا زوجها. أمّا المرأة التي تترك نفسها لأيّ كان فهي ليست أهلاً للغزل. المرأة التي لم تلمس زوجها إلّا بعد العرس هي التي تغنّى بها سعيد عقل».
ومن المعلوم أن رميَ أحد الناس عموماً، والشعراء منهم لا بل أكثر حساسية وتشنجاً، بتهمة معينة، وشعوره بأنها ليست تهمةً مجانية وإنما فيها مكوّنات ثابتة من شخصيته يلجأ إلى النقيض. فالمتهم بالبُخل مثلاً، يعمد إلى التكارم في أوقات محسوبة ليغيّر الصورة ما أمكن، ويظل مكشوفاً لأنّ الكرَم طبْع والبخل طبْع والطبع يغلب التطبّع الآني «المدروس». والمتهم بالحسد يلوذ بالإبتسامة الصفراء عند إثارة ما يثير حسَده بذكر شخص معين أو بمديح ذلك الشخص، إبعاداً لنفسه عن مهاوي إظهار الحسد. لكنْ يظلّ واضحاً فيه أنه «مفنوس» وأن المديح لا يستحقه إلّا هو. والمتهم بأنه مِثْليّ الجنس قد يتزوّج بامرأة جدّياً (أو صوَريّاً) من أجل نقض الفكرة القائمة عنه في المجتمع، وإذ قد يؤدي الزواج إلى الطلاق، فيطلّقون أحياناً، وأحياناً يحوّلون المنزل إلى «ساتر» لهما. كذلك المتهم بغياب ذكوريته، خصوصاً حين ينتقل الإتهام من جيل إلى جيل، تصبح ردة فِعْله استكبارية (إذا لم يفكر على العادة بالانتحار!)، وسعيد عقل الذي لم تُعرَف عنه علاقة بامرأة، ولا في أي جيل، حسب اعترافاته واعترافات محيطين مزمنين به، قد يكون وجَد الخلاص من «الوصمة» في الترفّع عن تناول جسد المرأة في شِعره، وإشباع السائلين (في الحوارات الصحفية) بكلمات رنّانة وتخريجات لغوية عن أن المرأة أرفع من أن تُعامَل كجسد، وعن أنه هو ليس من الناظرين إلى المتَع الجسدية بل إلى متَع الروح والذات الشّعرية السامية. وهذا كلام لا نخترعُه نحن، وإنما هو خلاصات أفكار عند كثيرين أحبوا شِعر سعيد عقل وشخصيته وجنونه كما هو ولا يطلبون زيادة عليه!
في المواضيع الأخرى كالرثاء والمديح والتاريخ والوصف كان سعيد عقل متأثّراً بوضوح بالمتنبي الذي عُرِفَ عنه أنه كان يمدح نفسه من خلال الممدوح وربما قبلَه، وأحياناً كان سعيد يُجري مقارنةً بينه وبين الممدوح (غالباً شُعراء) في القصيدة ليُغَلّب ذاته، وهنا، أي في المناسبات، كان يوظّف صوته وطريقة إلقائه وأسلوبه في استنهاض التصفيق من أجل أن يُضيفَ إلى وقفته الشعرية عوامل أخرى تعطيه أسبقية على آخرين معه في المناسبة. ولا يَخفى عامل المنافسة في ظروف كهذه خصوصاً في اللقاءات التي كانت تجمعه بشعراء كبار من مصر ولبنان وسوريا والبلاد العربية الذين كانوا بأغلبهم يُفتَنون بشخصية عقل على المنبر وقدرته على استقطاب الجمهور، ويعلّقون على نبرة إلقائه العالية المؤثّرة والمفخَّمة ويحبونها عنده.
ثالثاً: شخصيّتُه. كانت شخصية سعيد عقل غرائبية كأنما جاءت من أسطورة أو من حكايا الأطفال أو العجائز. من عينيه الزرقاوين المُقتَحمتين القادرتين على التأثير في الناظر إليه من اللحظة الأولى، إلى شَعره الأبيض الذي كان كما لو ضربَته ريحٌ فأخرجته عن انتظامه مع أنه لم يكن يوماً منتظماً، فهو منبوش، منفوش، الى ملامح وجهه المعبّرة إلى قامته التي لم تكن مائلة إلى الطول لكنها كانت «تُظْهره» أطول، إلى صوته الجهوري المُتَفَنّن في إرساله لا في إلقاء القصائد وحسب بل في كلامه العادي. وكان من الصعب على من لا يعرفه جيدا ويعرف بالشّعر أن يتبيّن متى يُحَدّث ويشرح ويفسّر ومتى يقول شِعراً. تقطيع صوتي آخّاذ لا يجاريه فيه أحد. أمّا دواخلُه فكانت مزيجاً من الثقة والكبرياء وعزة النفس والعظمة.
كان يشعر بأنه عظيم ويمارس العظمة على كل من يلتقيهم وكانت هذه العظمة المقصودة منه توصل بعضهم إلى اتهامه بالجنون، جنون العظمة الذي يبحثُ فيه صاحبُه عن أدلّة لإثبات تميّزه، ويرفض أن يرى الآخرون وجهات نظرهِ غير واقعية أو غير عقلانية.. فهو الصحّ والآخرون الخطأ! وكان عقل يعرف ذلك وبدلاً من التنبّه للمسألة كان يزداد غلوّاً في التصرف كعظيم! وكان له جمهور كبير في لبنان، وكلامه مع أيٍّ من «مسؤولي» البلد كان لا يُرَدّ غالباً (خوفاً من لسانه؟) احتراماً وتقديراً لشِعره وشُهرته وأفكاره حول لبنان القوة والعنفوان والمجد والأساطير الباهرة ولو أن كثيراً مما قاله لم يقع في كل النفوس بالصدق المطلوب، ذلك أن مبالغاته كانت تطغى. ولعلّ آرائه خلال الحرب اللبنانية (1975/1989) تجاه الفلسطينيين رفضاً لهم، وتجاه الجيش الإسرائيلي ترحيباً به، زادت من شعبيته لدى فريق من اللبنانيين، وجفّفت من تلك الشعبية لدى فريق آخر. وتأثرت صورته كشاعر مرهف وراقي التعابير. لكن الحكم على سعيد عقل كشاعر كبير لا يدخل فيه «ذلك الزمن» الذي كانت فيه أحوال لبنان تعيش انقسامات وحروباً بين الأخ والأخ والشارع والشارع والمنطقة والمنطقة، وحَبْل الدماء على غاربه!
الطريقة التي أحَب بها سعيد عقل، لبنان، وكتب بها قصائدَه لهُ، وأعلنها في مقابلاته الإعلامية تشي بأن هذا الرجل ذوّب نفسه ليكون هو لبنان، وكانَهُ عند كثيرين. احتل موقع المُلهِم لأفكار ومعتقدات وأشعار رجال قلم وفكر في البلد. وإذا كان في شِعر اللغة الفصحى، قد وقّع باسمه على إحدى أجمل التجارب الكلاسيكية (الموزونة المقفّاة) في أرضنا، لكنّه في شِعر اللهجة المحكية (العامية) لم يفعل سوى القليل الذي لا يُذكر (حتى في يارا) أمام تجربة الأخوين رحباني مثلاً أو حتى جوزف حرب. شِعرُه العامي مُستَلٌّ من شِعره الفصيح كصناعة، غير أن صناعته بالفصحى حفظت مستوى عالياً من الروعة، بينما لم تحفظ صناعته في المحكية إلّا «الصناعة»، وهو حين يوضع اسمه بين شُعراء المحكية، فأنما يوضع زيادة في تكريمه على ما فعل، فكأنما ما فعلَهُ كان جديراً ليس بالحياة فقط، بل أيضاً بالخلود.
وسعيد عقل الناثر في «كتاب الورد» كان صناعياً أيضاً، وكانت الأفكار عينها تطلّ من صفحة إلى صفحة، والمُطلَقاتُ السبحانيّة تحاول أن تجترح شيئاً، والغزل الوردي يسعى إلى تجاوز غَزَله ليكون ورداً حقيقياً فيُخفق، والحبيبة كأنها وردة لا تخرج من الصفحات إلا لتتنفّس من تكرار المناداة وتشابُهِها وتعود إلى الورق حيرى مما يجري لها. وإذا كان سعيد عقل في قصائده يلعب لعبتَه اللغوية المجنونة رقصاً وحبوراً وحيوية، فإن لعبته اللغوية في النثر كانت بطيئة، وإذا مشَت فعلى فذلكة لا تُغْني ولا تُسمن من جوع.
يقول سعيد عقل في إحدى أواخر مقابلاته «شِعري أهم من شِعر المتنبي». لن نناقش هذه الفكرة، فهذا ديوان المتنبي، وهذه دواوين عقل، والعقول تقرأ، لكن تركيز سعيد عقل على هذه الفكرة في كل مجال إعلامي كان يخفي غيرة كبرى وأصيلة فيه من المتنبي ذلك الشاعر الذي لا يزال شاعر العرب الأوّل على امتداد القرون. وغَيرة سعيد عقل منه، في تقديري، مبرّرة لأن شاعراً كسعيد عقل، رؤيوياً وكاشفاً وذكياً ومُعتَدّاً بنفسه (كالآلهة.. هكذا قال) أين سيجد نموذجاً في ماضي العرب بمستوى المتنبي «لينافسه»؟ كما أنه اختصر الغرب حين قال إن شِعره أهم من شِعر شُعراء فرنسا القدامى والمُحدَثين.. ويبدو أن عقل لم يكن راغباً في «الانتصار» على الشرق دون الغرْب، فأخذ الغرْب في طريقه، ليكتمل عنده الشاعر الكوني الذي لم يُولد مثلُهُ...
وكان سعيد عقل خوّاض معارك مع الشعراء ومع عموم السياسيين ومع النقاد. خلافاته مع الشعراء إلياس أبو شبكة والشاعر القروي والأخطل الصغير ومع شُعراء مجلّة «شِعر» وغيرهم كانت كبيرة ومجَلجِلة أحياناً، وعندما كان يُسأل فيها كان يترفّع حتى عن ذِكْرهم، وإذا ذكرَهم فلكي يتفاخر عليهم بالصفح والتسامح. لم يجد له في أي عصر قريناً وكان حين يعبّر عن ذلك يقول «لا أريد أن أكون أكبر شعراء العالم، بتمنى لاقي حدا أهم مني بس لحد هلق ما في».
وفي قضية اللغة العربية - اللاتينية التي حاول فيها (من حيث لا يدري!) تهديم أجمل شِعره باللغة الأمّ، سعى سعيد عقل إلى إقناع «الناس» في لبنان أنّ لغتنا العربية ينبغي ألا تكون لغتنا، والأفضل الانتقال منها إلى الحرف اللاتيني إذا أردنا أن نتطوّر. محاولاته هذه التي انصرف إليها في أواخر سنين حياته وجنّد لها مجلّة وجريدة ودافع عنها كانت بمثابة من يريد أن يُخرّب على اللغة الناجزة والعميقة والمتينة والمتطوّرة باستمرار لصالح حرف لاتيني، وقبلَه لصالح اللهجة العامية التي اعتبرها أفضل وأغنى وأوسع من العربية.. وفي المشروعين الفاشلين ربما لم يدرِ عقل أنه كان يحارب تاريخاً وشعوباً عربية بملايين البشر الملتصقين بلُغتهم، وكِتاباً مقدّساً يؤمنون أنه نزل بالعربية وهو القرآن.. ويتجاهل أبراراً من الرهبان المسيحيين الذين حفظوا اللغة العربية ودرّسوها ودرَسوها في مواجهة سياسات التتريك العثماني!
يقول سعيد عقل في أحد أبياته:
والشِّعرُ قَبْضٌ على الدنيا مُشَعْشِعَةً
كما وراء قميصٍ شَعْشَعَت نُجُمُ..
في الشطر الأوّل من هذا البيت هناك دنيا كاملة مُشَعْشِعة يقبضُ عليها الشّعر.. أمّا في الشطر الثاني فهناك تقزيم لهذا المشهد الجبار الذي يقوم به الشِّعر بوصفٍ سَعَقلي آسرٍ، وكُلّيّ، عندما يشبّههُ مجدّداً بمشهد «تفصيلي» هو قميصٌ شعّ وراءه.. صدر امرأة!.. فهل استفاق على الإغراء في غير وقته مطلَقاً؟ والأهمّ هل يكون شطرٌ من شِعر سعيد عقل ونتاجه الكبير كلّه، رمزياً يُلألئهُ المجاز، و«قبضاً على الدنيا مشَعشِعةً»، فيما شطر من شِعره ونثره وحرفه اللاتيني «كمَالة عَدد»؟