بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 تشرين الأول 2023 12:00ص شرقنا بين تسامح الأصول وعنف الفروع

حجم الخط
الحروب في مجتمعاتنا لا تنتهي ما لم ينهِ ناسنا، بتوبة نصوح، الحروب الروحية الموصولة في ذواتهم!
لا إكراه في الدين، والرحمة مصدرها الرحمن الرحيم لو يدرون!
يحثّنا الإسلام على التحلّي بالعفو والتسامح، وهما ركنا مكانتنا ومساهمتنا في نهضة مجتمعنا وتطوّرها والحصول على الثواب العظيم..
وإذا وضعنا جانباً غضب المسيح في الهيكل إذ قلب موائد الصيارفة ومقاعد باعة الحمام (مرقس 11: 15-19)، رأينا ان السيد جدّ مسالم. يعلن مجيء مجتمع العدل والحرية ولكنه يرفض العنف لبلوغ هدفه فـ «كل من يأخذ السيف بالسيف يهلك» (متى (٢٦: ٥٢). ويذكر غاندي غير مرّة ان الديانات التوحيدية ألهمت نضاله اللاعنفي في سبيل استقلال الهند.
تشير تقاليدنا التوحيدية الأصيلة الى ان العنف يستمدّ شحنته من ردّات فعل الآخر. هب ان أحدهم اعتدي عليه، فإنه يردّ على الاعتداء بعنف آخر يمدّ المعتدي عليه بشحنة إضافية من العنف وهلّم جرّاً. هذه الحلقة الجهنمية تدور في المستويين الفردي والجماعي، وفي كل مستوى يجد الإنسان ما يبرّر الانتقام ولا أحد يدري في النهاية من الذي أطلق الجذوة الأولى التي أدّت في تواصلها الى حالة النيران المتداخلة.
ثمّة إشارات في أدياننا الى ضرورة العكوف عن ولوج هذه الدوّامة التي لا تنتهي، والى توافر حلّ وحيد يقضي بعدم الردّ على العنف بموقف مشابه. فما من شيء يزعزع المعتدي أكثر من فقدان ردّة الفعل العنيفة من قبل ضحيته. وقد ركّز علم النفس الحديث على خلفيات العنف المتمادي، وهي ما نختصره بكلمة «تحريض». وهكذا، يكشف عدم الردّ على العنف كذب المعتدي وخداعه.
تجاوزت روحانياتنا إشارات الى الانتقام تضمنتها التوراة (سفر الخروج ٢١: ٢٣-٢٥) فاتجهت شطر التسامح وعدم الردّ على العنف بالعنف وكشف بطلان حالة المعتدي واحتضانه. ذلك ان مردّ شرّ الشرير الى انه فريسة شرّ سابق. فنادراً ما يكون الشرّ مجانياً. ثمّة ما يفسّره من غير أن يبرّره. قد يكون أب عنيف قد أصابته أعمال عنف خلال طفولته. وقد تهمل أم قاسية القلب فلذات كبدها تماماً مثلما أهملتها أمها في ما مضى. قد يركل رجل ما كلبه تحت أجنحة الظلام لأن ربّ عمل الرجل قد أذلّه نهاراً... هذا طبعاً لا يبرّر شيئاً، ولكنّه يتيح لكل امرئ ألا يبغض أولئك الذين يقعون في أخطاء بل انه يسعى لأن يحتضنهم ويحبّهم. الكبير هو من يسامح والأكبر من يطلب المسامحة في حين انه ربما الضحية الأولى.
الغفران لا يعني النسيان، هذا ما ندعو إليه اخواتنا الأرمن. نسيان الشرّ شكل من أشكال الجحود. كما ان الغفران لا يعني تغييب العدل. فمن الضرورة أن يحمي المرء نفسه ويحمي الضحايا وحتى المعتدي من عنفه بالذات عبر اللجوء الى العدل البشري. والمطلوب غفران يتجلّى عملاً داخلياً هو في صميم كل مؤمن ويقضي بعدم ولوج حلقة البغض والعنف القاتل.
الأهمّ في كل هذا الاستذكار المقتضب لجانب من ينابيعنا الشرقية، هو التطبيق العمليّ للمبادئ هذه وعدم الانجرار وراء العنف بدافع من هنا أو هناك. يجتمع بعض النافذين في مجتمعاتنا أحياناً، ويتحدثون بالأمن أوّلاً. وكثيراً ما ييأسون من تفعيله فيرجئون الخوض فيه كأنهم أوكلوه الى نافذين آخرين بعدهم أو من أمم سواهم.
فهل ترانا مرجئة؟ هل نظلّ قابعين في أنفاقنا المظلمة؟؟

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه