بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 أيار 2024 12:00ص طرابلس عاصمة الثقافة العربية لعام 2024 (1)

عبد الغني النابلسي وعلماء طرابلس سنتي 1693 و1700م

التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية
حجم الخط
اختارت المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة (الالكسو) طرابلس عاصمة الثقافة العربية لعام 2024م. ويبدو أن دور تلك المنظمة اقتصر على الإعلان المذكور دون أن يواكب ذلك حشد الطاقات والإمكانيات المختلفة من أجل التعريف بالمدن المختارة ودورها في الثقافــــة العربية وما قدّمته من أعلام في الأدب والفقه والعلوم، ولم نسمع أن معرضاً نُظّم لتراث المدينة المعنية أو أن أبحاثاً كتبت عنها أو أثراً طُبع لأحد أعلام تلك المدينة العربية العريقة والتي عرف العالم العربي الكثيرين منهم. ورأينا أن لا نحرم طرابلس من إشارة الى بعض تراثها.

ان تنقّل العلماء بين المدن العربية والإسلامية أمر معروف وقديم ومفيد فهو يوثّق الروابط بين العلماء وكثيراً ما يتكوّن مذاكرات العلماء سبباً في تأليف رسائل فقهية. وتعطينا مذكرات الرحّالة من إبن بطوطة وإبن جبير وغيرهما من الرحّالة المحدثين وما دوّنوه في رحلاتهم، فكرة عن مجتمع المدن التي زاروها وعادات أهلها وثقافتهم. ولكن غلب الطابع الأدبي على كتب الرحّالة على حساب الجغرافية دون إغفال الإشارة الى المساجد والزوايا والحمامات.
وكانوا قديماً يقيسون المسافة بين المدن بعدد الأيام التي تقضيها الدواب في الطريق فيقولون مثلاً ان طرابلس تبعد عن بيروت مسافة يوم وليلة وذلك نظراً لبطء سير الراحلة من جهة ولوعورة السبل والدروب من جهة ثانية، إضافة للحواجز الطبيعية كالجبال والأنهار والأودية، وأن كانت الأنهار أصعب تلك الحواجز.
وكانوا قبل ذلك يقيسون المسافة بين المدن بما عرف «بالغلوة» وكان يقال قبل شق الطرقات وتطوير وسائل النقل «السفر قطعة من العذاب» وغدونا نقول السفر قطعة من العذوبة لا العذاب، وغدا الإغتراب داعية لاتخاذ الأصحاب. وكثيرون مرّوا خلال تجوالهم في مناطق الشرق بالطريق بين بيروت وطرابلس الشام، ودوّنوا تفاصيل تلك الرحلة وما صادفهم خلالها من مصاعب. نقول في أمثالنا العامة: «إمشِ شهر ولا تقطع نهر»، كما تنصح بسلوك الطريق الأمينة وإن طالت ولعلّ ذلك يعود لما كان المسافر يتعرّض له من مخاطر أثناء عبور الأنهار فضلاً عن مضايقات بعض الذين كانوا يترصّدون القوافل لسلبها أو بعض الذين كانوا يتعهدون مساعدة المسافرين على إجتياز الأنهار ونقل الأمتعة ويحاولون إبتزاز العابرين في وسط النهر للحصول على كمية أكبر من الدراهم.
وكان على الذاهب الى طرابلس أن يقطع ثلاثة أنهر هي: نهر بيروت ونهر الكلــــــب ونهر إبراهيم، عدا الجداول الصغيرة كنهر الموت. وكانت الرحلة تبدأ من نهر بيروت الذي كان الحد الطبيعي الفاصل بين بيروت وجبل لبنان، وقد سمّاه القدمـــــــــــــــاء نهر ماغوراس ولم يكن العبور عليه صعباً خاصة في فصل الصيف أيام شحّ المياه. أما نهر الكلب فكان يستوقف العابرين، لافتاً نظرهم الى أمور كثيرة وقد سُمّي قديمــــــاً (ليكوس) أي الذئب، فعُرّب بإسم الكلب.
وأول ما كان يصادف من يمرّ في الطريق الضيقة التي مهّدها الأمبراطور كراكلا، تلك النقوش والكتابات المصرية والأشورية واليونانية والرومية التي تنطق بذكرى مرور اسرحدون ورمسيس الثاني. فإذا عبرت القافلة نهر الكلب بسلام، مرّت بجونية وطبرجا ثم وصلت الى نهر إبراهيم، وكان العبور على النهر المذكور يتم بواسطة جسر كبير قديم، وكان حوض النهر يتميّز بأشجار وارفة تظلل دوحة خضراء عند مصبه.
كان السفر يتم بواسطة قوافل ينضم إليها المسافرون ليسيروا ضمنها حفاظاً على حياتهم وأموالهم. وكان المكارية يتحكّمون في خط سير القافلة وفي استراحاتها فيحدّدون ساعة الرحيل وساعة الراحة ويفرضون على المسافرين أوامرهم وكان على هؤلاء أن ينصاعوا لأوامر المكارية حتى اشتهر المثل القائل «هي ليلة يا مكاري»، كما اشتهر عن المكارية دوام تنقّلهم من مكان لآخر بحكم طبيعة عملهم، فقالت الأمثال للفتاة المرشحة للزواج: عمرك لا تاخذي مكاري، ليلة عندك وعشرة بالبراري.
وكانت جبيل أهم محطة لراحة القوافل وكان فيها خان بسيط يبيت فيه المسافرون وفي اليوم التالي تنطلق القافلة عابرة أشجار التوت وأجمات القصب مارّة بالمسيلحة ثم تتسلق جبلاً شاهقاً يخترق السحاب هو رأس الشقعة بينما يجأر تحتها على عمق 300 قدم خضم رهيب من الأمواج العاتية وهذه المنطقة الجبلية سمّاها السمعانـي (وجه الحجر) وسمّاها الإدريسي (أنف الحجر) ثم تنحدر القافلة الى انفه فشكا ثم تعود لتسلق معارج الجبال الكلسية باتجاه الكورة وتعود لتنحدر باتجاه هضبة أبي سمرة ومنها الى طرابلس الشام ذات الثغر البسّام.

مجالس العلم والأدب

زار عبد الغني إسماعيل النابلسي (1050 - 1143هـ) طرابلس مرتين، المرة الأولى سنة 1105هـ/ 1693م وذلك خلال رحلته المسمّاة «الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز». والمرة الثانية سنة 1112هـ/ 1700م والمدوّنة وقائعها في كتاب «التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية» وكانت طريقه إليها من دمشق الى راشيا فمشغرة فصيدا ومنها الى بيروت فطرابلس. ويخبرنا النابلسي بانه اجتمع في طرابلس سنة 1105هـ بالشيخ هبة الله مفتي الحنفية وبالشيخ أحمد مفتي الشافعية وبالشيخ إبراهيم شيخ الطريقة الصوفية الخلوتية وبنائب القاضي عبد الله الشهير بإبن الصيّاد.
ونعرف من هذه الرحلة انه اطّلع في بيت المفتي على عدة مؤلفات منها: طبقات الإمام الشعراني، والرياض النضرة في فضائل العشرة للمحب الطبري (أي العشرة المبشّرين بالجنة) وشرح البردة للمقدسي وشرح رسالة الإمام القشيري لشيخ الإسلام زكريا.
أما في سنة 1112هـ/ 1700م فقد دامت رحلة النابلسي الى طرابلس أسبوعين حفلت بمجالسة علماء المدينة وأدبائها وذكر ما تحويه مكتباتهم وما دار من أبحاث معهم، مما يوضح الجو الثقافي في المدينة أيام ولاية إرسلان باشا عليها.
أول من التقاهم النابلسي في طرابلس الشيخ إبراهيم النقشبندي الميقاتي وأخوه الشيخ يحيى الميقاتي وكذلك عبد الله بن بدر الدين السري ومحمد محمد الرحبي والشيخ علي بن كرامة عبد اللطيف إبن سُنين وعبد الجليل ابن سُنين.
وكانت جلسة للنابلسي في بيت مفتي الحنفية في طرابلس هبة الله حافلة بالأبحاث الفقهية واللطائف، وجرت المذاكرة بمسائل فقهية منها ما ذكره قاضي خان في مسألة الطلاق، وهي رجل قال لامرأتيه في مرض موته: إن دخلتما هذه الدار فأنتما طالقان. فدخلتاها معاً ومات الزوج، طُلّقتا ولا ميراث لهما. وإن دخلتها إحداهما ثم دخلتها الأخرى، طلقتا وترث التي دخلت أولاً، ولا ترث التي دخلت ثانياً. وفسر النابلسي ذلك بقوله إذا دخلتا معاً لا ميراث لهما لأنه جاء من قبلهما ورضاهما بذلك، وأما إذا دخلت إحداهما ثم تبعتها الأخرى، فترث التي دخلت أولاً فقط ولا ترث الثانية، لأنه لم يوجد الشرط بدخول الأولى، بخلاف الثانية فلذلك منعت منه. وتطرق الحديث الى شروح للمنظومة المسمّاة «بدء الأمالي» المنسوبة الى نور الدين الشهيد واختلف فيمن كتب المنظومة وحسم مفتي طرابلس الأمر بأن أثبت بأن الفيروز أبادي نسب المنظومة في «المرقاة الوفية في طبقات الحنفية» للإمام سراج الدين علي الأوشي. وفي جلسة ثانية أنشد المفتي هبة الله النابلسي لوالد المفتي علي الشهير بالبصير قصيدة من كتابه المسمّى «بحور العين نظم الدرر والغرر في فقه الحنفية» الذي أتمّه سنة 1068هـ.
وفي مجلس بدار المفتي المذكور جرت بينه وبين النابلسي مسألة فقهية في السرقة وانه يقال في السارق أخذ لا سرق، وأورد المفتي حكاية عن هارون الرشيد ذكرها صاحب «البحر الرائق شرح كنز الدقائق» وهي: يقول في السرقة أخذ لا سرق إحياء لحق المسروق منه. ولا يقال سرق محافظة على الستر، ولأنه لو ظهرت السرقة لوجب القطع، والضمان لا يجتمع مع القطع فلا يجعل إحياء حقه. وحكى الفخر الرازي ان هارون الرشيد كان مع جماعة من الفقهاء وفيهم أبو يوسف (تلميذ أبي حنيفة) فادّعى رجل على آخر بأنه أخذ ماله من بيته فأقرّ بالأخذ. فسأل الفقهاء فأفتوا بقطع يده. فقال أبو يوسف: لا لأنه لما أقرّ بالسرقة أولاً ثبت الضمان عليه وسقط القطع فلا يقبل إقراره بعده عما يسقط الضمان عنه. فعجبوا منه.
وطالع النابلسي في مكتبة المفتي كتاب «البحر الرائق شرح كنز الدقائق» وتفسير البيضاوي وشرح منظومة تائية في النحو وشرح قصيدة بانت سعاد لإبن هشام الأنصاري وشرح الرسالة في الإستعارات للمولى عصام ورسالة في الإستعارات لأحمد الحموي وغيرها.
وزار يحيى أفندي قاضي طرابلس النابلسي فجرت بينهما مذاكرة في مسألة غريبة في الطلاق منقولة عن قاضي خان وهي قوله: رجل له ثلاث نسوة، فقال لواحدة: إذا طلقتك فالأخريات طالقتان. ثم قال للأخرى مثل ذلك، ثم قال للثالثة مثل ذلك. ثم طلق الأولى واحدة فإنه يقع على الأخريين واحدة واحدة. ولو لم يطلق الأولى لكنه طلق الوسطى واحدة فإنه يقع على الثالثة والأولى واحدة واحدة، ثم تعود على الثالثة وعلى الوسطى على كل واحدة أخرى. ولا يقع على الأولى شيء سوى الطلاق الأول ولو لم يطلق الأولى والوسطى لكنه طلق الثالثة فإنه يقع على الثالثة ثلاث تطليقات وعلى الوسطى والأولى كل واحدة اثنتان.
وزار النابلسي المولوية برفقة قاضي طرابلس يحيى أفندي وكان مع القاضي كتاب في التأريخ ينسب للكفويّ اسمه «اعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار» ومما جاء فيه «سمعت الشافعي يقول «ثلاثة من العلماء من عجائب الدنيا: عربي لا يُعرب كلمة وهو أبو ثور، وعجمي لا يخطئ في كلمة وهو حسن بن محمد الزعفراني، وصغير كلما قال شيئاً صدّقه الكبار وهو أحمد بن حنبل». وعن الماتريدي انه قال: لزم على المسلمين كفاية طالبة العلم إذا خرج للطلب حتى لو امتنعوا عن كفايته يجبرون كما يجبرون على أداء الزكاة إذا امتنعوا عن أدائها. وروى انه قيل للسرخسي: كان الشافعي يحفظ ثلاثمائة كرّاس، فقال: حفظ الشافعي زكاة ما أحفظه (أي بنسبة الزكاة) فحسب حفظه فكان أثنى عشر ألف كرّاس.
ووجد النابلسي في دار مصطفى آغا بن الخضري من الكتب شرح الملتقى المسمّى «سكب الأنهر على ملتقى الأبحر» والجامع الصغير في أحاديث البشير النذير وديوان أبي نواس وشرح البردة وشرح بانت سعاد، كما اطّلع على فتوى في حلّ الدخان المسمّى بالتّتن لشيخ الإسلام علي الحلبي. ورأى النابلسي عند عبد اللطيف بن سنين عدة رسائل أكثرها للجلال السيوطي منها رسالة «الإسفار في تقليم الأظفار» وكيف الابتداء بذلك، في أي يد وهل يقيّد بيوم دون يوم. قيل يبدأ بخنصر اليد اليمنى ثم بالوسطى ثم بالإبهام ثم بالبنصر ثم بالمسبّحة، ثم بإيهام اليسرى ثم بالوسطى منها ثم بالخنصر ثم بالسبابة ثم بالبنصر وهكذا في الرجلين، وان ذلك أمانٌ من الرمد. وقد أنكر ابن دقيق العيد جميع ذلك. ومن الرسائل رسالة «أبناء الأذكياء لحياة الأنبياء» ورسالة «في إرخاء طرف العمامة» ورسالة للشيخ حسن الشهير بالمملوك شرح فيها ألغاز الشيخ عمر بن الفارض. وتمّت في ذلك المجلس أيضاً مراجعة فتاوى قاضي خان بمسألة وقفية وهي: رجل قال أرضي هذه صدقة موقوفة علي ولدي، كانت الغلّة لولد صلبه يستوي فيه الذكر والأنثى لأن إسم الولد مأخوذ من الولادة والولادة موجودة في الذكر والأنثى، إلّا ان يقول على الذكر من ولدي فلا يدخل فيه الإناث وإذا جاز هذا الوقف فما دام يوجد من ولد الصلب كانت الغلة له لا غير ولو لم يبقَ واحد من البطن الأول تصرف الغلة الى الفقراء ولا يصرف الى ولد الولد شيء. وان لم يكن له وقت الوقف ولد لصلبه وله ولد الإبن كانت الغلة لولد الإبن لا يشاركه في ذلك من دونه من البطون، ويكون ولد الابن عند عدم ولد الصلب بمنزلة ولد الصلب.
ونشير أخيراً الى أن من جملة المساجد التي زارها النابلسي في طرابلس جامع محمود بك، وهذا الجامع بناه محمود بك السنجق الذي وقف ضياعاً كاملة على بناته وأولادهن وكانت غلّة الوقف توزّع على كثير من عائلات بيروت وأولادها من نسل بنات محمود بك السنجق المذكور وكان من جملة المستحقين والدي عن والدته عائشة مصطفى موسى رحم الله الجميع.

* مؤرخ