بيروت - لبنان

اخر الأخبار

2 آذار 2024 12:00ص عبد الغني طليس يواجه شُعراء ونقّاداً: في «لحظة.. يا زُعَماءَ الشّعر» الناقد يتكلّم!

حجم الخط
د. وليد حداد

لا يهادن عبد الغني طليس في كتابه النقدي «لحظة.. يا زُعَماءَ الشّعر» أحداً من الشعراء، لا الروّاد في الخمسينيات، ولا الذين جاءوا بعدهم، وهو إذ يختار نقاطاً معينة يصوّب عليهم من خلالها، يحفر في تلك النقاط ويوسّعها في شكل يبدو كأن أحداً لم يكن ينتبه إليها. كأنما أراد طليس الابتعاد الكلي عن كل ما قيل عن الشعراء الذين يتناولهم وهم ثلاثة عشر شاعراً من المتنبي وأبي فراس الحمداني وأبي نواس إلى بودلير وأدونيس ونزار قباني وسعيد عقل ومحمود درويش وبدر شاكر السيّاب وجبران وأحمد شوقي في عملية نقدية جرّارة فعلاً تنتهي من واحد وتبدأ بآخَر عبر الطَّرْق على حديدٍ ما في تجربته الشعرية، تحديداً الحديد الذي بدأ يكتنفه التلَف في نتاجه الشعري، إذا اعتبرنا أن الشعر معادن منها الذهب ومنها الحديد والنحاس والتنك. والمُلاحَظ أن طليس يمتلك من الجرأة ما يؤهله لمناقشة أمور كان ولا يزال يتهرّب الكثر منها... وعلى رأس ذلك تصنيف الشعر، ما هو، وما هي شروطه، وجيل النصف الأول من القرن الماضي والنصف الثاني وحالياً ربع القرن الحالي يتحاشى الاقتراب من تعريف الشعر.
كأنه زومُ الزيتون، تعريفُ الشّعر. إقتحمَ بعض القدامى مسألةَ تعريفه وتحديده فلم يتطابق رأيُ هذا المؤرخ مع ذاك، ولا ذلك الناقد مع أولئك النقاد. أما المُحدَثُون فأغلبهم حتى لا نقول كلّهم هربوا من الاقتراب إلى تعريفِه، وفضّلوا البقاء على الحياد الآمن وكأن دقّ الأبواب على تعريف الشعر شأن مقدّسٌ يمكن أن يُتّهم فيه شخص بالكُفر أو بالتجديف. بوضوح: هناك نوع من الاختباء خلف غموض تعريف الشعر، ودقّةِ مكوّناته الصغرى، وصعوبةِ تحديد عناصره الكبرى، وتالياً الذهاب إلى الاستسهال باعتماد تعريفات قديمة هي الأخرى موضع شكّ وتقليب شِفاه ونكران.
في كتابي «لحظة.. يا زُعَماءَ الشّعر» قلتُ سأفتح باب تعريف الشّعر بما لديّ من المخزون عنه وبما يمكن أن يكون إضافة. فبدأتُ بأن «الشّعر لُغة». لغة من الطبيعي أن تُرفَق بأوصاف الجمال والبلاغة والاختصار والإختلاف عن اللغة العامة المعتمَدة في النثر. قلتُ إن الشِّعر لغة ولم أحدد أي لغة (في العالم) بل حدّدتُ عناصرها الحيّة التي هي الجمال والبلاغة والإختلاف عن النثر الذي يعتمد الشرح والمعاني المكشوفة.
في الدرجة الثانية قلت في كتابي أن الصفة الأقرب إلى لُغة الشّعر التي شرحناها هي «الخيَال». لا يمكن أن تُعجب بقصيدة أو ببيت قصيد أو بفكرة إذا خلت من الخيال. الخيال يخلّص الكلمات من «الدنيويات» المرئية والمسموعة ويرفعها إلى عالم اللامحسوس فتأتي بصُور تشارك المفاجأة في صناعتها. الخيال هو المادة التي لا يمكن شِعراً أن يوجدَ بدونها.
بعد اللغة الجمالية والخيال، تتقدم «المعاني الجديدة» في التعريف. المعاني الجديدة تستبطن قراءات ومعارف جمّة لدى الشاعر بحيث يستطيع الإتيان بمعان جديدة وبأفكار غادرَت السائد أو المألوف. كما تستبطنُ الشقّ المهني الذي يستفيد من خبرات الشعراء الآخَرين ونتاجهم. فالشّعر الذي ينقل معاني قديمة لا اعتراف له بفضل. هو تكرار يجعل نفَس القصيدة يغلب عليه الروتين والضعف. وكل معنى جديد هو مشاركة في صناعة روح الشّعر.
بعد المعاني الجديدة يتقدّم عنصر «الذكاء الفني» الذي ينبغي أن يتوافر في القصيدة وفي الشاعر معاً. الذكاء الفني يعطي صورة متلألئة لخبرات الشاعر في الكتابة ومراسِه الجادّ، ويمنح القصيدة حركيّة نابضة تبدأ من السطر الأول وتتهادى في بقية السطور بإشراف واعٍ ومدروس وإبداعي. الذكاء الفني يطال كل شيء في القصيدة، من الكلمات إلى تركيب الجُمل إلى التنقّل من فكرة إلى فكرة. حتى اختيار الوزن والقافية يدخل في باب الذكاء الفني.
أما لماذا لم نضع الوزن والقافية من ضمن تعريف الشعر فلأن هناك شعرا عالمياً لا على أوزان ولا على قوافٍ فهل نلقي به إلى التهلُكة بمجرّد أن الشّعر العربي وغيره لدى بعض الأمم كان وما زال موزونا مقفّى، ومنذ سبعين عاماً تحرّر بعضه؟
هي دعوةٌ إلى الإسهام في إيجاد تعريف حقيقي للشّعر ليس فيه نقصان في شيء. التعريفات من الجاهلية إلى العصر العباسي كانت تضرب على وتراً وتتناسى أوتاراً أخرى يتطلبها الشّعر، ربما لأن مرور الزمن، واختلاط الأمم، وتمازج الفنون، والعلوم ككل، والتحليل والتعليل والاستنباطُ كلّها تسهّل إيضاح التعريف الأقرب إلى الواقع، للشّعر.