بيروت - لبنان

اخر الأخبار

20 نيسان 2024 12:00ص عن رواية «زَين العابرين» لطليس.. هل حقّاً ما بعد هيفا غير ما قبْلَها؟

حجم الخط
رانيا ياسين

 إذا كانت سيرة حياة أي أديب مختلط بالعالَم الاجتماعي والثقافي في بلده، مطروحةً للكتابة على شكل ومضمون روائيّين، وبقلم الأديب نفسه، فإن المطلوب الأول منه هو الصدق والجرأة: الصدق في استعادة الماضي كلوحات متتالية مترابطة لا تشوبها شوائب النفخ والشفط التي أصبحت قوَى تدخُّل على كل صورة عندنا، والجرأة في قول الواقع كما هو من دون تجميله وتزيينه إلا ما يحتاج تجميلاً أو زينة أدبية تفيد في العملية الإبداعية.
في كتاب «زَين العابرين» لعبد الغني طليس وهو أول رواية - سيرة ذاتية لهُ، اقتحام لسبعين عاما هي عمر الكاتب كاملاً، عشرون منها قبل «ستديو الفن ١٩٧٤»، وخمسون بعد ذلك البرنامج الفتّان الذي نقل عشرات اللبنانيين أصحاب المواهب في الغناء والشعر والموسيقى والتقديم ومنهم طليس إلى الشهرة الكبيرة والأضواء الباهرة التي لم تكن في لبنان هناك أضواء موازية لها في ذلك الزمن، رغم أن النهضة الفنية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعلمية كانت قاعدتها الستيّنيات والسبعينيات وفُتاتُ الثمانينات حين نقلت الحرب اللبنانية لبنان رسمياً وواقعياً إلى «بلد الحروب»، والحروب قتّالة المواهب وغرّاقة المراكب.
من البيت الذي ربيَ فيه عبد الغني (زين العابرين في الرواية) في بعلبك، إلى بيروت برج البراجنة ومدرسة ابتدائية وثانوية واحدة كانت المَبيت التعليمي على مدى ثلاثة عشر عاماً. والفوز في «ستديو الفن» في الشّعر الغنائي عام ١٩٧٤ أطلقه في الحياة الفنية التي تجذّر فيها ابتداء من ١٩٧٧ يوم انتسب إلى الصحافة الفنية («الشبكة» في «دار الصياد» ) ومن هناك إلى الأرض الواسعة والحياة الفنية اللبنانية التي أحبّها وانقاد لها كما أحبّته وانقادت له بنجومها ونجماتها ولؤلؤ الأجساد.
لا شك في أن المقاطع المرويّة لمشاهد جنسية، حصلت في حياته «معهُنّ» لم يُعمِل فيها طليس تركيباً أو اصطناعاً. الوقائع تجرّ حالها، والمواقف تستدعي المواقف، وفي المعنى دلالتان: الأولى إظهار عالَم الفنانين والفنانات بعَفشه ونَفْشِه، والثانية إظهارُ عالَم الصحافة وما كانت تأثيراته. والعلاقات ليست بالضرورة ذات مكسب مادي أو إعلامي مباشر، فربما فائدة غير منظورة اليوم وظاهرة غداً، وحتى العلاقات بغير الفنانات (صديقاتهنّ) كانت لا تختلف عن تفاصيل خيال الفنانات في ترتيب العلاقة وتبويبها ومآلها، وكان طليس في استرجاع بعض تلك العلاقات يعمد إلى انتقاء ما فيه فانتازيا جنسية أو خَيال أو إخصابٍ للوعي  من أجل إيصال الفكرة أو الأفكار الإيروتيكية من ضمن مندرجات الحياة الصحافية اليومية، فالجنس مثل كتابة المقال مثل السهرة إلى الصباح مثل جلسات العمل، وبعض أجساد الفنانات لا دوام لها بل.. كل الوقت لها، لذلك يمكن القول إن اختلاط المَشاهد العملية الصحفية مع مَشاهد الوَله الجسدي لا يبذل طليس جهدا لإقناعنا أنه حقيقي وأمر واقع في كتابه «زين العابدين».
لم يحقق طليس أمنياته. لم يحلم أصلاً برئاسة تحرير محلَة رغم أنه تسلّم مجلة «سحَر»، وكل ما فعله في مسرح الأطفال (الذي جسّده الممثل فهمان) ومسرح الكبار (ثلاث مسرحيات وُئدَت بعد اكتمال عناصرها الكاملة) وفي تلحين الأغاني لنجوم مُحتَرَمين، وفي إنجاز تجربة نقدية باهرة قدّمت لنجوم الفن نصائح بعضها الذي أخَذَ بها وصلَ الآفاق، وبعضها الذي لم يأخذ بقي ناقصاً شيئاً. لم يحقق طليس أمنياته لكنّ كتاب «زين العابدين» يتضمن أهمّ دراستين واحدة عن انقلاب عمل الصحافة بين السبعينيات والتسعينيات من نار ونور إلى رماد بشِع، وواحدة عن الحياة الفنية ومخاض الفنون خلال الخمسين عاماً في لبنان والعالم العربي، وهاتان الدراستان كما يبدو لعين الناقد من الإنجازات الثقافية الموضوعية، وفيها غوص عميق واستثنائي في كل أمواج الفنون اللبنانية والعربية، وردود على السؤال الأكبر الذي يُخشى من إطلاقه لدى البعض، وهو لدى طليس تحصيل حاصلٍ وثباتُ ثابتٍ وتوثيق : «كانت هيفا وهبي الظاهرة الأكبر في هذه السنوات الخمسين، بحيث يمكن القول ما قبل هيفا وما بعد هيفا».
وبين البُعد الشخصي والعائلي في رواية «زين العابدين»، ثم البُعد المهني الصحافي، يبرُز البُعد الإيمانيّ لدى عبّد الغني طليس بشخصية زين العابرِين الذي، من خلال ذاكرته النارية، يعود إلى نقاط شغلَته في عمر النضج والكهولة وما حولها وهي قيمة القرآن الكريم ككتاب منزَل من الله إلى محمدّ، وكل الروايات والتركيبات التي صُنعَت لتُزيل صفة الإعجاز عن القرآن وإلباسه إلى أحد ممن كانوا حول النبي محمد سقطت في رأيه وكانت توليفاً محضاً وتبجحاً محضاً. فضلاً عن القصيدة الطويلة الذي يُذكّر فيها طليس قارئه الروائي بأنه شاعرٌ في الأساس، وفيها طرح عميق لفكرة في سؤال: لو استطاع الإنسان أن يرى الله.. هل كان اكتفى من الأسئلة أم كان سيواظب على نوع آخَر من الأسئلة؟...
ويوحي طليس في نهاية الرواية بأن البداية إذا كانت كذا ومُلحقاتُها كذا، وتسلسلَ الوقائع والأعمال كذا، والمآلات كذا، وعند طليس (زين في الرواية) وغيره هناك نهاية (في هذا البحر الكونيّ)، فإنّ البداية ستعود في بطن امرأة وصورة جنين.
يكتب عبد الغني طليس رواية «زَين العابرين» ويصدرها عن دار «زمكان» في ٢٤٠ صفحة من القطع الكبير، وأعوامٌ سبعون، بينها خمسون عامّةً، تخطُر على الورق قلقة متدلّلة جادة ساخرة وتشعل مفرقعاتها الخُلّبِية التي يكاد طليس في تصويره لها أن يجسّدَها حرفاً حرفاً.