بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 أيار 2023 12:00ص عودة ثالثة للثقافة.. لتشرق شمس الثقافة من جديد

حجم الخط
منذ سنتين كنت قد قرأت نص رسالة من مواطن تونسي مثقف مرسلة إلى مجلة «العربي» العريقة، التي هي من أهم وأرقى الإصدارات في العالم العربي نظرا لقيمتها في ميادين الثقافة والأدب، يقول فيها «أنه كان من المواظبين والأوفياء لاقتناء المجلة وقراءتها باستمرار، لكن نظرا لمشاغل الحياة وجسامة المسؤوليات العائلية والمهنية فإن شغفي بالقراءة والمطالعة قد تقلّص كثيرا ولم أعد أقتني المجلة واكتفي بإلقاء نظرة عابرة على غلافها الجميل واطّلاع سريع على عناوين مواضيعها وأعترف بأن شعورا بالذنب يراودني».
هذه حالة كثيرة ومكررة لدى المواطن العربي الذي يمتنع عن القراءة وابداعاتها والسبب الذي يقرّ به غير مقنع لكن لهذا السبب أو لغيره بحيث تتعدد الأسباب بتعدد المتوقفين عن القراءة والمطالعة، فهو عذر أقبح من ذنب ومطلوب إسقاط كل الأعذار التي تحول بين المواطنين والقراءة والمطالعة.
ولندرك انه إذا ما توقفت القراءة والمطالعة، أو خفّت، نامت الحياة وغاب الإبداع وقلّ التفكير والتدبير ودخلنا في عالم الانحطاط والتخلّف وساد الجهل والجاهلين، وأضعنا ما نملك من الكثير من نِعَم الحياة التي اختص الله بها بلادنا وأوطاننا.
نلمس في واقعنا الوطني والعربي عامة إحجام كبير عن الثقافة وأداتها القراءة والمطالعة وهذا نذير شؤم، وإذا ما قارنّا حالنا الثقافي مع مجتمعات أخرى نكتشف الفجوة الكبيرة بيننا وبينها وهي فجوة حضارية وتقدّم وتطوّر، نلمس تراجع في الميادين الثقافية وإقلال في التأليف وإصدار الكتب التي تعالج قضايانا وشؤوننا وضعف التعامل والاهتمامات بمعارض الكتاب التي ازدهرت بها القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد والكويت وقلّ الازدحام البشري من المواطنين نحو هذه المعارض لشراء واقتناء كل كتاب يعالج مواضيعنا وقضايا الوطن والأمة وقضيتنا المركزية فلسطين حتى ما يكتب دينيا، إسلاميا أو مسيحيا، فكثير منه انعكاس لدعوات التطييف والتمذهب التي تفرّق ولا توحّد، وانتقلت هذه المعارض في كثير منها لتصبح انعكاسا لأنظمة ودول وليس للثقافة بأعماقها التوحيدية والإنسانية وبالمحبة والتعاون والتضامن وقلّ عدد المبدعين والشعراء والفن الأصيل وضعفت حركة المسرح وقلّت أفلام السينما العربية ومواضيعها التي تعالج قضايا العربي في حياته بالقرية وبالمدينة وفي الأسرة وقضايا الوطن الكبيرة، وغاب الكتّاب والمخرجين، وكنت قد أشرت لبعضهم، في مقالتي السابقة التي نشرت بجريدة «اللواء» بتاريخ ٤ آذار ٢٠٢٣ بعنوان: «لماذا الضجر من القراءة؟».
ووفاء للعمالقة في مجال الثقافة والفن ولفت نظر جيل الشباب لحياة هؤلاء الذين أضافوا للحضارة العربية والإنسانية الكثير من القيم والمعاني الحميدة وحتى لا يبقى أفراد كثر من المجتمع يلبّون نداء البطون ويتركون العقول تعوي من الجوع فسأتناول شخصيتين كبيرتين مهمين رحمهما الله:
١- عمار الشريعي، واحد من أعمدة الموسيقى في مصر والعالم العربي ترك علامات مضيئة وبصمات ثابتة في الموسيقى الآلية والغنائية العربية والموسيقى التصويرية لكثير من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية. مؤلف موسيقى بارع وناقد وشارح لها رغم كونه رجل كفيف، جده لوالده كان نائبا في البرلمان بعهد الملك فؤاد، والده محمد باشا كان من كبار المزارعين ونائب في البرلمان المصري بعد ثورة يوليو تموز بقيادة جمال عبد الناصر وجده لوالدته مراد بك الشريعي أحد أقطاب ثورة 19 وحكم عليه الاحتلال الإنكليزي بالإعدام لنضاله الوطني وشقيقه محمد علي كان سفير مصر بأستراليا. حفظ 5 أجزاء من القرآن الكريم وتدرّب على البيانو الذي اشتراه له والده تعرّف على معظم الموسيقيين الكبار، كمال الطويل بليغ حمدي وتلقّى منهم ومن كبار الموسيقيين المصريين علوم الموسيقى وتفوّق على أساتذته واعتبر نموذجا قويا في تحدي إعاقة فقدان البصر، نالت موسيقاه وأعماله شهرة ذائعة وحصل على جوائز عدة عربية وعالمية ومزج الأصالة بالمعاصرة بموسيقاه وتصدى لمشاكل المجتمع المصري والعربي واهتم بأغاني الأطفال.
2- أسامه أنور عكاشه (١٩٤١-٢٠١٠): عاش من العمر ٦٩ عاما، قدّم لمصر عصارات تفكيره وحبّه الجمّ لها، وكان لديه إثبات هوية مصر الاهتمام الأول وعشقه الاسكندرية رغم أنه لم يولد فيها وكان دائم الإقامة فيها وكانت بالنسبة إليه مكان الوحي الأدبي والثقافي وأكثر كتاباته ومؤلفاته كانت بالإسكندرية، يعتبر أكثر من كتب وألّف من مسلسلات وأفلام وسيناريو، وكان الأكثر شهرة بين من كتب مسلسلات وأفلام ودراما. كان يخاطب في أعماله الرائعة العقول والتاريخ والسياسة وحياة المجتمعات العربية والقيم والأخلاق، كان دأبه مصر العظيمة وشعبها الأصيل. والمواطنون العرب في كافة بلدانهم كانوا يتابعون أعماله ومسلسلاته، وكان المتلقّي يشعر نفسه تلميذا جامعيا أمام بروفسور كبير ومعلّم للأجيال قدير بما قدّمه وما كان يقدمه من أعمال درامية ومسلسلات وتمثيليات فنية، وما زال الجمهور العربي يذكر ويردد الكثير من أعماله (وأنا كاتب هذا المقال كنت واحدا من المتابعين لمعظم أعماله). وكان أشبه بضمير أمة يروي بإحساسه ومشاعره ما يعزز بالمتلقّي الفخر والاعتزاز بوطنه وبأمته العربية، كل أعماله الرائعة والمفيدة وفائدتها العميمة والعميقة لجيل معاصريه وأنا أحدهم وللأجيال القادمة، كان تجسيدا لعظمة مصر العظيمة في كل المراحل التاريخية منذ حكم الفراعنة وما صنعوه من حضارة قلّ نظيرها في التاريخ البشري إلى القائد العربي المسلم عمرو بن العاص والذى أوقع الكاتب عكاشة نفسه بخطيئة بانتقاده له وهو الذي فتح مصر وتولى قيادتها إلى عهد محمد علي باشا الى القائد العربي جمال عبد الناصر، كل هذه الإبداعات توقفت عندما توقف خفقان قلبه الكبير يوم ٢٨ أيار ٢٠١٠ وانتقل من دار الفناء، إلى دار البقاء، رحمات الله له وعليه.
حامل ليسانس آداب قسم الدراسات النفسية والاجتماعية من جامعة عين شمس عام ١٩٦٢ عمل على أثرها عملا اخصائيا اجتماعيا في مؤسسة لرعاية ألأحداث ثم مدرّسا في أسيوط, وبإدارة العلاقات العامة بديوان المحافظة كفر الشيخ لمدة، ثم أخصائي اجتماعي في رعاية الشباب بجامعة الأزهر ١٦ عاما ثم استقال ليتفرغ للكتابة والتأليف، وكان له مقال اسبوعي بجريدة «الأهرام» وكتب أكثر وأروع المسلسلات الشعبية والثقافية التي حكى بها المواطن العربي والتي استقرّت في العقول والضمائر ومنها مسلسل «ليالي الحلمية» الشهير، «الشهد والدموع»، «المصراوية» وقد حازت على جائزة أفضل عمل، وقد جسّد فيها تاريخ مصر والشعب المصري منذ ١٩١٤، و«أحلام في برج بابل»، و«خارج الدنيا»، و«عصفور النار» الذي حاكى فيها ما أصاب الوطن العربي من نيران مشتعلة في كل أرجائه، و«أرابيسك»، و«زيزينيا»، و«امرأة من زمن الحب»، و«أميرة في عابدين»، و«ما زال النيل يجري»، و«ضمير أبله حكمت»، و«الراية البيضاء»، و«قال البحر»، و«منخفض الهند الموسمي»، و«وهج الصيف» و«على أبواب المدينة»، و«المشربية».
كان ناصري الهوى مبدئي الموقف والفكر طالب بحلّ جامعة الدول العربية وإنشاء منظومة كومنولث الدول الناطقة باللغة العربية على خلفية الاقتصاد والتعاون، وهاجم التطرف والمتطرفين، وكان في كل ما كتبه وقدّمه اتسم بعمق المواضيع وبخلاصات أشبه بتوصيات ووصايا للأجيال.
كان وسيظل أسامه أنور عكاشة حالة وظاهرة إبداعية خلّاقة ومنتجة ومرشدا يقود نحو الحب والخير للمجتمع والأوطان العربية وقاوم الظلم، وأعماله اعتمدت على الفن والسياسة والتاريخ والبحث عن الهوية وصراع الأخلاق والمادة وبين خطورة التخلّي عن المبادئ لصالح المادة والمصالح الشخصية، وكان صاحب رؤية مستقبلية للأحداث.
وأخيرا فإن العملاقين بل الهرمين، عكاشة والشريعي سيظلان خالدين في ضمائر ووجدان مواطنيهم في مصر والبلاد العربية وبرحيلهم فإن الخسارة الإنسانية والثقافية والعلمية والفنية والإبداع الفني والموسيقي ما زال في مصر وبلداننا غائبا.