بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 آذار 2024 12:00ص فرويد وعمليّة إنقاذه من براثن النّازيّة

حجم الخط
منصور مبارك*

تغفو في حواشي التاريخ شخصيّاتٌ بارزة، بعضها دُفِعَ قَسراً، والبعض الآخر فرَّ طوعاً من المَتن العريض للأحداث التاريخيّة الكبرى. سيرة هؤلاء غالباً ما يسردها الآخرون، ولا يُمكن الإلمام بها بعيداً عن العظماء الذين عاشوا في ظلالهم. وتمتاز تواريخ حركة التحليل النفسيّ بامتلاء هوامشها بشخوصٍ حاذِقة لامعة، وبخاصّة إبّان تأسيس الحركة على يد سيغموند فرويد بمعونة كارل غوستاف يونغ، ومن ثمّ الانشقاق العظيم الذي أصاب الحركة وجريانها في مسربَيْن مُتباينَيْن، حيث انقلبَ مَنْ بَدَيَا بمنزلة الأب والوريث، لاحقاً، إلى خصمَيْن لدودَيْن.
مثلما هو معلوم، تلوَّنت حركةُ التحليلِ النفسي بالديانة اليهوديّة لكون العصبة الأولى من مؤسّسيها كانوا جميعاً من اليهود، ولكن بعد سنواتٍ من تأسيس فرويد «جمعيّة الأربعاء النفسيّة» في خريف العام 1902، والتي ستَدخل طوراً أشدّ وضوحاً ونضجاً لمَراميها مع تغيير مسمّاها إلى «جمعيّة فيينّا للتحليل النفسي» في العام 1908، التقى يونغ شابّاً بريطانيّاً يتحدَّر من ويلز في المؤتمر الدولي الأوّل لطبّ النَّفس والأعصاب في العام 1907 المُنعقد في مدينة أمستردام، ولفتَ الشابّ إرنست جونز اهتمامَ يونغ الذي رآه باحثاً موهوباً، ونقل إلى فرويد رغبة الأوّل في زيارته في فيينّا.
كان جونز المولود في العام 1879، طالباً نبيهاً وألمعيّاً، فقد حازَ شهادة الطبّ ورخصة مزاولته في سنٍّ مبكِّرة. كما أنّه واصَلَ التعمُّق والتحصيل العلمي في مؤسّساتٍ علميّة مرموقة في بداية العقد الثاني من عمره، ولم يكُن أسيراً لمهنة الطبّ، فقد تمتَّع بثقافةٍ عالية وخالَطَ مُفكّرين بارزين من طراز برنارد شو، وهربرت جورج ويلز، وجيمس جويس وغيرهم. أمّا ما لَفَتَهُ إلى فرويد فكان مقالة نَشَرَها الأخير في العام 1905 تحت عنوان: «دورا: تحليل لحالة هستيريا». في ذلك الوقت لم تكُن مؤلَّفاتُ فرويد قد تُرجمت إلى لغاتٍ أخرى، فانبرى جونز إلى تعلُّم اللّغة الألمانيّة بغية الإلمام التامّ بمنهج فرويد الذي أبصره مَنهجاً رائداً ومُتقناً وبعيداً عن تلك الكلاسيكيّة المُعتمَدة في الجزيرة البريطانيّة.
كان جونز وقتها يُصارِع هواجسه الشخصيّة حول الكيفيّة التي يتجاوز فيها ما رآه مكانةً هامشيّة لم يغادرها، على الرّغم من مُثابرته وذكائه، فقد كان مُتبرِّماً من اسمه الذي رآه مُشابهاً للآلاف من سكّان المملكة المتّحدة. وفي ما يُشبه الاعتراف النفسي أو يقوم مقامه، كشفَ جونز في سيرته الذاتيّة «تداعيات حرّة» الصادرة في العام 1959، بعد عام على وفاته، أنّه لم يتغلَّب أبداً على شعوره بعدم التميُّز. واللّافت هو محاولته في وقتٍ ما تضخيم اسمه بإضافةِ لقبٍ آخر إليه، لكنّ معلّمه وقدوته سيغموند فرويد ثناه عن ذلك.
وخلافاً لهذا الهاجس الذي لم يُبارِح عقلَ جونز، فإنّه تمكَّن من أن يصبح الرجلَ الثاني بعد فرويد في إدارة عالَم التحليل النفسي عبر طاقةٍ خلّاقة ومهاراتٍ إداريّة وقدرةٍ أدبيّة تستند إلى قراءاتٍ كثيرة، وحاذقة. كان جونز غزيرَ الإنتاج، لكن يبقى عمله الأكثر أهميّة مُتجسّداً في ثلاثة مجلّدات يحكي فيها سيرةَ فرويد ويَشرح أفكارَه بأسلوبٍ سلسٍ رائق. ولئن كان يُنسَب الفضلُ لجونز في إدخال التحليل النفسي إلى العالم الناطق بالإنكليزيّة، فإنّه وحده مَن جَعَلَ أفكارَ فرويد ترحل خارج حدود أوروبا من خلال تأسيسه جمعيّة التحليل النفسي الأميركيّة.
تحلّى جونز بطاقةٍ هائلة وعزمٍ لا يلين، وبخاصّة في تشييد المؤسّسات الفكريّة التي تُسهم في نشرِ أفكار التحليل النفسي؛ فهو لم يُنشئ «الجمعيّة البريطانيّة للتحليل النفسي» فحسب، بل قامَ كذلك بتأسيس «المجلّة الدوليّة للتحليل النفسي»، وتولّى تحريرَها لأعوامٍ عدّة، وكَتَبَ العديد من بحوثها. فضلاً عن ذلك، فإنّه يُزجى له الفضل في صَون «الجمعيّة الدوليّة للتحليل النفسي» حين عصفتْ بها الانشقاقاتُ في الثلاثينيّات من القرن الماضي.
نظَّم حين كان رئيساً للجمعيّة عمليّةَ إنقاذِ العديد من اليهود، من بينهم فرويد، من خطرِ النازيّة، وعملَ على توطينهم في إنكلترا وأماكن أخرى. هذا الكِتاب يروي قصّةَ حياة رجلٍ استثنائي، ممَّن أسهموا في صَوْغِ القرن العشرين، ومثيرٍ للجَدَل. فقد أَثارَ الجَدَلَ في حياته ومَماته نتيجة غطرسته، وعدم أمانته، وتقديسه أخيراً، وليس آخراً، لمعلّمه، فنعته نَفَرٌ غير قليل بـ «سلوقي فرويد»، وقد أَسَرَّ فرويد لصديقه ساندور فرنشيزي: «جونز يصنع المشكلات طوال الوقت، ولكنّنا نعرف جدارته».
ولعلّ أعظم إنجازٍ يُسجَّل لجونز قد صنعه مع احتلال القوّات النازيّة مدينة فيينّا، وإعلان هتلر لاحقاً، بخطبةٍ حماسيّةٍ من قلب العاصمة، عودة النمسا إلى حضن الأمّ ألمانيا. لم ينتظر جونز طويلاً، فسافَر إلى مدينة براغ، وهناك استأجر طائرةً صغيرة نَقلته إلى فيينّا. حال وصوله، توجَّه مباشرةً إلى دار نشر التحليل النفسي العالَميّة، حيث وَجَدَ مجموعةً من الجنود يقومون بجرْدِ محتوياتها ومُصادرتها، وألفى مارتن فرويد مُحتجَزاً داخل الدار، وسرعان ما اعتقله الجنود أيضاً. أدرك جونز أنّ المُستهدَف من ذلك كلّه هو فرويد نفسه. وقتها كان مؤسِّس عِلم النَّفس في حالٍ من الذهول.. تماماً كما لو أنّه مُنفصلٌ عن الواقع، إذ جالت في خاطره القدرة على إقناع النازيّين بالوقوف على الحياد من يهود النمسا وحركة التحليل النفسي نظير انكفاء الأخيرين عن الشأن السياسي والآيديولوجي، كلّ ذلك في الوقت الذي كانت فيه المدينةُ تشهدُ عمليّات نهبٍ وتخريبٍ لمُمتلكات اليهود.
طلب جونز من معلّمه تجهيز نفسه لمُغادرة المدينة إلى لندن، وأخبره بأنّه سيتكفَّل بإعداد الترتيبات اللّازمة من خلال علاقاته بالحكومة البريطانيّة. تلكَّأ فرويد في البدء، ولكنّه حَزَمَ حقائبَه بعدما استوقَف النازيّون ابنته آنا، وتمكَّن جونز لدى عودته إلى لندن من تأمين أربع وعشرين تأشيرة دخول إلى المَملكة المتّحدة لمصلحة أسرة فرويد وأصدقائها، وترتيب مَسار رحلتهم في قطار الشرق إلى باريس ومن ثمّ إلى لندن، حيث أمَّن له جونز استقبالاً دبلوماسيّاً.
في سياق الأحداث التاريخيّة، تُعَدّ عمليّةُ إنقاذ فرويد من براثن النازيّة حَدَثاً كبيراً، فقد كانت عمليّةُ إحراقِ كُتبه تُنظَّم في معظم المُدن الألمانيّة الكبرى وسط حالةِ هيجانٍ جماهيري، وفرويد كان مصيره، لو استقرَّ على رأيه بالمكوث في فيينّا، الترحيل إلى مُعسكرات الاعتقال الكبرى. وهذا الإنجاز لسببٍ ما ظلَّ قابعاً في زاويةٍ مُهمَلة كشأنِ إنجازاتِ جونز الأخرى.

* كاتب ومُترجِم من الكويت
(يُنشر هذا المقال بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونيّة الصادرة عن مؤسّسة الفكر العربيّ)