بيروت - لبنان

8 شباط 2024 12:00ص فوضى المتفننين!

حجم الخط
قدر مبدعينا أن يعيشوا حياتهم يعملون في صمت ومثابرة وجدّ. يخدمون مجتمعهم بعيدا عن مهرجانات الإعلام والدعاوة، ثم يذهبون في صمت أيضا من غير أن ينالوا في حياتهم كلمة تقدير أو لفتة كريمة. ولا يهتم «إعلامنا» - الذي يستحيل إعلانا استعراضيا - إلّا بمن يجري وراء منشئيه أو يعتنق مصالحهم وخصوصيات الطوائف والأسر المقتدرة. هكذا تختل الموازين وتهدر القيم، ونرى كبارا يؤولون إلى الظل والبؤس وصغارا يلمعون تحت الأضواء. ويؤازر هذه الحال المزرية تفشي وسائل التبادل الحديثة المستوردة بجملتها.
في مقابل إعلامنا المتثعلب بلا رادع ولا وازع، نرى في بلاد الناس للفنون شأنا ساميا ومقاما مرموقا. فهي لسانهم الصادق وصوتهم المدوي. تبثّ وسائل الإعلام مفاخرها ومآثرها وتعرف أمم الأرض بمن نبغ فيها من رجال الأدب والفن والاجتماع.
القيّمون على إعلامهم يتحلّون بسعة العلم وسلامة الذوق وبُعد النظر، ويلمّون بعقلية نخبهم الفكرية والأدبية فنراهم يعدّون الخطط إعدادا منبثقا من ثقافة صحيحة حيّة، ومبنيا على دراسة دقيقة محكمة، تلائم كبريات المعايير الفنية والتقنية. أما نحن، فقلّما نماشي الفن الرفيع وقلّما نراعي الذوق السليم أو نتقيّد بقاعدة التخصص، ولكننا نترك أمورنا فوضى تتولاها عموما أيدٍ لم تتعوّد النظام الدقيق، وتسيّرها أفكار لم تتقوَّ بأنوار العلوم، ولم تستفد من تجارب الحياة. فنرى مثلا حسناء أو متصابية تتحول فجأة إلى صفوف كبار الممثلين ثم إلى إذاعة الأخبار الموجهة، وسرعان ما يستمزج رأيها في أخطر الأمور فتأتي محاولات ناشري «إبداعاتها» مرتجلة أو وليدة الطفرة والعجلة.
يسقط علينا إعلام اليوم على الخصوص، أغاني سخيفة المعنى ركيكة المبنى رديئة التلحين، يكثر فيها التقليد المملّ والتكرار المخلّ والتجديد السقيم، ما يسيء إلى قدسية الفن ويمزق آذان أبسط الناس، بما يشبه الصفير والشهيق.
إن إعلاميين وفنيين وكتّابا من هذا الطراز يسيئون إلى مجتمعنا التعددي إساءة تصير دنيانا الرحبة في رسالتها، ضيقة النطاق، وتجعل حياتنا عرضة لهجمات مطامع الشعوبية التي هي السبب الرئيس لبؤسنا ومبعث كل الشرور.

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه