بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 تشرين الأول 2023 12:00ص فيروز... لماذا تُخفي نفسَها عن الإعلام؟

حجم الخط
في كتابي «أسرار الكُنوز بين الرحباني وفيروز» الذي وقِّعته في ملتقى خيرات الزين/ مقابل مدخل قصر الشهيد رفيق الحريري - قريطم، عناوين كثيرة تهمّ القارئ في تحليل الأعمال المسرحية والغنائية الرحبانية وإبعادِها من روتين العَرض والاستماع بقصدِ إدخالها في جدليّة الفنون العالية والدواعي السياسية والاجتماعية في الواقع الراهن أيامها وتحويلها على يدي الأخوين رحباني وصوت فيروز إلى مواد سابقة لزمنها بل على جبين الزمن.
ومؤسف القول أنه لا وجود في المؤلّفات اللبنانية الأكاديمية عن الرحباني وفيروز أي بحث في الشعر الرحباني، ولا في الموسيقى الرحبانية، ولا في المسرح الغنائي الرحباني ولا في نقد الأعمال الرحبانية التي كانت مقالات متفرّقة النوازع والأهواء غالباً. ليس هناك إلّا المذكرات عن منصور (لانكسارِ ذاكرة عاصي بعد انفجار الدماغ التي حصلت له عام ١٩٧٢) ومقاطع من الأعمال ولا شيءٍ آخر. أنا كما هو معروف اعتمدت قاعدة ذكريات منصور التي سجلتُها لتلفزيون لبنان أوائل الثمانينيّات، لكن مع ذكريات عاصي أيضاً التي كوّنتُها وسجّلتُها عام ١٩٧٧ وكان طبياً في حال يستطيع الكلام والإستعادة. لكن كل المذكرات لعاصي ومنصور اعتبرتُها لا أكثر من قاعدةٍ للبناء عليها ثم انصرفْتُ إلى التحليل والتعليل والمقارنة والمشابهة وتكوين الأفكار وهنا جَدَّ الجِد علَيّ حتى كوَاني بحبّ... إلى أن انتهى كتابي على النحو المرجعي الذي بين أيديكم من دون الاستعانة بأي مراجع تضيف إلى معلوماتي، لعدم وجودها أصلاً.
من الكتاب اخترتُ فصلاً بعنوان:

فيروز... لماذا تُخفي نفسَها عن الإعلام؟

بين الناس في لبنان، والعالم العربي، وأعني بالناس هنا مختلَف الطبقات الإجتماعية والعلْمية، حقيقةٌ مَفروغٌ منها هي أن فيروز «تكره» الإعلام. لا سبيل إلى نقاش هذه الحقيقة مع أحد. كأنّ هناك إجماعاً تاماً. وقد رسّخت فيروز هذه الثابتة بابتعادها الجذري عن كل ما يرتبط بالإعلام والإعلاميين. حتى الذين كانوا مُقرّبين في سنوات سابقة منذ ربع قرن مثلاً، فقدوا طريقة الإتصال الشخصي بها. بعضهم استسلمَ، بعضهم يحاول، والمحاولة والإستسلام يُمنَيان بالنتيجة ذاتها، وهي أن فيروز خارج السمع إلّا عبر ابنتها ريما الرحباني التي لها موقفٌ متوجّس من الإعلام، فضلاً عن أن أسلوب التعاطي مع فيروز بالنسبة إليها، له شروط «خاصة». ولهذا الموقف أسباب.
في مرحلة بدايات فيروز، بعد زواجها من عاصي الرحباني، كانت فيروز خجولة، بل خجولة جدّاً. ورغم أنها كانت تُحب الصحافة وتلفزيون وإذاعة لبنان (وهي وسائل ذلك الزمن الوحيدة لما نسميه اليوم الإعلام) كان عاصي يتولّى المقابلات، هو ومنصور، وكان عاصي يُصرّ على أن تكون فيروز حاضرة في المقابلات، لكنْ بإشرافه المباشر على كل ما تقول. في أرشيف تلفزيون لبنان مقابلات في برامج لنجيب حنكش ورياض شرارة وعادل مالك، مع عاصي ومنصور وفيروز. كل هذه المقابلات تبدأ بعاصي ثم منصور ثم فيروز. كأنّ التسمية الشهيرة «الأخَوان رحباني وفيروز» كانت تقوم بترتيب التسلسل القِيَمي وتمنح المذيع السلّم الذي ينبغي أن يعتمده في الحوار. من الواضح أن عاصي ومنصور كانا مُجَرّبين مع الإعلاميِّين، وحين يحضران تلتفت إليهما الأنظار باعتبارهما الكاتبين المسرحيين والملحّنين والمُشرفين على الأعمال المسرحية، ولم تكن فيروز، بعد، قد تحصّنت بالردود المناسبة، ولا بالأجوبة التي كان الأخَوان يتولّيانها عنها. وأسلوب تعبيرها عن نفسها كان لا يزال ضعيفاً. وحين «صرَخ» بها مرّة نجيب حنكش بظرفه المعهود «إنتِ ما بتحكي؟» أجابت بالخجل عينه «أنا بغني». كان عاصي ومنصور يرغبان بل يتمنيان لو أن فيروز تغادر خجلَها لتصبح أكثر حرية وعفوية في ما تقول. والواضح من وجه فيروز في تلك المقابلات أنها تتكلم وتنظر إلى عاصي لتعرف مدى تجاوبه أو اطمئنانه لما تقول. كأنها كانت تراقب نفسَها خشية أن تمرّ كلمة أو جملة لا تعجب عاصي. إلى هذا الحد كانت هيمنة عاصي. وهناك مقابلة في التلفزيون المصري في أوائل الستينيّات مع الأخَوين وفيروز حين سافروا للمرة الأولى إلى القاهرة بترتيب من المخرج صبري الشريف، حدَث فيها الشيء نفسه من ارتباك فيروز في الأجوبة، و«ضاعت» في ما تقول لأن الغلط عند عاصي كان محظوراً، وهي كانت لا تملك سرعة البديهة وسرعة التخلّص في المواقف العادية فكيف بالمواقف المحرجة، مع أنه لم يكن هناك إحراج بل احتفاء بالثلاثة اللبنانيين الذين نهَضوا بالفن اللبناني الجديد الذي استقبلته مصر بكثير من الإشادة والترحيب.
إذن، السنوات الأولى من ثلاثية عاصي ومنصور وفيروز كانت فيها فيروز مُتلَقّية لا مُبادِرة، وكانت تلتزم شروطاً معينة يضعها عاصي بالتحديد، لكي تظهرَ بأفضل صورة في الإعلام. وهنا مفارَقة مِهنية لافتة: ففيروز، في تطوّر غنائها، وخلال بلْوَرة صوتها وتفتُّحه كانت تَرسم المفاجأة على وجهي عاصي ومنصور لشدّة إعجابهما بالقفزات الجدّية التي يحققها صوتها في بعض الأغاني ذات النوتات العالية والحسّاسة أو في الأغاني التي تتطلّب عمقاً صوتياً عاطفياً. أمّا في المقابلات فلم يتحقق الأمر هذا، وبقيَت فيروز حتى مقابلاتها في السبعينيات مُربَكة في التعبير عما تريد أو يريد عاصي. ومعروف أن هناك عدداً كبيراً من المقابلات الصحافية معها لم تكن تجري.. معها، بل كان عاصي يطلب الأسئلة من الصحافي ويجيب عنها هو أو منصور باسم فيروز. وكان هذا التصرف لا يزعج فيروز أبداً بل يريحها من هَمّ الحوار ومتاعبه فتنصرف إلى الغناء وحده. هكذا كانت في كل حياتها الأولى.
أقول حياتها الأولى وأعني العلاقة العائلية والزوجية مع عاصي، والعملية الإحترافية مع الأخَوين التي استمرّت حتى ١٩٧٨ وكانت آخِر المسرحيات بينهم «بترا»، فبَعدها حصل الخلاف الشخصي والفني، وذهبت فيروز وعاصي (ومنصور طبعاً) كلٌّ في طريق.
في هذه «الحياة الثانية» كان على فيروز أن تستعدّ فنياً لمرحلة مختلفة (تطرّقنا إليها) وإعلامياً كذلك، وما كان يُلقَى على عاصي ومنصور من هموم الإعلام و«مخاطره» أصبح مطلوباً من فيروز أن تواجهه هي، بما ملكت من الخبرة والتجربة الذاتية.
هنا، أي في هذه المرحلة، عاشت فيروز أصعب وأبشع المواقف مع بعض الصحافة اللبنانية الصفراء التي استغلّت خلافها النهائي مع عاصي ومنصور وانبَرت تهاجمها في كل ما تفعل، وحتى في ما لم تفعل. والأخبار الحميمة التي كانت فيروز بعيدة عنها في كل حياتها مع الصحافة، أصبحَت تتصدّر المجلات مع عناوين لا أخلاق أو معايير مهنية تحكمها، وما كان يُحكى عن أغلب الفنانات ويمرّ عليه القارئ عادياً بلا اهتمام، نظراً لتداوله المتمادي عنهُنّ، بات يُحكى عن فيروز ويُفاجئ الجمهور، وفيروز لم تتعوّد على أن تكون مادة استهلاك كغيرها، فكان لا بدّ من أن تقرر ماذا ستفعل؟ هل تواجه هذه الاتهامات ولو أنها ملفّقة ومُركَبة ولا يصدّقها الجمهور الذي اعتاد فيروز فوق كل الترّهات، أم تنقطع عن الإعلام وتتركه يستنفد ما عنده من «أخبار» لتدخل حياتها الفنية الجديدة بأُذُنين لا تسمعان الشواذَ المتفاقم عنها، وإنما تستعدّ للألحان التي كان يحضرها لها زياد الرحباني وفيلمون وهبي ورياض السنباطي؟
فكان قرار الإبتعاد الصارم عن الإعلام بلا هوادة ولا استثناء.
بلى.. في هذه الفترة، كانت الإذاعة اللبنانية في مجدها، وزياد الرحباني قدّم فيها برنامجاً انتقاديّاً لاذعاً، والجمهور يعتمدها كونها الإذاعة الوطنية الوحيدة، في وقت كانت بعض الإذاعات الحزبية تطلّ برأسها، فطلَب كبير مذيعي إذاعة لبنان محمد الكردي مقابلة من فيروز للإذاعة، وبعد أخذ وردّ وجدال في الفائدة أو الضرر منها، وافقت فيروز، لكن على «طريقة» عاصي، أي طلبَت من الكردي الأسئلة، فأعطاها إيّاها.. وكانت بالفعل أسئلة دقيقة ومهمة تتعلّق بصورة المستقبل أمام فيروز. ولأن الخوف والخجل والتردد وعدم القدرة على مواجهة الشائعات، كانت لا تزال تحكم فيروز، فقد طلبَت إلى الشاعر جوزف حرب، وكان قريباً منها ومن ابنها زياد الرحباني، أن يكتب الأجوبة، فكتب جوزف الأجوبة، وكانت إحدى أقوى المقابلات «مع» فيروز إذ حفلت بالكثير من النقاط التي كان الجمهور يريد معرفتها. وشخصياً أذكر أنني طلبتُ يومها من رئيس تحرير «الشبكة» جورج إبراهيم الخوري أن ننشر المقابلة الإذاعية في المجلة، وهكذا كان، ونالت المقابلة ونشرُها في المجلة استحسان الكثير من الفنانين والمعنيّين الذين اعتبروها وثيقة قوية.
أذكر، عام ١٩٧٨، وكانت الفرقة الرحبانية آتية من حفلة «الأولمبيا» دعانا منصور الرحباني لمشاهدة تسجيل ڤيديو للحفلة الفاتنة بكل المقاييس، غناءً ورقصاً وموسيقى ومشهديةً، فذهبنا وشاهدنا واستمتعنا. وفي نهاية الحفلة، على عادتها، أنشدت فيروز «زوروني» التي ختمت بها غنائها، ودخلَت إلى الكواليس، فحصل تصفيق شديد ومطالَبة برجوعها إلى المسرح، فرجعَت وغنّت مرة ثانية « زوروني» فعاد التصفيق زاخماً لاستبقائها أكثر، فنظرَت فيروز إلى عاصي، وهو يقود الأوركسترا، لمعرفة ماذا تفعل، فإذا به يحرّك رأسهُ لها بحركة «عسكرية» آمرة أنِ اخْرُجي.. فخرجَت فوراً تاركة التصفيق مدوّياً. وحين عُرض الڤيديو بعد ذلك في الإعلام كانت هذه اللقطة «العسكرية» الأخيرة محذوفة. فكان هذا أول إعلام/ إعلان من فيروز مباشرَةً بأنها غادرَت موقع تَلَقّي الأوامر إلى غير رجعة، وأضحى أمرُها بيدِها.
... وقطَعت فيروز التواصل المباشَر بينها وبين الصحافة، بالمعنى العام، باستثناء بعض الصحافيين الذين كانوا يحبّونها ومُعجبين بها فكانت تستقبلهم بدعوات محدّدة، ونادرة جداً، حين تدعو الحاجة الملحّة كأنْ يكون في أجندتها حفلة كبرى، أو رحلة فنية إلى بلد غربي أو عربي، وغالباً ما كانت تجمع هؤلاء أو غيرهم في لقاءات لا يتجاوز عدد حضورها أشخاصاً خمسة من أغلب المنشورات الصحفية المؤثرة. أذكر من تلك اللقاءات اثنين، لم أحضرهما شخصياً. مرّة عام ١٩٨٦ وكنت رئيس تحرير مجلة «سَحَر» فأرسلْتُ مندوباً... لم يصدّق أنه سيقابل فيروز، فحضَر وكتب تحقيقاً متميزاً. ومرّة عام ١٩٩٥ جاءت الدعوة إلى «دار الصياد» فأرسلنا مندوبة كتبت تقريرها. أمّا لماذا لم أحضر أنا فلأنني أعرف أن ما يجب أن تقوله فيروز لن تقوله أمام جماعة.. إلّا الكلام العام الذي لا يُغنيني شيئاً.
في هذه السنوات كانت إبنتا فيروز، الكبرى ليال، والصغرى ريما هما المعنيتان بالشؤون الإعلامية لفيروز، وهي شؤون ليست كثيرة. والمرّة الوحيدة التي خرجت فيها فيروز عن صمتها الطويل جداً كانت في مقابلة مع المذيع الفرنسي فريديريك ميتران، الذي جمَع مثقفين من العالَم ليقدّموا شهادات بها، وكانت عودة مظفّرة إلى الإعلام. ثمّ عودة إلى الاحتجاب المُحكَم.
توفيَت ليال إبنة فيروز الكبرى فتسلّمت الدفة، الإبنة الصغرى ريما، التي كانت درسَت الإخراج، وبدأت أسلوباً جديداً مع الإعلام.
إلتقيتُ ريما مرتين، أولى لأهديها نسختين واحدة لفيروز وثانية لها من كتابي «ما تيّسّر من عبد» الذي يتضمن بحثاً عن التمايز الخلّاق بين الأخوين عاصي ومنصور الرحباني اللذين ليس صحيحاً أنهما كانا واحداً طبقَ الأصل عن بعضهما بعضاً، واللقاء الثاني كان عندما تدخّلتُ لأنهي حبّياً الخلاف بين فيروز وريما من جهة، ومنصور الرحباني وأبناؤه من جهة أخرى في شأن إعادة تقديم مسرحيات رحبانية قديمة وكيفية احتساب حصص الملكية الفكرية ولم أوفّق في مسعايَ.. مع أن رأيي المتواضع هو الذي اعتُمد بعد سنتين من قِبَل القضاة الذين اطّلعوا على القضية ودرسوها، وهو أن تؤخَذ موافقة منصور، شريك المُلكية الفني والفكرية في الأعمال الرحبانية مع استرجاع أي مسرحية للأخَوين على المسرح، وقد سألتُ القضاة شخصياً عن الأمر. والباقي بيني وبين ريما هو مناوشات عبر التواصل الإجتماعي دفعَتني مرّة، بغضب بعلبكي، إلى «إصابة» فيروز بكلامي، معتقداً أن ما تكتبه ريما على التواصل لا بدّ من أن يكون مَرّ على فيروز، ووافَقَت عليه، وهذا اعتقادٌ خاطئ أو على الأقل لست متثبّتاً منه، فمحوتُ ما كتبتُ، وقرّرتُ أن أصرف النظر عن كل ما تحسّه ريما ضدّي (بدون سبب أعرفه، إلّا ظنونها بأنني نصيرٌ لِعمّها منصور وأبنائه في خلافهم مع فيروز، وهي لا تدري أنني نصير والدها صديقي الكبير عاصي، قبل صديقي الكبير منصور، ولا أقبل بفَصلهما عن بعضهما لا بالمال ولا بالروح)... ورحتُ أعمل على تجاوز الرد والرد المضاد، راجعاً إلى هيبة فيروز التي أحِبّ، وإلى ما فعلَه صوتها خلال ستين عاماً في وجداني وآرائي في الفنون والثقافة. وكفى الله المؤمنين شَرّ القتال. لكنْ بعد قراءة ريما على الـ«فايسبوك» بعض نصوص كتابي الذي كان سيصدر قريباً «أسرار الكُنوز بين الرحباني وفيروز» راقَ الجوّ لها وأدركَت معناي البعيدِ في حبّ ثلاثية عاصي ومنصور وفيروز...
صوّرَت ريما لوالدتها فيروز مقابلات متفرّقة، أقل من قليلة، لكن الجمهور تابَعها بشغف، وفيها بعض المعلومات والأفكار خصوصاً عن عاصي الرحباني. وريما من وقت إلى آخّر، لكنْ بالسنوات، تعرضُ إما فيلماً قصيراً أو صوَراً جديدة لفيروز.. هذا أكثر ما هو متداوَل. حتى أن اللقاء الذي طلَبه الرئيس الفرنسي ماكرون مع فيروز منذ سنتين لم تُنشر منه إلّا صورتان تَظهر فيهما فيروز تتبادل الأنخاب مع ماكرون وقوفاً. ومع إن الجمهور الكبير الذي تابَع زيارة الرئيس الفرنسي إلى دارة فيروز في الرابية، عبر وسائل الإعلام، كان متلهفاً لرؤيتها فإنه لم يحظَ بِطَلّةٍ من نجمته «البعيدة» ولو من الشُّرفة. وما إن غادر الضيف الدارة وكان بَعدُ لم يصل إلى سيارته أمامها، حتى انطفأ ضوء الصالون الذي تم الإستقبال فيه، فأطفأت وسائل الإعلام المتجمهرة كاميراتها وعادت إلى قواعدها... غير سالمة من خيبة! وبعد ذلك هناك صورة نُشرَت لفيروز كانت في إحدى الكنائس مع ابنها زياد وابنها الثاني المُقعَد «هَلي» الذي تُنشَر صورته للمرة الأولى منذ إعاقته وهو طفل. وآخر صورة كانت لريما تُخاصر زياد في نزهة في العاصمة. لكنني صادقاً أقول إن وضع ريما اسمها في منتصف الصّوَر المنشورة بالبنط العريض، لا ضرورة له، لأنه تحصيل حاصلٍ ما دامت مقيمة مع أمها، وليست الصوَر في هذه الحالة إنجازاً!
فهل اعتادت فيروز هذا النوع من التعامل مع الإعلام؟ وهل هناك فوقيّة ما، في ذلك؟.. وإلى سؤال آخر هو ألا يحق لجمهور فيروز وهو الأكبر من كبير أن يشاهد نجمته في مقابلة حوارية طبيعية على الشاشة كما يفعل غيرها من نجوم سابقين ولاحقين؟
والردّ ببساطة أن فيروز التي لم تصوّر مقابلة منذ ربع قرن إلّا «مدروسة» و«مُمَنتَجَة» بميزان الذهب، لا تجد حاجة، بعدما أصبحت في السادسة والثمانين عُمراً، لأي ظهور تلفزيوني يمكن أن يلغي صُوَرَها المعروفة أيام العَمَلِ والحفلات، ويضع مكانها صورة المرأة المتقدّمة في السنّ، رغم وجود صُوَر «ريمياويّة» متفرّقة من هذه المرحلة. وإذا كان الإعلام «مكروهاً» عندها في زمن ضرورات الإعلان في الإعلام، فكيف به في زمن السكينة وأوقات الوحدة؟.. ثم إن «كراهية» الإعلام صارت مضاعفة بانضمام ريما إليها؟ أمّا إذا كان في ذلك فوقية أم لا، فلم يُعرَف عن فيروز إنها فوقية، لكن لريما مقاييسها في هذه المرحلة العمرية التي يصبح فيها الإبن المتولّي شؤون والديه العجوزين (أو أحدهما) مباشرةً، هو المتصرّف المتكلم باسمهما. فهناك نوع من «الإقفال» الطوعي على فيروز يكاد يكون غير مفهوم. إذ هل من طبيعة الأمور أن تحتفل صحيفة لبنانية كبرى، مثلاً، بعيد ميلاد فيروز، وتستكتب كباراً عنها، وتشارك إذاعات ومحطات تلفزة في المناسبة، ولا تصدُر من فيروز كلمة شكر أو عرفان؟ وهل من طبائع العادة أن تُصدِر كاتبة مجلّداً ضخماً عن تجربة فيروز المسرحية والغنائية، وفيه صُوَرها في مراحل حياتها كلها، وحين تطلُب موعداً لتسليم المجلّد إلى فيروز، لا يُرَد عليها بنعَم أو لا حتى تيأس؟
ويحاول بعضهم أن يقيم مقارَنة بين فيروز وصباح من الجيل الرائد في الغناء اللبناني، ورؤية كلّ منهما للعلاقة مع الإعلام. ويضيفون أن صباح كانت منفتحة على الجميع ولا ترفض طلباً لمقابلة تلفزيونية أو إذاعية أو صحفية، وظلّت أمام الجمهور حتى أواخر أيامها تتكلّم وتحاور وتضحك وتردّ على الأسئلة كائنة ما كانت، بلا خوف من موضوع أو تردد من شيء قد ينكشف. فلماذا فيروز لم تكن هكذا من الأساس، واتخذت طريقاً آخَر يشبه حالة التوحّد المتعمّدة؟
والإجابةُ سهلة جداً. أوّلاً هناك اختلاف بين شخصية صباح التي تعيش من خلال لقائها بالناس أينما كانت، وشخصية فيروز التي لا تجد ضرورة لكل ذلك. ثانياً لأن الناس الذين يحفظون ودّاً واحتراماً للفنان الموجود أمامهم في كل وقت هم قلّة، أمّا الكثرة الكاثرة فتعتبره مباحاً للجميع يعرفون أسرارَه وأخبارَه وليلَهُ ونهارَهُ، ومُتاحاً للتناول من الألسنة التي لا توفّر شخصاً ولو ذَا قيمة فنية استثنائية. ثالثاً إن صباح عانت معاناة صعبة وعجيبة مع وسائل الإعلام والإعلاميين الذين كانوا يتقربون إليها بهدف المال، انطلاقاً من كرمها المعروف، وكانت تدرك أن معظمهم منتفِع ومنافق، لكنها تعتقد أنها بأسلوبها السلس تكسب ودّهم فيكفّون شرّهم عنها. ورغم حرص صباح على تقبّل حتى الغرباء في حياتها، فقد أصيبت بنكسات لا تحصى من الأقربين والأبعدين. هذا ما رفضته فيروز من الأساس فاكتفت بعلاقات محدودة مع الآخرين، ثم شذّبت حتى الأصدقاء فلم يصمد إلّا من أرادت لهم الصمود. والإعلام كان ولا يزال أحد المهالك التي تتأبّاها عن اقتناع وإرادة وراحة بال. ولعلّ زميلة صباح وفيروز، الفنانة سميرة توفيق اعتمدت طريقة فيروز في الإبتعاد القاطع فغابت سنوات طويلة عن الإعلام كله، وهي تقيم في الإمارات العربية المتحدة - أبو ظبي بضيافة أميرية عالية، ولا يُعرَف عنها شيء إلّا ما تنشره إبنة أختها المقيمة معها، من صُوَر من وقت إلى آخر على وسائل التواصل.
ولعلّ الوقت الأقسى على فيروز، إعلامياً، كان في مرحلة احتدام ٨ و١٤ آذار، حين انقسَم اللبنانيون أفقياً وعمودياً ولم يبقَ منهم مواطن في آخر بقعة أرض من الوطن لم يتجه في رأيه إلى ٨ أو إلى ١٤ آذار، جرَت محاولات حثيثة، وغامضة، لمعرفة رأي فيروز السياسي، دون جدوى، حتى قال ابنها زياد في مقابلة تلفزيونية إن فيروز مُعجبة بالسيّد حسن نصرالله، فهبّت الاعتراضات من فجّ وعميق عليها، ويقال إنها غضبت غضباً شديداً من زياد، وأنّبته، وقالت له بالحرف «ممنوع تحكي عن آرائي السياسية شو ما كانت»، وانطوى الموضوع نهائياً. وهذا زادَ في اختفاء فيروز أكثر فأكثر..
أغلب الظن أن فيروز متعَبة ليس من الإعلام، بل من الحياة كلّها. فهي المرأة التي صُدمَت صدمة حياتها بابنها «هلي» حين أصبح وهو طفل مقعَداً لا يتكلّم ولا يسمع ولا يتحرك إلّا على كرسيّ. وصُدِمت الصدمة الكبرى الثانية عندما أصيب زوجها عاصي بجلطة دماغية كبحت حركة جسده وخرّبتها. وصُدمَت ثالثةً عند وفاة ابنتها الكبرى ليال وهي شابة. وصُدمَت رابعةً من ظروف ابنها زياد «الخاصة» التي تشَيّبُ الرضيع. أربع صدمات، كل واحدة كافية لتهدّ جبلاً، فماذا يفعل الإنسان بأربع منها؟
ولولا أنها جبارة قولاً وعمَلاً لما استطاعت أن تقف يوماً لتغني وفي رأسها كل ثقل تلك «الجبال»!
فإذا سئلَت، إعلامياً وإنسانيّاً، ينبغي أن تُسأل عن هذه الصدمات التراجيدية.. وإذا أجابت فبماذا يمكن أن تُجيب؟
لكن هل الإعلام اليوم من المصداقية والاحترام والمهنية بحيث يشعُر النجم الذي يبتعد عنه، أنه مخطئ في ابتعاده؟
أصلاً، إذا كانت المؤسسات العالمية في تقدير الفنون قد صنّفت فيروز في مرتبة خاصة لا تقارَن بالآخرين أو بالنجوم، فمن المؤكد أن الكلام معها عن الإعلام اليوم، يجب أن يتخذ منحىً مختلفاً. ورأيها فيه لهُ مكانته وأسبابُه ونتائجه، وهي تعتبر نفسها من الأساس خارج أي تحديد، ذلك أن أي تحديد سوف يكون تحجيماً حتى ولو حمَل أعظم الأوصاف.
فيروز لا تندم، ولا يمكن أن تندم بغيابها عن الإعلام. يكفي أن تلقي بجلالة قَدْرِها نظرة، خلال نصف ساعة، على كل المحطات، خصوصاً اللبنانية والعربية، لتكتشف أن هناك طاحونةَ قيَم وطاحونةَ آداب وطاحونةَ تربية وطاحونةَ فن وطاحونةَ ثقافة وطاحونةَ جمهور في أغلبه غبي تافه يرضى بفُتات تحاليل سياسية مدفوعة الأجر، وفُتاتِ كلام وألحان وأداء، وفُتاتِ نظُم إعلامية مجذوبة، وطاحونةَ إنسان تَشيّأَ وتسلّعَ وكاد يصبح ممسحة لولا بعض من يتنبّه ويقتله القهر على المستوى الذي ننام ونصحو ونسهر عليه، وطاحونةَ مال يُفرشُ على الوحل ليعبر عليه من نصّبوا أنفسَهم ونصّبناهم عباقرة مُلهَمين..
ووسط هذه الطواحين من الذي يستطيع أن يسْلَم؟ من القادر على تجاوز ما تراه العين، وما تسمعه الآذان، وما تُحسّه الحواس الخمس؟ فأغلبنا أصبح التلفزيون عنده كخزانة البصّارات لما يتكرر فيه من جماعة نواقصِ العقول نواقصِ القلوب نواقصِ الأرواح، من التّوافِه والأمراض والسموم في السياسة والاقتصاد والفكر والشعر والفنون والحياة والمجتمع الساقط في ألف جُبٍّ عميق من الجحيم! وبعد ذلك تُسألُ فيروز لماذا تكره الإعلام؟ إسألوا من بقي في رؤوسهم قليل من الفكر والمنطق والذكاء وستأخذون جواباً أشدّ من صمت فيروز وأدهى.
تبقى مسألة استراتيجية في اختفاء فيروز عن الإعلام، هو أن هذا الإختفاء، من قديم الأيام إلى اليوم، ترك الأبواب مشرّعة على صناعة ملامح أسطورة في صورة فيروز. وتصاعدَت الصورة فنياً وغنائياً وشعبياً بالأهمية والعظَمة، فيكون غيابها المُحكَم تأكيداً للأسطورة ومانحاً شرعيّتها.