بيروت - لبنان

اخر الأخبار

27 أيار 2023 12:00ص محمول العتمة

حجم الخط
عتمة عظيمة تضرب البلاد هذه الأيام. كثُر الخارجون مثل ديوجين، يحملون في أياديهم المصابيح، عند شمس الظهيرة، يفتشون عن الحقيقة، فلا يجدونها، لأن عتمة ثقيلة تطبق على البلاد، مثل صخرة.. يسرع إليها السحرة والعرافون، فتصرخ البلاد: انتهت لعبتكم القذرة... انتهت لعبتكم القذرة... فتشوا عن لعبة أخرى، تتلهون بها، ريثما ينقشع الظلام، ريثما ترتاح البلاد من محمول الظلام.
عتمة ثقيلة عظيمة، حطّت على صدر البلاد، مثل صخرة، حجبت عنها الضوء، منعت عنها الهواء.. ثقيل هو الحذاء فوق رقبة البلاد، لهذا تراها تصرخ مثل جورج فلويد: إني أختنق.. إني أختنق.
السماء السوداء التي أطبقت على البلاد في عز الظهيرة، هي بثقل تاريخ عظيم من التهاون، هي بثقل وحش عظيم، هي بثقل قارة، خرجت فجأة من الثقب الأسود، لطمت وجه البلاد، أدخلتها فجأة موسم الحداد، زجت بها، في أتون، له فوهة بعرض الأرض، ولا يبيّن له قرار.
ما هذه المأساة التي حشرت فيها البلاد، منذ أول القرن؟! ما الذي يراد منا؟ ما الضريبة؟ ما الأثمان؟ ما الأزمنة؟ ما الأزمان؟ هل سنبقى طويلا نردد: صبرا على مجامر اللئام؟!
بلاد تساق إلى المسالخ، يقشطون لحمها الحيّ، وهي مفتحة العينين. يسلخون منها الجلد، يقطعون منها اليدين والقدمين. يقولون لها سيري على الجمر، ولو من أول الدرب إلى آخر الدرب، بلا رحمة، بلا شفقة، بلا هوادة، بلا عروس. هوت فجأة في القبر، قبر عظيم أُعدّ لها، لكنها فاجأتهم بطول قامتها، فاجأتهم بعرض منكبيها، فاجأتهم بقوة أنفاسها.. فما استطاعوا دفنها.. ما استطاعوا وأدها.. ما استطاعوا القضاء عليها.
بلاد، هي كل محمول العتمة، الذي يضرب وجه الأرض، هي كل هذا السواد، هي كل هذي الرياح، هي كل هذا العصف والقصف، هي كل هذا الموت الذي ينشر الجثث، وهي تنتفض، تحت الخوان، حوله القادة والزعماء، القياصرة والأكاسرة، والأباطرة والجلاوزة.. حوله كل هؤلاء الجياع إلى العظمة، إلى الجبروت، إلى عصا الملك، إلى أخذ البلاد بالعتمة، بالشعوذة.
محمول عظيم من العتمة، يغطي ليل جريمة العصر.. كيف تترك كل هذي البلاد لقدرها بين الأنياب الزرقاء التي تحدق بها؟ كيف تترك لقدرها، تطفو فوق بحار الموت؟ ما هذه العتمة الشديدة التي تضرب البلاد؟ ما سرّها؟ ما مسارها؟ ما مصير البلاد، بعد كل هذه العتمة القاتلة التي تضرب وجه البلاد؟
عتمة شديدة مهولة، أناخت على البلاد، لم نعد نرى منها إلا السكاكين، إلا الخناجر، إلا الفؤوس.. أين الشمس؟ أين الهواء؟ أين جدائل العرائش؟ أين الكروم؟ أين جدائل العرائس؟ رحل النهار فجأة عن البلاد، وصارت إلى اللحد، إلى القبر، بطول ناووس عظيم، بطول قتيلة عروس.
العرافون يؤمّون الموسم. الكهان، بأيديهم دفاترهم وأوراقهم وبخور شعوذاتهم. رسل جبابرة، بلا شفقة ولا رحمة.. تجار هيكل، حول البلاد، يزيّنون سرير موتها، تحت ليل العتمة الثقيل، علّها لا تستيقظ على جريمتهم، ولو في الهزيع الأخير.
محمول العتمة هذا العام، كما لم يكن في كل عام. محمول العتمة ثقيل جدا على البلاد، نصرخ تحته: ثقيل.. ثقيل.. ثقيل.

أستاذ في الجامعة اللبنانية