بيروت - لبنان

اخر الأخبار

10 حزيران 2023 12:00ص مراجعة لكتاب الدكتور حاتم علامي: لبنان الضرورة والامتياز

حجم الخط
يقدّم كتاب البروفيسور حاتم علامي، الصادر عام 2023 لبنان وطن الامتياز، إيماناً منه بأنّ الفكر السياسي السليم والفلسفة السياسية، يشكّلان صمّام أمان لاحتواء أجواء الاحتقان التي تنجم عن اضطرابات الحياة السياسية، والانقلابات والتقلّبات التي تتعرّض لها المجتمعات، من أعاصير في السياسة أو هزّات اقتصادية، أو صدامات ثقافية. وهو إذ يحاول عرض صورة موضوعية، عن كيفية معالجة الخلل في النظام والخروج من الطائفية السياسية بصيغتها وقوالبها الجامدة، وكيفية الوصول إلى مكونات النظام الاجتماعي انطلاقاً من مفهوم عمل السلطة في العناية برعاية الجماعات والأفراد ضمن المتّحد السياسي، والسهر على توفير مستلزماتهم بالعدالة والمساواة، وبروح العقد الاجتماعي الذي يرعى العلاقة بين السلطة والجماعات والأفراد.
ومن بين إشكاليات الصيغة اللبنانية والنظام والهوية الواردة في الكتاب، ما عرضه المؤلّف في إشكالية الكيان لجهة أن لبنان يدفع ضريبة ما ابتلي به في السياسة والاقتصاد والدين، نتيجة النظريات الفلسفية الفئوية، التي تبقى في دفاتر النجدة لهذا الزعيم أو ذاك في منظومة تحريضية، لتحوّل لبنان إلى صورة من دولة مهمّشة مهشّمة، ومجتمع طائفي بائس، وزعيم محتضن بإغلاق سياسي لاهوتي علوّ أرض السياسة، وملعون في أمر الدين وخلاص الإنسان. ويعتبر الكاتب أنّ الانتماء إلى وطن متميّز الحضور والعطاء كلبنان مصدر فخر، ويستوجب من كل مواطن أن يبتعد عن أدلجة آرائه لإذكاء الانقسامات واستجرار الأطماع الخارجية إلى مائدتنا الجغرافية الدسمة، ويستوجب منا أيضاً أن نتفكر بمستقبلنا المشترك ونعترف بمسؤوليتنا لصياغة استراتيجية تتدارك سقوط البلد وانهياره، لا سيما أنّ الجميع مهتمّ ببقاء البلد الامتياز، وبالتالي عليه أن يعمل ليستحق امتياز هذا الوطن الرائع.
كما سعى الكاتب لإظهار الأطماع الخارجية بلبنان، لا سيما في فترة التاريخ الاستعماري الفرنسي له ولسوريا، وكيف تمّ تدعيم الهبوط الكبير لقيمة الفرنك الفرنسي من خلال نهب خيراتهما، ففي العام 1919 كانت كمية الذهب في هاتين الدولتين مقدّرة بحوالي 11 مليون ليرة تركية ذهبية، وبدأت بالتناقص التدريجي حتى انتقلت معظم كمية الذهب إلى فرنسا عبر مؤسساتها المصرفية المتمركزة في بيروت. ولذلك كان موقف اللبنانيين من الانتداب الفرنسي محكوماً بتنامي الشعور الوطني، والتّوق إلى التحرير، ففي الخامس من كانون الثاني عام 1925 اجتمع عدداً كبيراً من المسلمين في جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية وطلبوا الانفصال عن لبنان والالتحاق بالاتحاد السوري على قاعدة اللامركزية، حيث يرى الكاتب بأنّ هذا الموقف من المسلمين كان يعبّر عن تخوّفهم من مشروع لبنان الكبير كما كانت تطرحه القيادات المسيحية آنذاك كوطن مسيحي، بالإضافة إلى الحرمان الذي طال المناطق الإسلامية وحرمان المسلمين من الوظائف. لكن كان لتحالف الكتلة الدستورية في لبنان مع الكتلة الوطنية في سوريا الأثر الحاسم في توجيه معركة الاستقلال لوجهتها الصحيحة، ونجح هذا التحالف في تجاوز الحاجز الطائفي، إذ استطاع ضم البطريركية المارونية إلى صفوفه. ولذلك استشهد المؤلّف بالمفكر القومي الدكتور منح الصلح لجهة قوله بأنّ الميثاق لم يكن ممكناً لولا أن اعترف زعماء الكتلة الوطنية ورجال الحكومة السورية يومئذِ بحدود لبنان وبكيان لبنان، وقد ذهب خير الدين الأحدب إلى حدّ قبوله تشكيل حكومة تحت رئاسة اميل إدّه عام 1936، الأمر الذي أرسى عرفاً دستورياً استمر حتى اليوم، وهو يقوم على ترؤس السُنّة لحكومة لبنان.
ومن الأمور اللافتة في الكتاب اهتمامه بما ساهم في خروج فرنسا من لبنان، وبالأخص أوضاعها الدولية التي كانت تسير من سيئ إلى أسوأ، لا سيما بعد احتلال ألمانيا لفرنسا وظهور حكومة فيشي، ولذلك ترى بأن الجنرال جورج كاترو بوصفه المندوب العام لحكومة فرنسا الحرّة في سوريا ولبنان، أعلن استقلال سوريا رسمياً في 27 أيلول 1941 ومن ثم استقلال لبنان في 26 تشرين الثاني من العام نفسه، بعد أن كانت طائرات الحلفاء قد ألقت صبيحة 8 حزيران 1941 منشوراً مطبوعاً من كاترو يعلن فيه هذين الاستقلالين في محاولة منه لكسب تأييد الشعبين اللبناني والسوري في الحرب، إلا أن فرنسا تهرّبت لاحقاً من مستلزمات الاعتراف باستقلال لبنان وسوريا وتكريسه فعلياً، فيما ازداد مؤيدو بريطانيا، في ضوء قرارها بالاعتراف به.
كما يظهر الكاتب كيف أن الانقسامات الحادّة تعمّقت على مرّ الزمان نتيجة الطائفية السياسية، وانطلقت شرارة الحرب الأهلية، وانقسم اللبنانيون إلى جبهتين، جبهة الحركة الوطنية التي قادها الزعيم كمال جنبلاط ودعت إلى إصلاح النظام وإلغاء الطائفية السياسية وتحقيق إصلاحات سياسية وإدارية في النظام الديمقراطي والنظام الانتخابي؛ والجبهة اللبنانية التي عارضت هذه الطروحات ودعت إلى اعتماد النظام الفيدرالي، أي لإقامة كانتونات للطوائف. ومن ثم يستشهد الكاتب بقول الوزير وليد جنبلاط لجهة أن أكبر غلطة ارتكبها الموارنة هي عدم تقديرهم لمطالب الحركة الوطنية وضرورة المشاركة وتنمية المناطق. ومن ثم يشيد الدكتور علامي بدور المملكة العربية السعودية بإنهاء الحرب اللبنانية وإنقاذ لبنان الغارق بدوامة التقاتل الداخلي، من خلال رعايتها لاتفاق الطائف الذي دشّن مرحلة جديدة في لبنان وأرسى أرضية لزيادة آمال اللبنانيين بإحداث تعديلات جذرية تؤدي إلى عدم تكرار تجربة الحرب، ولكن الدكتور علامي يأسف بأنه بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود من الزمن فإن لبنان لم ينجز مضامين الاتفاق، وظلّت محاور الإصلاح متوقفة عند العقبات والاعتراضات التي ارتبطت بتوازنات الواقع اللبناني، ومن ثم توقّف عند مضامين هذا الاتفاق وأبرز أهمية إصلاحاته، لا سيما تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة لتحقيق الإنماء المتوازن، وإلغاء الطائفية السياسية واعتماد الثنائية المجلسية وانتخاب المجلس النيابي على أساس وطني لا طائفي واستحداث مجلس شيوخ تتمثل فيه كافة العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته بالقضايا المصيرية. ومن ثم يخلص الكاتب إلى أنّ أكبر المصائب التي تتهدّد التغيير اليوم، هو الحديث عن صيغ المثالثة والفيدرالية، وتركيز تقاسم الحصص بأدوات جديدة، الأمر الذي يهدّد بتوعدات جديدة وزلازل مدمّرة.
وبالتالي، فإنّ الكاتب يقدّم حلّاً لكيفية إنهاء مخاوف اللبنانيين من الأجواء المشؤومة الناجمة عن تفاقم المعاناة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، والأجواء الناجمة عن غياب الاستقرار بعد ازدياد التجاذبات بشأن الصيغة والنظام السياسي إثر الحديث عن مؤتمر تأسيسي، الأمر الذي يعتبره المؤلّف مؤشراً لإخفاق مشروع الدولة. حتى ليُحار القارئ عمّا إذا كان الكتاب يهدف فقط إلى إنهاء واقع لبنان المتردي وازدياد الهوّة بين المواطن والدولة وتهديد السياسة للقمة عيشه، أم أنّه يسعى أيضاً لتشكيل خريطة طريق لكيفية بناء جسور بين لبنان الامتياز وتاريخه المشترك وبين مستقبل دولته التي تزدهر باعتماد مقاربات واقعية ناجحة للفلسفة السياسية تنقله إلى مصاف الحضور الدولي، وتستقرّ بعد إنهاء مأزق العلاقة بين نموذج الدولة الحديثة ومفهوم الهوية في عصر ما بعد العولمة وما بعد الحداثة؛ وفي كلتا الحالتين هو بحث معمّق عالي المستوى والمصادر في السياسة والفلسفة والتاريخ.
وختاماً، نخلص إلى أنّ قوّة كتاب لبنان الضرورة والامتياز، أنه ينطوي على تقاليد البحث العلمي المعمّق، وأنه كتاب نقدي عن أزمة الكيان اللبناني، يمكننا من خلاله أن نتعلّم سبل إنجاح النموذج اللبناني ونستشرف خياراته المصيرية والآليات الواجب اعتمادها لاختراق الضبابية التي تكتنف طريقة تفكيك التناقضات فيه؛ وذلك من خلال تفكيك العلاقة بين الفلسفة السياسية في طابعها اللبناني، وعلاقتها بالفلسفات المؤثرة على الصعيد العالمي والعروبي أو القومي.