بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 آذار 2024 12:00ص من لبنان الكبير إلى الجمهورية مسار شاق أنتج جمهورية ودولة في محيط إقليمي مضطرب (2/2)

حجم الخط
في هذه الحلقة الثانية والأخيرة يتابع د. عبد الرؤوف سنو قراءته لكتاب د. أنطوان الحكيّم مورداً في هذه الحلقة استنتاجه لما ورد في الكتاب وتعليقه عليه:
استنتاج
لم يقصد الحكيّم من وضع الثلاثية أن يحمل أحد مسؤولية الماضي، وإنما أن يضع الحقائق أمام المؤرخين والمتخصصين والمهتمين والشعب اللبناني، لأخذ العِبَر والاستفادة منها. فماذا نتعلم من ثلاثية الحكيّم؟
1- من رفض الرئيس شارل دباس التخلّي عن طرابلس لسورية، وقوله لها إن حدود لبنان مقدّسة لا تمسّ، ومنصوص عنها في الدستور. وللأسف لا نجد اليوم دباسا واحدا في المؤسسات الدستورية الثلاث يتجرأ على القول للقوى التي تحتل أراضيه أو تعتدي عليها: إنه لن يتخلّى عن أي شبر من أرض الوطن، ويصرخ في وجه الغرباء والوكلاء بالقول: أخرجوا من بلدي ميليشيات وفكر وثقافة.
2- من دفاع فرنسا عن مصالح لبنان في وجه أطماع الصهيونية في جنوبه، وبالتالي ترسيم الحدود بينه وبين وفلسطين بين العامين 1921 و1923. وقد لا نجد اليوم من يتجرأ على الدفاع عن حدود لبنان ومياهه ونفطه وغازه باستثناء البطل عصام خليفة وقلّة من الوطنيين، بينما باع مسؤولون، وسياسيون تجار من كل الطوائف والأحزاب ثرواته على مذبح مصالحهم وأنانياتهم وارتباطاتهم بالخارج.
3- نتعلم أن الوطن هو بيت وليس فندقا للإقامة الموقتة، وأن نفيين لا يؤسسان لبناء وطن: إصرار موارنة على بناء كيان ودولة مفاتيح السلطة فيهما في أيديهم، في مقابل رفض إسلامي لوطن شعروا أنه لا ينتمون إليه. والحقيقة أن الموارنة لم يعملوا على تطوير صيغة التعايش بعد الاستقلال باعتباره مقدّسة، وتمسّكوا بما ناضلوا من أجله وأنجزوه، فيما كانت عين للمسلمين على فائض الغنام وعلى المناصب العليا لانتزاعها من المسيحيين، وعين أخرى على مشاريع الوحدة العربية والانتصار للقضايا العربية. لهذا، بدأ لبنان في التفكك منذ الخمسينيات، مرورا بحرب لبنان، في ظل كثرة السياسيين، وغياب رجال الدولة الذين يمكنهم أن يعيدوا تركيب المفكك. لقد وقع اللبنانيون بإرادتهم في أحضان رجال السياسة، وارتدوا إلى طوائفهم ومذاهبهم وزعمائهم وأحزابهم الطائفية.
4- نتعلم من الحكيّم أن التدخلات الخارجية في الشأن اللبناني وتطلّع الطوائف إلى الخارج، أضرّت بلبنان منذ تأسيسه: مشاريع الوحدة العربية، ومشاريع الأحلاف في الشرق الأوسط، والصراع العربي - الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية، ومطامع إسرائيل وسورية فيه، وانقسام اللبنانيين بينهما، وتحوّل لبنان إلى منصة لمشاريع إيران في المنطقة، وأخيرا وليس آخرا طوفان الأقصى. كان وضع لبنان الجيوسياسي يحتّم تحييد نفسه عن الخارج منذ ما قبل حرب لبنان، فسيادته هي الأولوية وأسمى من أي قضية. إن ما يحصل في الجنوب اليوم، هو استعادة لمآسي الأمس، ومناقض لإرادة أكثرية اللبنانيين هناك وهنا، ولدعوة البطريرك الراعي لتحييد لبنان، ويزيد المفكك تفكيكا. 
5- أشار الحكيّم إلى الانقسام الطائفي على أساس الهوية. صحيح أن المسلمين تدرج انخراطهم في لبنان الكبير، وخلطوا بين العروبة والإسلام، ووافقت برجوازيتهم السنيّة في الميثاق الوطني على تقاسم الغنائم مع المسيحيين الموارنة على أساس طائفي وهوية ملتبسة، إلّا أن لبنان سار حتى الطائف بهويتين فزّاعتين، لبنانية قومية وعربية وحدوية أضعفتا اللحمة الوطنية: خشية المسلمين على عروبتهم من هوية لبنانية بطابع مسيحي، وخوف المسيحيين على لبنانهم من عروبة مؤسلمة تقضي على امتيازاتهم وأدوارهم. واليوم، أصبحنا نعيش للأسف تحت مظلة هويتين: لبنانية تضم مجموعة عريضة من كل الطوائف، وهوية فارسية تفرض عنوة.
 6- أثبت الحكيّم أن الدستور رسّخ ديمقراطية لبنان التي لم تكن على شاكلة الديمقراطيات الغربية، إلّا أن مظاهرها كانت متقدمة على محيطه المكبّل بأنظمة عسكرية أو شمولية: انتخاباتٌ دورية وحرياتٌ عامة وإعلامية ودستورية التعبير، والنظام المصرفي الليبرالي السليم. ولا بد أن الحكيّم كان يفكر عند حديثه عن الديمقراطية والدستور بما بقي منهما اليوم، حيث يُخرق الدستور وتتأجل الاستحقاقات أو تعطّل، وصولا إلى حرمان طائفة كريمة أساسية في أن تكون ممثلة في أعلى مؤسسات الدولة الدستورية. نعم أيها الحضور الكريم. أصبح رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة يتحاصصون المؤسسات والإدارة والمنافع، والأخطر من ذلك استجداء كرسي الرئاسة الأولى، وكل الرئاسات والمراكز والمناصب من حزب مسلّح. فوصل دستورنا المخترق وديمقراطيتنا إلى العناية الفائقة، فيما قضاؤنا عاجز عن معاقبة تجار الأوطان والسارقين والفاسدين والمفسدين، وجيشنا عن فرض سيادة الدولة على أراضيها. فضلا عن ذلك، عدم إرجاع ودائع اللبنانيين، أو إحقاق العدالة لشهداء مرفأ بيروت، ومحاسبة من باع سيادة لبنان وأرضه ونفطه وغازه بشحطة «خط» الـ 29 الذي دافع عنه عصام خليفة.
 7- لقد أشار الحكيّم إلى مشاريع الفدرلة لمسلمين مطلع لبنان الكبير، ونسمع اليوم النغمة ذاتها من مسيحيين للانسلاخ عن لبنان الكبير. هذه الخيارات التي شكلت حلولا ناجعة لبلدان كثيرة لا تناسب للأسف لبنان الذي يفتقد شعبه ثقافة العيش الوحدوي وثقافة العيش الفدرالي، وهي تحتاج إلى تأن وتفكير. كذلك، فإن بقاء الحال على حاله، سيجعل من لبنان مسنا وقاحلا، ومن أولادنا سلعا للتصدير، ومستقبلنا بائسا. فهل يكون الحل بالإصلاح وبتجميل النظام الطائفي، أم بالتغيير من دون الالتفات إلى البنية التحتية المجتمعية القائمة بالأمس واليوم على الطائفة والمذهب؟ ومن الذي سيقوم بذلك في زمن القحط السياسي والحزبي والوطني والأخلاقي وتفكك الدولة والمجتمع؟