بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 شباط 2024 12:00ص نازك الملائكة وثورتها الفكريّة

حجم الخط
د. نادية هناوي*

العمليّة الشعريّة هي فاعليّة غير سائبة، لأنّها تعمل وفق قوانين معروفة يتناغم عبرها الشكل مع المضمون، وعادةً ما يُمارِس الشاعر تلكم العمليّة بشكلٍ تلقائيّ بحسب ما يتمتّع به من موهبة وإلهام، وما يكتسبه من خبراتٍ كإحساسٍ وحدسٍ ذاتيَّيْن، بهما تتماسك تجربته الشعريّة وتتحدَّد من ثمّ مديات تأثيرها في المُتلقّين. أمّا الفقه بموجبات العمليّة الشعريّة وفروضها الإبداعيّة وطرائق التعبير عنها، فذلك أمر لا يتوفَّر إلّا لمَن كان مفكّراً في الشعر، وفي ما ينبغي أن يكون عليه، شكلاً ومضموناً، مؤوِّلاً دواخل الذّات بالنّظر والتأمُّل، وهاضِماً نظريّات الشعر، عارفاً بتاريخه والمراحل التي مرَّت به، كتحوّلاتٍ وتطوّراتٍ، عبر عصوره المُختلفة.
وإذا كانت غايةُ ناقد الشعر إنارة القرّاء بهدف فهْم القصيدة وتذوُّق ما فيها من جمالٍ، عبر مناهج تتفاوت في أساساتها، فإنّ غاية منظِّر الشعر هي فلسفةُ هذا الجمال بالارتكان إلى ما لديه من خبراتٍ فنيّة ومرجعيّاتٍ ثقافيّة مُختبِراً الشعر في ذاته، بلا نهائيّة في النهج والتجريب، ولا نمطيّة في التفسير والتأويل، بحثاً عن الجديد والحقيقي. ومن هنا لا يتأتّى التنظير إلّا لمَن كان متفقِّها في الوجود، وخبيراً بعروض الشعر، وصاحب موهبة أصيلة صَقَلَتْها الدراسةُ العلميّة والحسّ النقديّ المثقَّف. وكلّما كانت الموهبة أصيلة والدراسة عميقة، كان للشاعر أن يكون مفكّراً نظريّاً، وكان لفكره أن يتجلّى واضحاً في ما يَضعه من كشوفاتٍ شعريّة حول جوهر الشعر، وماهيّة موسيقاه، ومعايير ألفاظه وتراكيبه اللّغويّة، وزمانيّة نظامه، ومراحله وأجياله. من هنا يكون بمستطاع أيّ شاعرٍ مُفكِّرٍ أن يكون ناقداً، ولكن ليس بمقدور أيّ شاعر ناقد أن يكون منظِّراً.
ولقد عَرف القرن العشرون جماعاتٍ شعريّة مثل «أبّولو» و«الديوان» و«المهجر»، اهتمّت بفلسفة الشعر ونقده. كما أنّ هناك شعراء عُرفوا بالنقد التطبيقي، وكانوا في أحيانٍ قليلة يُنظِّرون لفاعليّته ولكنْ بشكلٍ غير مقصود، لطغيان الصفة التطبيقيّة عليهم، ومنهم ميخائيل نعيمة في كتابه «الغربال». ولقد أَخذ الوعي بفلسفة الشعر يلفت الأنظار حين بدأت نازك الملائكة مطلع خمسينيّات القرن الماضي بنشْرِ دراساتٍ متوالية في نقد البنية الشعريّة، لتكون صاحبة فلسفة في الشعر الحرّ اتَّضحت جليّة في كتابها «قضايا الشعر الحرّ»، وهو حصيلة جمْع أبحاثها المنشورة في مجلّة «الآداب» و«الأديب» اللّبنانيَّتَيْن على مدى عشر سنوات بدءاً من العام 1952 - بعدما أَجرت عليها بعض التغييرات - وفيها تُدافِع وتُجادِل عن دراية نظريّة وعمليّة بالشعر وبمرجعيّاته التراثيّة ومناهجه الغربيّة. فكانت ريادتها هي في شروعها بإدامة زَخَمِ حركة الشعر الحرّ، وبتوضيح نظامها العروضي الجديد ودفاعها المُستميت عن هذا النِّظام. وهو ما كلَّفها كثيراً من طاقتها الإبداعيّة والحياتيّة، ولكنّه أَظهرها بمَظهر الرائدة والناقدة الحصيفة المفكِّرة. ولم يتقبَّل تاريخ الأدب ذلك لكونه ينظر إلى أيّة ثورة أدبيّة بعَيْنٍ ذكوريّة ومن ثمّ لا يعترف إلّا بما هو فحولي؛ فانحاز في منْحِ الريادة إلى أسماء شعراء زامنوها في تطبيق هذا النّظام بدرجةٍ أو بأخرى.
صحيح أنّ نازك الملائكة اكترثت لأمرِ ريادتها للشعر الحرّ، وتأكيد أسبقيّتها في ابتكار قصيدة الشعر الحرّ، لكنّ ذلك لم يكُن مهمّاً بالقياس إلى ما شَغَلَ بالها من خشيةٍ على الشعر الحرّ من الانحراف عن مَساره المرسوم، وقد يكون وبالاً على الشعر نفسه، يؤدّي به إلى الهاوية. وتجلَّت وسيلتُها في تفادي وقوع هذا المحذور في قيامها بالتنظير الفلسفي والنقدي، ليكون الشعر الحرّ ثورة فكريّة، جسَّدتها دواوين نازك الملائكة المُتضمِّنة ألواناً من التجريب في بحور الشعر كالرجز والرمل والمتدارك، مع استلهامها فلسفة الحزن من شاعرَيْن من شعراء العمود هُما الخنساء وأبو العلاء المعرّي، فضلاً عن جمْعها في التعبير عن ذاك الحزن المتوارَث بين رومانسيّة الشعراء الإنكليز وشعراء المهجر العرب. ولا مراء في أنّ نازك نجحت في هذا كلّه، إبداعيّاً وفكريّاً، وبدرجاتٍ تتفاوت بحسب ما مرَّت به تجربتها الشعريّة من تحوّلاتٍ، وما صادفته من دعْمٍ وتشجيعٍ أو بالعكس من مُغالَبَةٍ وتصادٍ واستفزاز.
وإذ لم يختلف النقّاد والباحثون كثيراً في تقييم تجربة نازك الملائكة الشعريّة، فإنّهم انقسموا أو بالأحرى قسوا في تقدير تجربتها النقديّة، حتّى أنّ انقسامهم حولها كناقدةٍ طغى على انقسامهم حول الشعر الحرّ نفسه. وليس هذا بالغريب، فالحساسيّة النقديّة تجعل التصدّي لمَن يُدافِع عن شيء أهمّ من التصدّي للشيء نفسه أو لأنّ ما في الشعر الحرّ من قوّة، وما عنده من مؤيّدين ومُحبّين، جَعَلَ التصدّي فاشلاً، ومن ثمّ كان المرور إليه من خلال نقد النقد طريقاً آمناً.
وإذ لم يأخذ النقد العراقي والعربي كثيراً على شاعريّة نازك الملائكة، فإنّه نال منها ناقدة تضع نفسها مَوضع المُنظِّرة والمُفكِّرة في قواعد نَظْم الشعر الحرّ، مُحاوِلاً بذلك أن يردّ لها صاعَ خَرْقِها عمود الشعر صاعَيْن، وبكلّ ما أثاره ذاك الخَرْق من تنظيراتٍ وإشكالاتٍ واختلافاتٍ وتحليلات.
ولقد زامنت شاعراتٌ أخريات، عراقيّات وعربيّات، نازكَ الملائكة، ولكنّها اختلفت عنهنّ لا من ناحية الموضوعات وطرائق التعبير وكيفيّات الخضوع والتمرُّد على الذكوريّة فحسب، بل من ناحية اهتمامها بالنَّظر إلى ماهيّة الشعر نفسه والتفكير في فاعليّته الإبداعيّة. أمّا سبب هذا الاختلاف، فهو في ما غَمرها به الشعر من تجربة عاشتها جزءاً من كيان ذاتها، مُمتزجاً بطبائعها مُعبِّراً عن رؤيتها الفلسفيّة في الوجود. ولقد بدأت نازك الملائكة شاعرة مختلفة، وهذا الاختلاف هو الذي جَعَلَها تدخل منطقة الفلسفة كشاعرة مفكِّرة، لا على مستوى النقد، بل على مستوى النقد والشعر معاً. وكان سلاحها في فلسفة ثورتها انتهاجَ الرومانسيّة، فسجَّلت بها أوّل انتصاراتها، ونَشَرَتْ ديوانها «عاشقة اللّيل». أمّا الانتصار الثاني فتمثَّل في ديوانها «شظايا ورماد» وفيه اتَّضحت فلسفةُ نازك في التمرُّد على عمود الشعر، وفي التفكير في الوجود، حياةً ومَوتاً، فتطعَّمت الرومانسيّة بمسحةٍ وجوديّة، وبهما طوَّرت بنى قصائدها، شكلاً وإيقاعاً. وخلال هذه المراحل من تطوُّر الشعر، كانت فلسفة الشعر قد تطوَّرت بدَورها كسلاحٍ واجَهَتْ به الفكر الذكوري المُناهِض لثورتها.
وعلى الرّغم من أنّ هذا السلاح كان ماضياً في مُواجَهة التقوّلات والانتقادات، فإنّ النتائج كانت مخيِّبة لآمال نازك الملائكة؛ فلقد تصادى معها الوسط الأدبي، وهبَّ عليها هبّةَ رجلٍ واحدٍ بعد أكثر من عشرين عاماً على قيام حركة الشعر الحرّ. لا لشيء سوى أنّها نَشرت كتابها «قضايا الشعر المُعاصِر»، فاتَّهموها بالنكوص والارتداد والانكفاء والتراجُع والتناقُض والتضادّ. فهل يُعقل أنّ شاعرة موهوبة وناقدة اجتماعيّة وفلسفيّة تنكفئ أو تكتب على الضدّ ممّا توجَّهت وكرَّست حياتها لأجله؟! بالطبع لا، فنازك الملائكة التي بدأت حياتها شاعرةً ثائرة، وَجدت نفسَها مسؤولةً عن إدامةِ زخمِ ثورتها الشعريّة بوعيٍ نقديٍّ مُدرَّب صَقَلَتْهُ بدراستها الأكاديميّة لمنهجيّات مدرسة النقد الجديد الأميركيّة، وسَعَتْ إلى ترسيخ تجربتها وتأكيدها من خلال التنظير لها. فأفادت من تجارب بعض شعراء الإنكليز مثل بايرن وكيتس، وتَرجمتْ بعضاً من أشهر قصائدهما، واستلهمت منهما أساليب فنيّة معيّنة. ويظلّ التنظير للشعر الحرّ هو سبب مُناهَضة كثير من النقّاد لنازك الملائكة، فوجَّهوا سهامَ نقدهم إلى كتاباتها، بينما لم يَنَلْ تحليلُها لبنية القصيدة العربيّة عندهم اهتماماً ملحوظاً في وقتٍ لم يكُن النقد العربي يعرف غير المنهج الفنّي، والنَّظر إلى ما هو خارج العمليّة الشعريّة. ولا نستبعد أن يكون للسبب الأيديولوجي دَورٌ رئيس في تأليب المُناهِضين والمُعارِضين.
ولم تَقُم نازك الملائكة بالردّ على أغلب الانتقادات التي وُجِّهت إليها، واكتفت بُمراقَبة الواقع الشعريّ العربيّ عن كثب، فكَتبت في مسائل اجتماعيّة ونفسيّة لها صلة بالشعر؛ لكن من دون الدخول في مُماحكاتٍ مع هذا الناقد أو ذاك. فلقد قالت ووضَّحت واستشرَفت وحذَّرت ووضعَت ذلك كلّه في كتابَيْها «قضايا الشعر المُعاصِر» و«سيكولوجيّة الشعر» وتَركت الأمر للزمن يقول رأيه القاطع.
---------------
* باحثة وناقدة من العراق
(يُنشر هذا المقال بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونيّة الصادرة عن مؤسّسة الفكر العربيّ)