بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 آذار 2024 11:23م نجاة في السعودية ..!

حجم الخط
أيمن عبيد 

بدا غريبا ذلك الانزعاج الذي أبداه الإعلام المصري، في غالبه الأعم، من وراء تكريم المطربة نجاة في السعودية مؤخراً. يتمثل وجه الغرابة هنا في ان الأسباب التي سيقت لتبرير انزعاج بدت سحائبه عالية الكثافة (ترى، هل اكتست هذه الحملة الهجومية التي تخطت في اندفاعها وشدة لهجتها، حجم وطبيعة الحدث الفني، أبعادا وخلفيات سياسية ما؟)، لم تكن محل اقناع، خصوصا وانها حادت في جانب كبير منها عن درب الموضوعية واتخذت طابعا حديا في طريقة التناول، انعكس في صورة خطاب إعلامي متوتر، راوح بين تعليقات صحافية، وقد عاينا نماذج منها، بدت تغزل سلبا، وتنحو على غير ترحاب وتقبل، نحو مبادرة التكريم الفنية ومفاعيلها، وان حاول بعضها، وبعد الانتهاء مما بدا أشبه بطقس عام تستوجب فريضته تعميم مظاهر الدهشة والاستغراب من "الظهور السعودي المفاجئ لنجاة"، والغلو في تحميل الأمر ما لا يحتمل من كثير التساؤلات وعلامات التعجب المرتابة والمتشككة، كسر هذه الحدية، بالتماس الوصول الى نقطة ما، ولو على خفر، لإسداء بعض الشكر الى الذين "تذكروا نجاة وأخرجوها من حالة الانزواء والعزلة المحيطة بها" .. وبين ما صدر في برامج تلفزيونيه من آراء وتغطية ومتابعات واصلت، في كثرتها، التصويب على حفل التكريم، ولاسيما لناحية ما اعتبر أنه عدم مراعاة من الجهة المنظمة للوضعية الصحية التي ظهرت عليها المحتفى بها فوق المسرح، مع ملاحظة الإسراف المقصود في التركيز على هذه "الزاوية"، في مشهدية الاحتفال العريضة، وفسح المجال واسعا لتكهنات وأحكام قاطعة، تلقى جزافا في الهواء وعلى الهواء مباشرة، دون الاستناد الى ما يؤكدها من شواهد أو اثباتات موثقة، وذلك على مثال ما جاء في أحد برامج "التوك شو" المسائية، حيث صال مذيع البرنامج وجال في تعليقه المسهب والممتد زمنيا، حاصرا تكريم المطربة المصرية، وما ألفته من حفاوة بالعاصمة السعودية، في خانة واحدة ووحيدة هي ان هناك من استغل ظرفا ماديا صعبا ربما تمر به نجاة، أو بعض المحيطين بها، لكي يقنعها بالوقوف على مسرح أبو بكر الشدي بالرياض، في صورة يقول المذيع حرفيا: "اننا كمصريين لم نكن نتمناها لها" !. ويردف، في معرض تبرير استيائه خشن النبرة من ظهور نجاة لتكريمها بالسعودية، بعد غياب طويل عن عدسة الأضواء: "نجاة يا جماعة مش قادرة تقف على المسرح. واضح ان حالتها الصحية تعبانه. لو كانوا عايزين يكرموها حقيقي كانوا راعوا حالتها الصحية. ماكنش (لم يكن) فيه لزوم تطلع على المسرح، لكن يظهر ان الموضوع له أبعاد تانية .. أبعاد مستورة "!. وإذ لا تتوافر معلومات كافية لمعرفة ما اذا لدى نجاة من ظروف صحية كانت تحول حقا دون تلبيتها دعوة التكريم بشخصها، راوغ المذيع العائد فرحا الى هواء "البث" بعد فترة من الاحتجاب القصري، في الكشف عن ماهية هذه الأبعاد الأخرى المخفية، أو "المستورة" بتعبيره، والتي يمكن أن ينطوي عليها مثل هكذا تكريم. إذ راح يتلطى وراء ستار الغمز والتلميح تارة، والتصريح المتلعثم غير الواضح في مقاصده ولا اتجاهاته تارة أخرى، في ترجمة ما يختلج في مخيلته الخصبة من مخاوف وهواجس حيال ما يزعم انها ترتيبات تحاك في غرف مغلقة للنيل من موقع ومركزية القاهرة الفنية، دون ان يحمل نفسه مسؤولية الإفصاح، أو بالأحرى شجاعة تعريف مشاهديه، بهوية وملامح وماهية وأهداف الترتيبات المزعومة هذه، ومن يقف وراءها، ان كان لها من وجود بالأساس على أرض الواقع. ثم انه، وعلى جاري هوايته، حسبما يبدو، في رمي الكلام المرسل بغير دليل، لم يبرز لنا دعوة واحدة من عشرات الدعوات التي ارتكز إليها في تأكيده، بأنها قد وجهت لنجاة لتكريمها داخل مصر، خلال السنوات الماضية، وان الأخيرة ما كانت توليها اهتماما، في مراوغة أخرى من مراوغاته، لعله هدف من خلالها للتغطية على ما قيل انه "تقصير في إيفاء المطربة الكبيرة حقها من التكريم اللازم من قبل الجهات المعنية في بلادها". وفيما غدا مذيع البرنامج ينهل من فيض "سخائه" غير المحدود، في استسهال الحديث بلا أي ضوابط مهنية، وإطلاق ما تيسر في جعبته من تكهنات وأحكام كيفما اتفق، فقد أضاف لنفسه، هذه المرة، "مأثرة" ولا أكبر، بادعاء ان ما يقوله ليس إلا ترجمة لنبض الشارع المصري وانعكاسا أمينا لردود أفعاله حول تكريم نجاة، دون زيادة منه أو نقصان. شطحة لا شك فريدة في منحاها الفكه (كي لا نقول أكثر !)، بحيث لا نجد حيال شاطحها طليق الخيال هذا، أفضل من قول شاعرنا المتنبي: "وكم ذا بمصر من الضحكات، ولكنه ضحك كالبكاء"!. فعن أي شارع مصري تراه يرغي ويستطيل ويشطح، ومن فوضه حقيقة لا فض فوه حصرية الحديث نيابة عن المصريين، خصوصاً وانه لم يبدو البتة على قدر الأداء المهني، ولا الصدقية اللتان تؤهلانه ادعاء الحديث نيابة عن المصريين، في شأن كهذا. ولا في دونه من شؤون!
والحال، ان ما يمكن الخروج به، من رحم هذه الإثارة المفتعلة، وغير المبررة، وهو ما يعنينا هنا حيال تكريم المطربة المصرية، انما يدل، في جانب مباشر من جوانب تجلياته النافرة، الى أي حد راح القطاع الاكبر من الخطاب الإعلامي، في بلاد الأهرامات، يتخبط ويتلوى في لجة فراغ ، يكاد يصبح سمتا ومنهج عمل يغلب  على ادائه وادواته في السنوات الأخيرة. فليس تفصيلا أن ينفق مذيعا ينهض على تقديم ما يفترض انه البرنامج الاخباري الرئيسي، على شاشة فضائية "محورية" (هكذا تعرف عن نفسها!)، كامل مساحة برنامجه الزمنية البالغة نحو ساعة ونصف الساعة، في استجرار مناقشات ومداخلات واستعراض آراء، أحالت خبرا فنيا، كتكريم نجاة بالسعودية، الى مصاف "أم القضايا" ( لا يعني هذا الكلام  التقليل من قيمة الخبر المذكور  أو المعنيون به مباشرة، انما يأتي لوضع الأخبار أو الأحداث في نصابها الحقيقي والواقعي، ومدى قربها أو العكس من سلم أولويات الانشغال العام، ليس أكثر)، التي ليس بعدها من قضية تشغل بال المصريين وتؤرق هواجسهم، وتقف على رأس اهتماماتهم القصوى، حتى ليخال المتابع انه، وحيث يجهد المذيع الأكروباتي، بكل ما أوتي من ألاعيب السيرك وفنونه، في نفخ عضلاتها أضعاف ما هي عليه. ستحضر في صفة العجلة لتفتح بابا يتوق إليه المصريون اليوم قبل الغد، للخروج من دوامة معاناتهم وأزماتهم الاقتصادية والمعيشية والسياسية! هكذا اذن يتبين نوع القضايا والمشاغل "الجسام" التي قد لا يتسنى أو يقدر لها ان تتصدر عناوين "الصفحة الأولى" في أي مشهد إعلامي، وتحتل الحيز العريض في الفضاء العام، ما لم يكن الحق البديهي في "التنفس" تعبيرا واختلافا، تمايزا وتنوعا، قد بلغ في حدوده الدنيا، مبلغاً يبعث على القلق، في مقابل انفلاش وتحكم ميكانيزمات التضييق وتوجيهات "قل ولا تقل" البالية؛ تلك التي لم تصنع يوما، في أي مكان وزمان، إعلاما ذي مصداقية، قادرا على ترجمة نبض المجتمع في حقيقته الجلية، دونما تعمية أو تزييف، جريئا في الإضاءة على تجاوزات وأخطاء هذا المسؤول أو ذاك، إذا ما شط أو أمعن في عمارة الحواجز والقواطع والطرقات المسدودة، من زمن غارب، ما برحت تسقط بيارقه الواحدة تلو الأخرى، مخلفة وراءها عمارات جديدة تشرق، وثورات تكنولوجية ورقمية تلعلع في فضاء الانفتاح والاتصال والقرية الكونية الواحدة، جارفة في طريقها، بناة الحواجز والقواطع والسدود .. وما تبقى منهم ولهم من أوهام، أين منها أوهام الخطوط الحمر في "أمصارنا"، هذه الأيام!

كاتب مصري