بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 كانون الثاني 2023 12:02ص ورق عتيق (3)

حجم الخط
الجرذ الذي تسلل من ثقب الأنبوب الصحي، في حائط القبو، ودخل إلى مكتبتي من «المنور» المجاور، كان يتتبع مثلي، رائحة ورق عتيق. كان نهما إلى الورق الأصفر الذي سبقه إليه العث والسوس. إنصرف لمعالجة الكتب الصفراء، التي كانت بخط اليد. شدّته رائحتها الممزوجة برائحة علبة النشوق والشاي المجفف. وجد فيها طعما لذيذا، شغلته رائحة العفونة فيها أيضا، تلك الرائحة التي يستطيبها، شبيهة عفونة المجاري والأنابيب التي يقطع نزهاته بينها. عثر أخيرا على كنز ثمين مخبأ بعناية، مطمور تحت رفوف الكتب العميقة، فانتحى إليها وأخذ يتلذذ بطعم أوراقها المعطّرة، بدموع العجوز.
ذلك الشيخ العجوز الذي، كان كلما قرأ منها، انهمر من عينيه الدمع وترك على الصفحات بقعا من حزوز الدوائر الصغيرة، دوائر صغيرة وسمتها، وبقع من السعال الأصفر، ممزوجا برائحة أعقاب السجائر. فصار بعده، كل من يمسك هذه الأوراق، يبكي أكثر مما يقرأ. صارت هذه الأوراق، عادة للبكاء.. بكاء العاديات.
الجرذ الذي تسلل إليها في عتمة الأنبوب، ينكب على نشر هذه الأوراق العتيقة، بأسنانه الحادة. كان يجد فيها طعما لذيذا، طعم القدامة المخمّرة بعطاس علبة النشوق.. ورق عتيق، منحوتات دمع قديم، ممزوجة ببقع من سعال الشيخ، بعد فراغه إليها في الهجود.
جرذ المكتبة في قبو البيت، كان كلما وجد كتابا عتيقا، يفلفش أوراقه مثلي، يمررها واحدة واحدة، أو مجموعة مجموعة، لعله كان يرقبني من قبل. ثم تراه يتوقف فجأة مثلي عن عبثه، يمسك بعنق ورقة، فيستلها مع وريقات لصيقة بها، تراه يحكك بها أسنانه الحادة، ثم يتذوّقها مثلي على مهل. ينزع منها بعض الحروف، بعض الكلمات، بعض الجمل.. يتفّها في أرض القبو، تحت الرف الأخير، حيث ظهر فيه الكنز. ينتقم إليّ. وينتقل فجأة إلى الجهة المقابلة، بلا سبب، وإنما ترويحا عن النفس، حتى ترتاح نفسي.
جرذ عتيق حقا، في التمييز بين الورق والورق، بين رائحة ورقة صفراء عتيقة، وبين رائحة ورقة، إنطبعت عليها أحداق زهرة منسية.. أوراق وردة، أسبلت عينيها.. غفت.. أتى جرذ وأيقظها في عتمة القبو.
هناك في زاوية القبو، حيث تكدّست مجموعة عظيمة من الكتب في الصندوق الخشبي، إشتم الجرذ منها رائحة عفونة، ما صادفته سابقا، أسرع إليها، دخل في الصندوق، نزل بين الأضابير المهترئة.. تراه يغطس في الصندوق، يمسك بالأوراق، ينزعها.. ويعبث بذيله، يمنة ويسرة علامة سرور خارج الصندوق.. يهرشها، يرميها جانبا، ثم يحاول مرة أخرى. كان أسفل الصندوق أغنى، شغلته المذاقات اللذيذة للشروح وللتفاسير، حيث كانت السبابات، قد سقطت منها بصماتها. فأخذ الجرذ ينهشها نهشا. يتتبع البصمات الخفية للشروح، يقرأ تحتها أكاذيب قديمة. يوقّع فوقه ببصمته، يخرج من جوفه حبرا ممزوجا بأحشائه، أكثر لزوجة من الحبر القديم.

أستاذ في الجامعة اللبنانية