حكايا الناس

24 كانون الثاني 2022 12:00ص آخ يا بواتييه!

حجم الخط
هي الأرواح يا صاحي! والعالم قشرةٌ جلديّة سماكتُها وهمٌ علا قلبك ذات مرّة. فقليلاً ما نُحدِثُ الفرقَ بين أرواحنا ومنازل كثيرة لها لا تسكنُ إليها. في الغربة يا صاحبي لا تعود المرآةُ حديثاً للجسد. فليتسرّب عمري إذاً من بين كل ظلال الصور الحيّة للموت! فلي شأنٌ آخر مع نفسي. 

في الصباح الباكر، فوق نهر «الرّوْن» الشاحب كوجه سائلٍ  ينهرْه بردٌ قارس، أتعلّم السكون! أن أقف على حرفٍ أخير لئلّا أسقط في البئر السّحيقة للنفس. في طريق عودتي على دراجتي الهوائية أكسر صلافة الرّيح بحركةٍ مُثابرة. زجاج البرد يتناثر تحت أقدامي. أجرّ إلى المقام نفسي. أفهم الكسرة أكثر! 

في النّهار أجاري الفرنسيين. وفي الليل أضمُّ إلى نفسي نفسي. هذا القمرُ المرسوم على نافذتي أعرف نسَبَهُ جيداً. سأضمُّه إلى وحدتي وأنام. تكبر في قلبي الضمّة!

يكلّمني زميلٌ عن تاريخ الفرنسية. يعرض نصاً من القرن الثالث عشر ويقول: لن تفهم شيئاً. فرنسا ظاهرة لغويّة بهواجس مُتجدّدة. أفتح ذاكرتي على مصراعيها. ١٤٠٠ سنة ويزيد: عمري ونُطقي ورسمي. قلبي وعقلي يكبران في الفتحة! فتحةٌ، ضمّةٌ، كسرةٌ، وسكون. شعرٌ يموج، خيلٌ يصعد ويهبط، سيفٌ يبتر، مطر يرعدد. موسيقى الحياة. أنفاس الأخلاق. فتحة: نحو السماء. ضمّة: حتى القبر. كسرة: حتى النصر. سكون: لا يتزعزع. 

لماذا الخشية من تعليم العربية في فرنسا إسوةً بغيرها من اللغات الحيّة؟ إنّها بواتييه يا عزيزي! أبتسمُ لصاحب الجواب. هي طاحونة الحرب إذاً. تُرى من فينا يخبز القتلى ليوهم الموتى بحياة أبديّة؟ أخٍ  منك يا بواتييه وأوفٍ لك. لكنّك كم أصبحت وراءنا! هل كانت الفتحة ضروريّةً على كلمة بواتييه حينذاك؟ الحركة الأخفّ نُطقاً على لسان العربي والأقرب إلى فطرته؟ هل كانت لتمحو ظلامها؟ لا أدري ما اسبانيا لولا أندلسها؟ قصر الحمراء، غرناطة، قرطبة، ابن رشد، ابن طفيل، موسى بن ميمون وغيرهم. محاكم التفتيش أو عصابة القراصنة وكولومبوس(ها) الجزّار أو ديكتاتورية فرانكو الحديثة أو مصارعة الثيران الوحشية وعيد السباحة في عصير الطماطم؟ أو دعوات الاستقلال من كل حدَبٍ وصوْب تحت شعار واحد: الاسبان المحتلّون. أما آن الأوان لتسقط أكذوبة احتلال العرب لاسبانيا؟ بلى. 

زميلي الفرنسي تتّسع حدقتاه. لكنّي أبعدت عنه الخوف سريعاً ما دامت بواتييه قد أصبحت في ظهورنا. فغداً سأنزل إلى باريس، مدينة الأنوار، وأفتح من الكلام وأكسر ما شئت. وسأسكّن بعض أوجاعي على حروف سريّة. فلي فيها طيفٌ لم أستردّه بعد. لكنني سأتذكّر في الشانزيليزيه وبين المقاهي والمسارح والمكتبات العملاقة، كلام زميلي الذي يردّه أصلٌ عربيّ من جهة الأب إلى مساكنة الحقيقة. فرنسا ظاهرة لغويّة لا ربّ يحميها! 





wwww

أخبار ذات صلة