بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 حزيران 2023 12:00ص الصراع المسيحي - المسيحي منذ 1932 حتى اليوم أضعف موقع الرئاسة (5)

تحالفات وتصفيات ودموع.. وحوارات لم تُنهِ المآسي وزادت الهجرة

حجم الخط
229 يوماً مرّوا على الشغور الرئاسي في لبنان، من دون أن تلوح في الأفق أي بوادر بإنجاز هذا الاستحقاق، وبعد 12 جلسة انتخابية لم تسفر عن أي نتيجة، في وقت يواصل الدولار ألاعيبه وتحليقه، مترافقا مع ارتفاع جنوني في الأسعار وتدهور حياة الناس الاقتصادية والمعيشية والصحية والتربوية، وهو ما دعا «المرصد الأوروبي للنزاهة في لبنان» لأن يشير في بيان له «الى أن الانهيار الذي تشهده الليرة مقابل الدولار الأميركي في بيروت كبير جداً ويستدعي التوقّف عنده»، مشددا على أن «المسؤولية الكبرى تقع على الحكومة وعلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الملاحق في العديد من دول العالم بتهم الاختلاس وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتزوير واستعمال المزوّر».
بشكل عام يتواصل الشغور الرئاسي ويستمر عداد فراغ الكرسي الأولى بالتصاعد، بانتظار إشارة مرور خارجية، عبر توافق دولي، وإقليمي وتحديدا عربي، كان يطلق عليه فيما مضى «الوحي» الذي يحوّله النواب في صندوقة الاقتراع باسم الرئيس العتيد، ولأن «كلمة السر» الحاسمة بشأن الانتخابات الرئاسية لم تصدر بعد، ليحوّلها نواب «الأمة» الى حقيقة في صندوقة الاقتراع الزجاجية، سيتواصل عداد أيام الشغور في الكرسي الأولى بالتصاعد «حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا»، وليستمر التنافس المسيحي - المسيحي وخصوصا الماروني - الماروني على الكرسي الأولى منذ زمن الانتداب حتى اليوم، وهو اتخذ في أحيان كثيرة حد الاحتراب، والتصفيات الجسدية إبان الحرب الأهلية وما بعدها، هذا ما سنحاول تفصيله في أكثر من حلقة.

ظلّت الأمور على وتيرة مرتفعة من التصعيد بحيث صارت الساحة مهيّأة للانفجار، وكانت بداية فتيلها في شهر كانون الثاني 1975 بالعدوان الإسرائيلي الواسع على الجنوب، ثم اغتيال المناضل الوطني معروف سعد في شهر شباط، وفي 13 نيسان انفتح ميدان الحرب إثر شرارة بوسطة عين الرمانة، التي حاول الرئيس فرنجية معالجتها بتأليف حكومة عسكرية برئاسة العميد المتقاعد نور الدين الرفاعي في 23 نيسان، لكنها انهارت بعد ثلاثة أيام فقط، لتبقى الأزمة الدموية في سباق مع الرعب والموت الذي يحصد الناس.. والوقت أيضاً.
وفي 28 أيار كلّف الرئيس رشيد كرامي بتشكيل الحكومة الجديدة، فأصرّ كمال جنبلاط والقوى الوطنية والتقدمية على إبعاد حزب الكتائب عن الحكومة، فيما أصرّ حزبا الكتائب والوطنيين الأحرار على المشاركة، وفي النهاية شكّلت حكومة جديدة استبعد عنها أي ممثل لجنبلاط أو للكتائب.
لم يحل قيام الحكومة دون تطور الاشتباكات وتعددت الأصوات المطالبة بالحوار الوطني، فكان أن أعلن الرئيس كرامي عن تشكيل هيئة الحوار الوطني في 24 أيلول وتألفت من شخصيات تمثل مختلف القوى والتوجهات السياسية والاجتماعية في البلاد، بغية الوصول الى اتفاق علّه يشكّل مدخلاً صالحاً لحل الأزمة المتفاقمة.
وعقدت هذه الهيئة أول اجتماع لها في 25 أيلول وأجمع الأعضاء على ضرورة إعادة الأمن والحياة الطبيعية الى لبنان والتمسّك بصيغة التعايش ووحدة الشعب والأرض وطناً للجميع، كما شكّلت لجان مختلفة لوضع تصوّر لإصلاح سياسي ودستوري في البلاد، كان أبرزها لجنة الإصلاح السياسي، لكن كل ذلك لم يحل دون مزيد من تدهور الأوضاع حيث مورست أبشع أنواع عمليات الخطف والقتل والدمار. وبعد عدة لقاءات واجتماعات سواء لهيئة الحوار أو للجان المختلفة، عقدت هيئة الحوار الوطني اجتماعاً في 24 تشرين الثاني فتغيّب عنه كميل شمعون وكمال جنبلاط، مما دفع الرئيس صائب سلام والعميد ريمون إده للانسحاب منه، فانفرط عقد الهيئة نهائياً دون أن تتمكّن من التوصل الى أي نتيجة.
يُذكر أنه في الرابع من تشرين الأول من عام 1975 كانت قد عُقدت قمة إسلامية - مسيحية في بكركي ثم في دار الفتوى، وكان الجو رائعاً، كما خرجت بتوصيات إجماعية تؤكد التمسّك بصيغة العيش المشترك والسيادة الوطنية ورفض التقسيم، كما دعت الدولة الى استعجال الإصلاح واستعمال أقصى ما يخوّلها إياه القانون، لكن كل ذلك لم يؤدِّ الى التهدئة، فاستمرت الأوضاع على تدهورها.
خلال ذلك استمرت ولادة الجبهات السياسية المختلفة، ففي 13 كانون الثاني 1976 أُعلنت ولادة جبهة الحرية والإنسان في الكسليك، بعد أن كانت الحركة الوطنية اللبنانية قد أعلنت في السابق قيام صيغة ائتلافية للقوى والأحزاب والحركات الوطنية والتقدمية اللبنانية تحت اسم المجلس السياسي المركزي، وفي ما بعد تحوّلت جبهة الحرية والإنسان الى الجبهة اللبنانية، وفي 11 تموز 1976 أُعلن عن ولادة جبهة الاتحاد الوطني التي ضمّت الرؤساء: رشيد كرامي، صائب سلام، أحمد الداعوق ورشيد الصلح، النائب مخايل الضاهر، النائب ألبير منصور، أمين بيهم، الدكتور نجيب قرانوح وغيرهم من الشخصيات، ولاحقاً ولدت الجبهة القومية في مواجهة المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية برئاسة كمال شاتيلا. وبالرغم من أن سنة 1976 حفلت بعدة تطورات من أبرزها إعلان الرئيس سليمان فرنجية للوثيقة الدستورية في شهر شباط وانقلاب عزيز الأحدب في آذار، والمطالبة بتقصير ولاية الرئيس فرنجية بواسطة عريضة وقّعها 66 نائباً، ثم انتخاب الرئيس إلياس سركيس لرئاسة الجمهورية الذي كان قد سُبق بحرب الثكنات وانقسام الجيش اللبناني، لكن الأوضاع الدامية استمرت على تدهورها ولم تفلح كل محاولات الحوار التي سعي إليها على المستوى الداخلي أم على المستوى العربي والدولي، فشهدت هذه المرحلة مزيداً من اتساع الحرب ولم تنجح مساعي التسوية، وتمّت حركة تهجير واسعة من كل المناطق بالرغم من كل التدخلات.
وفي مطلع شهر أيلول عقد وزراء الخارجية العرب اجتماعاً طارئاً قرروا بموجبه عقد قمة خاصة بالأزمة اللبنانية في النصف الثاني من شهر تشرين الأول، فعقدت في القاهرة، ثم تحوّلت هذه القمة الى قمة سداسية عُقدت في الرياض في 18 تشرين الأول وضمّت كلاً من: مصر، سوريا، فلسطين، الكويت، المملكة العربية السعودية، ولبنان، فتقرر في هذه القمة حلّ الأزمة اللبنانية، وتقرر إنشاء قوات الردع العربية، ووقف القتال في صورة نهائية والالتزام به التزاماً كاملاً من جميع الأطراف، وفتح جميع الطرقات والمعابر، كما قرر المؤتمر الالتزام بإزالة آثار النزاع والأضرار التي حلّت بالشعبين اللبناني والفلسطيني، وتنفيذ اتفاق القاهرة وملاحقه.
في مطلع شهر كانون الثاني 1977، توحّد مسلحو الميليشيات المسيحية بقيادة بشير الجميّل تحت اسم «القوات اللبنانية»، وفي الثالث من شباط حدث تطوّر هام في موقف كمال جنبلاط بشأن تأييده الرئيس سركيس، حيث أعلن أن «سركيس يعمل بإخلاص من أجل الانتقال بلبنان بصورة نهائية الى حالته الطبيعية»، لكن هذا الموقف الجنبلاطي لم يتسنَّ له أن يتطوّر أكثر لأنه اغتيل في شهر آذار 1977.
في شهر أيار وقع الصدام الأول بين القوات اللبنانية والجيش السوري في قرية «بلا» بالشمال، لتتصاعد بعده الصدامات تدريجياً والتي كانت تترافق مع تصعيد الاعتداءات الإسرائيلية، على أن المحطة الأخطر كانت في 19 تشرين الثاني 1977 حينما زار الرئيس المصري أنور السادات القدس المحتلة، فكانت هذه الزيارة بالنسبة الى لبنان زلزالاً قلب الكثير من المعادلات، تُوّجت في 14 آذار عام 1978 بعدوان إسرائيلي واسع على الجنوب تحت اسم «عملية الليطاني»، وأعلنت على أثره تل أبيب تنصيب الرائد العميل سعد حداد مسؤولاً عن المنطقة التي احتلتها. لتتصاعد وتيرة الصدامات الداخلية، في 13 حزيران 1978 اغتالت «القوات اللبنانية» النائب طوني فرنجية وزوجته وابنته، كما هزّت الطائفة المارونية تجربة ثانية هي عملية الصفرا التي أدّت في 7 تموز 1980 الى تصفية التنظيم العسكري لحزب الوطنيين الأحرار. وطوال الحرب الأهلية لم تنفع كل محاولات الحوار، وكانت الخلافات في كل منطقة تصل أحياناً الى الصدام المسلّح، والحوار الذي كان يعقبه هدوء مؤقت لم يكن أبداً من صنع اللبنانيين، بل كان نتيجة تدخلات ومساعٍ عربية. واستمر الوضع على هذا الشكل التراجيدي حتى مطلع حزيران عام 1982، حيث كان العدوان الإسرائيلي الواسع على لبنان والذي تُوّج باجتياح العاصمة بيروت، وكان ذلك إيذاناً بدخول الصراع في لبنان مرحلة جديدة شهدت مزيداً من القتال والنزيف الداخليين، الذي كان دائماً يرافق بحوار وحوار داخل وخارج لبنان، لكنه لم يؤدِّ الى نتيجة، فظل السلام بعيداً.