بيروت - لبنان

اخر الأخبار

3 أيلول 2022 08:08ص أسرار الإنتخابات الرئاسية في مذكرات صائب سلام (٩)

حاول الملك فهد التفاهم مع الأسد على مرشّح مقبول من المسيحيين.. الحريري في واشنطن والأميركيون طلبوا من البطريرك لائحة بالمرشّحين

حجم الخط
الإبحار مع مذكرات الرئيس صائب سلام هو في الواقع غوص في ثنايا تاريخ دولة الاستقلال، وما ميّزها من نجاحات باهرة حيناً، وما صادفها من كبوات موجعة وتحديات صارخة أحياناً. ذلك أن هذه المذكرات خرجت عن الصيغة التقليدية للسيرة الذاتية، وإهتم صاحبها بتأريخ لحظة الحدث أكثر من تركيزه على الرأي الشخصي أو الترويج لموقف سياسي، وهي بذلك تبقى مرجعا للباحث، وزادا للسياسي الصاعد، ومصدر إلهام وخبرة للأجيال الناشئة. 
من «لبنان واحد لا لبنانان»، في زمن الإنقسامات في الخمسينيات، إلى صيغة «التفهم والتفاهم» في زمن الصراعات وإنقطاع الحوارات في السبعينيات والثمانينيات، إلى الحرص على «لبنان الواحد بجناحيه المسلم والمسيحي» في زمن الإنتخابات العرجاء في مطلع التسعينيات. محطات لها تاريخ في مسار الوحدة الوطنية التي كان صائب سلام أبرز رموزها على مدى نصف قرن ونيّف.
ليس سهلاً الإحاطة، بهذه العجالة، بسفرٍ من ثلاثة أجزاء ويضم ألف وسبعمائة صفحة، فكان لا بد من إختيار محور واحد يتناسب مع الأحداث التي يعيشها لبنان حالياً، وهل ثمة أنسب من محور الإنتخابات الرئاسية، والبلد اليوم يعيش أجواء الإستحقاق الرئاسي في مرحلة من الإضطراب وعدم الإستقرار.
الحلقات ستغطي تباعاً أسرار الإنتخابات الرئاسية من إستقالة الشيخ بشارة الخوري إلى إنتخابات الرئيس إلياس الهراوي، وما تخللها من مناورات وصفقات وكرّ وفرّ هي من سمات المعارك الإنتخابية في لبنان.

السجال حول المرشّحين لرئاسة الجمهورية

أتاني «الحريري» من باريس وتغدّى معي ومع «تمّام»، وفهمت منه أنّ سبب اتّصالاته المتتابعة هو أنّه يريد مقابلتي، بحضور «تمّام»، لأنّ الموضوع لا يحتمل البحث هاتفياً.
قال الحريري: «إنّ الملك فهد جادّ في مساعيه، وهو يريد أن يحاول كلّ الأساليب مع سوريا، عسى أن يتمكّن من التوافق معها على مرشّح مقبول يمكن أن ننقذ به الوضع في لبنان، بمعنى أن يجري انتخاب لرئيس جمهورية جديد، فلا يفرط لبنان ولا يتفتّت، ويبقى له كيانه الشرعي، لعلّنا في ما بعد، نتمكّن من السير في تخطّي ما أمامنا من أخطار على لبنان وعلى العرب». وبالطبع فهذا هو رأيي ولذلك كنت إيجابياً في ندائي، ولم يصدر عنّي ما يسيء لسوريا مع كلّ ما أجده عند «حافظ الأسد» من نوايا، أو أساليب، لا تمتّ للمصلحة اللبنانية أو العربية بأيّ صلة. وهذا ما لاحظه الملك «فهد» إذ قال في حديثنا الهاتفي: «إنّني أقدّر لك ما كان في ندائك من إيجابية». فأجبته: «أنا بطبعي إيجابي، وفي مواقفي أحبّ أن «نأكل عنباً لا أن نقتل الناطور»، وكنت أعتقد أنّ في ندائي الإيجابي ما يفسح لك المجال في العمل مع سوريا إذا توفّر لك ذلك!!».
وفهمت من «رفيق الحريري» أنّه، أي الملك «فهد»، كان قد أرسله لمقابلة «الأسد» في اللاذقية، فوجده متصلّباً إلى أبعد الحدود إذ هو لا يقبل سوى بـ«سليمان فرنجيّة»، أو «ميخائيل الضاهر» اللذين كان قد رشّحهما.
لكنّ الملك تابع المسعى مع الأميركان، لكي يأخذوا موافقة المسيحيين على مرشّحٍ يكون مقبولاً منهم ولم يُرفض سابقاً من سوريا، فنسعى جميعاً في جعل سوريا تقبله. وأبلغني أنّه ذهب سرّاً إلى أميركا، فتفقّد ابنه الذي يدرس هناك، وذلك بطلب من الملك «فهد»، فتفاهم مع المسؤولين في أميركا على أن يبعثوا برسول خاصّ لمقابلة البطريرك في روما، والإلحاح عليه بأن يتوافق المسيحيون على أسماء عدد من المرشحين، وليكن بينهم من ترفضه سوريا ولم تقبل به من قبل، ولكن ليكن منهم أيضاً من يمكن للملك والأميركان البحث به مع «الأسد»، وأخذ موافقته (طبعاً دون أن يقال للبطريرك كلّ هذا الكلام) بل أن يقدّم المسيحيون أسماءً عدّة، دون أيّ تخصيص.
وهنا يُفهم سبب إلحاح «الحريري» عليّ باتّصالاته المتوالية من باريس، وأنّه يريد مقابلتي للتباحث في أمور لا يمكن بحثها هاتفياً، وهو يلحّ على ضرورة اشتراكي في الموضوع، إذ كان مطّلعاً على إصرار البطريرك على مقابلتي. وقد فاتني أن أذكر أنّ البطريرك، بعد إلحاحه برسائله بواسطة المونسنيور «حرفوش»، و«شكري نصر الله»، فقد كلّمني يوم وصوله إلى الفاتيكان في روما متفقّداً صحّتي، وكان لطيفاً للغاية، ثمّ كرّر إبداء رغبته في لقائي للتعاون. وطبعاً، أنا لا يمكن أن أذهب إلى روما لمقابلته، ولكنّني اقترحت عليه أن نتقابل في باريس إذا أمكنه المجيء إليها.
وبعد البحث مع «الحريري»، أبلغني أنّه ينتظر خبراً من الأميركان عمّا جرى معهم، أو مع رسولهم في روما، فإذا وجد الباب مفتوحاً فلديه تعليمات من الملك «فهد» بأن يتوجّه للاجتماع بالبطريرك ويؤيّد مساعي الأميركان.
ولعدم موافقتي على ذهابي شخصياً، اقترح «الحريري» أن يذهب «تمّام» رسولاً منّي ليسبر غور البطريرك، وأن يُفهم البطريرك أنّ هناك مرشّحين غير مرفوضين من سوريا فحسب، بل إنّ المسلمين، وبالطبع أنا، لا نثق بهم، لكن نريد أن نتوافق على شخص ما، لإنقاذ الشرعية في لبنان، فلا يتفتّت كيانه إلى كيانات، فليأخذ البطريرك موافقة المسيحيين على عدّة أسماء، ونحن عندها نقول من يمكننا الاطمئنان إليه، ولو نوعاً ما، والقبول به.
وفي البحث الطويل بالأسماء، تمخّض الرأي على أنّ هناك اثنين لم ترفضهما سوريا من قبل، ويمكن أن يكونا أفضل مَن هم على الساحة... مع العلم بأنّ الجميع على غير المستوى المطلوب، وهما «فؤاد نفاع» و«ميشال الخوري».
وقد أسرّ لنا «الحريري» بأنّ اتّهامه بتأييد «ميشال الخوري» ليس صحيحاً، وإنّما هو الملك «فهد» الذي يتمسّك به!
وأخيراً، كان سرّه الآخر أنّ الملك «فهد» قال إنّه إذا رفضت سوريا كلّ هذا، وبقي «الأسد» متمسّكاً بموقفه السلبي، فسيعمل بكلّ قوّة على إنجاح «القمّة العربية»، ولو أدّت إلى عزل الأسد كاملاً فيكون عذره معه. وتفارقنا على أن ننتظر أخباراً من «الحريري» عن مساعي الأميركان ومسعاه.
عشنا اليومين الأخيرين على أخبار، معظمها تلفزيوني، تعطي صوراً وتفاصيل عن نهاية الصراع العنيف الذي كان يجري في أميركا حول رئاستها، وهي أعظم وأقوى بلد في العالم في هذا العصر، وذلك بين المرشّح الجمهوري نائب الرئيس «جورج بوش» و«ميشال دوكاكي»، المرشّح الديمقراطي حاكم ولاية ماساتشوستس، حتى انتهى هذا الصراع أمس بانتخاب «جورج بوش» لرئاسة أميركا، بعد أن استمرّ الصراع أيّاماً وليالي في الأشهر الطويلة الماضية، والفريقان يتبادلان في العلن أوقح عبارات الذمّ والقذف الشخصية، مرفقة بالصخب والضجيج من قبل الملايين في المهرجانات، التي يُبذل فيها ملايين الملايين من الدولارات، ما أدّى إلى اشمئزاز العالم الخارجي، لتدنّي هذا المستوى «المسرحي» لمرشّحين لأعظم قيادة عالمية اليوم، وللنظام الديمقراطي الأميركي. فيا لخيبة الأمل في مسيرة العالم الحاضر.
وبعد كلّ هذا الذي تجمّع لديّ، رأيت أن أوافق على فتح الأبواب مع «القوات اللبنانية»، وكانوا هم قد بدأوا بذلك وراحوا يؤكّدون لي أنّهم على استعداد كامل وثقة بي، وأنّهم مستعدّون للسير بكلّ ما أقترحه في سبيل الخروج من المأزق الحالي وإنقاذ لبنان. ومع إبدائي الحذر التامّ للتعاطي معهم، لم أقم بخطوات حاسمة معهم لأتأكّد بوضوح ممّا يقولون. لكن رأيت أن نواصل الاتّصال ببطريرك الموارنة الذي كان بدوره يلحّ أيضاً على الاجتماع بي، وهذا لا يورّطني، كما لو ذهبت بعيداً مع «القوات» الذين أخشى أن يكون كلامهم فيه مجرّد الإغراء للتواصل، أو يكون صادقاً كما يقولون بأنّهم على استعداد كامل للبحث معي في كافة - ويصرّون على «كافة» - مشاريع الإصلاحات المطروحة، والاستعداد لتنازلات كبيرة في هذا المجال، حرصاً على التفاهم والتعايش مع المسلمين، وللإبقاء على لبنان الواحد الذي أدعو إليه، وأنّهم مصمّمون على رفضهم للتقسيم رفضاً قاطعاً.
ولوجود البطريرك في الفاتيكان في روما، وبعد أن أبلغني «الحريري» عن مقابلة الأميركان له، ثمّ مقابلته هو باسم الملك «فهد» أيضاً، والبحث معه في ما كنّا قد اتّفقنا عليه، اتّصلتُ به لأول مرّة منذ أيّام، وقلت له إنّني بكلّ سرور ورغبة أتمنّى أن نتقابل كما اقترح هو، لكنّ «الديسك» في ظهري يمنعني من الذهاب إليه في روما، كما اقترح عليّ «الحريري»، وعليه، سأبعث له برسالة مع «تمّام». والواقع الذي لم أقله هو أنّني حتى لو كنت في حالة صحّية تسمح لي بذلك، لما ذهبت إلى روما، فذلك في نظري يولّد ضرراً أكثر ممّا فيه من فائدة. وقد حجز «تمّام» في طائرة ذاهبة إلى روما اليوم، لكن بعد استعراض الوضع بيني وبينه، وجدت أيضاً أنّ ذهابه إلى الفاتيكان ربّما يولّد بعض المشاكل التي نحن في غنى عنها، وهو لو ذهب حتى بصورة خاصّة وسريّة، فأنا دائماً مقتنع بأنّ السرّية فيها ضرر كبير عندما تنكشف، ولا بدّ لكلّ سرّ من أن ينكشف، فاعتذر «تمّام» بعد أن كان حدّد له موعداً، وتوجّه إلى بيروت بسبب وفاة لا يمكنه التخلّف عن واجبه فيها.
ثمّ كلّمت البطريرك هاتفياً في روما، وكان الحديث بيننا طويلاً، فأعدت تقديري له شخصياً، ورغبتي في تلبية رغبته، لكنّ وضعي الصحّي هو الذي يحول دون ذلك.
وفي حديثنا شرحت له كلّ ما كنت أحبّ أن أقوله شفاهاً، وكان يوافقني على كلّ ما قلته، مع العلم بأنّني كنت صريحاً معه إلى أبعد الحدود. وممّا قلت له: «إنّ حرصي على التفاهم مع المسيحيين والإبقاء على وجودهم هو جزء من حرصي على لبنان، وإنّه إن تفتّت لبنان فستكون الخسارة الأكبر من نصيبهم، ليس لخسران رئاسة الجمهورية في لبنان فحسب، بل لخسارة لبنان الذي فيه خسارة لهم أكثر من أيّ فريق آخر. وهم عندما يخوّفوننا من أنّ سوريا تحتلّ القسم الأكبر من لبنان، فربّما إذا وقع هذا فلن يكون معظم المسلمين آسفين، إذ هم دائماً كانوا طلّاب وحدة مع سوريا. وإذا اعتقد البعض أنّهم اليوم مستاؤون من وضع حكّام سوريا منهم، فهذا لن يدوم، والظروف تتبدّل وتعود سوريا إلى أصالتها، فيطيب لهم أن يكونوا سوريين». ثمّ شرحت له ما أكّده له الملك «فهد»، ونقله إليه «الحريري»، من أنّ «فهد» إذا وجد أنّ هناك مرشّحاً للرئاسة يتوافق عليه المسلمون والمسيحيّون، فسيبذل جهده لإقناع سوريا به، وإذا وجد عندها رفضاً وتصلّباً فهو يتعهّد بأن يدعو إلى مؤتمر قمّة، ولو اضطرّه الأمر إلى الوقوف ضدّها. وطلبت منه أن يتوصّل مع الفريق المسيحي إلى تقديم عدّة أسماء يرشّحونها، ونحن على استعداد للقبول بالبعض منها، وسمّيت له «ميشال الخوري» و«فؤاد نفاع» مثلاً – مع علمي مسبقاً بأنّ «فهد» يرغب في «ميشال الخوري»، وأنّني أفضّل «فؤاد نفاع» - وتبسّطت معه في كثير من التفاصيل، ووسائل الإقناع، لحثّه على العمل السريع قبل فوات الأوان، لأنّ كلّ يوم يمرّ على الوضع الحاضر يزيد في ترسيخ التقسيم، وغير ذلك كثير من المواضيع المتعلقة بالوضع الحاضر، فكان يوافق معي على كلّ ما أقول. وحثثته على ضرورة عودته إلى لبنان، وإذ قال إنّ البابا يريد إبقاءهم في روما لأمور ضرورية، قلت له أن يطلب من البابا باسمنا أن يتركه يذهب اليوم قبل غد، ولا سيّما أنّ البابا، على ما نعلم، هو من رأينا، وأنّه ينصح المسيحيين بعدم التطرّف، وأن يسايروا المسلمين كي لا يخسروا لبنان، إلى آخر ما هنالك، وهذا مسعى، طبعاً لا أقول إنّنا سننجح فيه مئة بالمئة، وإنّما هو بصيص نور لنا للسعي، فلا يجوز أن نهمله.
ثمّ حاولت مكالمة «تقيّ الدين الصلح» في باريس، فأبلغني «نهاد المشنوق» الذي كان يرافقه في الفندق أنّه أصيب بنوبة قلبية حادّة في الصباح الباكر، وأخذوه إلى المستشفى حيث وُضع في العناية الفائقة، فتأثّرت تأثّراً بالغاً لأنّه يعزّ عليّ فقدان أيّ شخصية لها قيمتها في لبنان في هذه الظروف، فكيف وهو من الأصدقاء القدامى؟ تأثّري كبير جداً... شفاه الله وعافاه.
اليوم في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1988 كانت جميع بلدان الغرب تقيم الأعياد في الذكرى السبعين لهدنة الحرب الأولى. تذكّرت بألم كيف تلقينا ذلك النبأ الخطير في عام 1918، وكم رقصنا له فرحاً لأنّه يوم نهاية الحروب، وكيف هلّلنا له وكم استبشرنا به لتحرير الشعوب حسب وعود الرئيس «ولسون»، وموافقة حلفائه الغربيين المنافقين والكذّابين، والناكلين في ما بعد، وما توهّمناه فيهم من حُسن النيّة في ما أعلنوه ووعدوا به من «نقاط ولسون» الأربع عشرة، بأن يساعدوا جميع الشعوب على التمتّع بحريتها، بينما كان قادتهم المجتمعون في باريس يعملون على تقاسم مناطق العالم وشعوبه كالذئاب الكاسرة!
وزارني وتعشّى عندي «طارق عزيز»، وقد مضى عليه أسبوعان في جنيف في مفاوضات العراق - إيران، وأخبرني أنّه متوجّه إلى العراق غداً، وهو يرغب في أن يجتمع بي قبل ذهابه، وكانت أحاديث طويلة ومشعّبة.
أخبرني أنّهم لم يتقدّموا في هذه المفاوضات، ولكنّه وجد الجوّ مريحاً وفيه شيء من الأمل، وقد أرجأوا الاجتماعات لجولة مقبلة، بعد أن كانت هذه الجولة هي الثالثة، وطمأنني جداً بأنّ موقفهم عسكرياً وسياسياً قويّ جداً، وهم يتحرّكون تحرّكاً واسعاً، عالمياً وعربياً، والواقع أنّني كنت معجباً بـ«صدّام حسين» منذ اجتمعت به في عام 1980 في بغداد، فوجدت فيه رجلاً فذّاً يفاضل جميع قادة العرب الذين عرفتهم منذ أربعين سنة، وحوله فريق من الأكفّاء ونظيفي اليد، وهذه صفة أقدّرها بالدرجة الأولى في القادة، وهي ما يفتقده الكثيرون من قادة العرب، وكانت هذه الصفة من أكبر مصادر القوة لـ«عبد الناصر» و«أبو عمّار». وهم في العراق، رغم استمرارهم في تنمية قدراتهم العسكرية، يجدّون في التعمير والتنمية، ولا سيّما في ما خلّفته الحرب القاسية من خراب ودمار. وكم كان قلبي يخفق لهم خشية أن تنهكهم الحرب الطويلة، كما كان يريدها جميع الغربيين... وروسيا أيضاً، رغم أنّها كانت تساعدهم... وبعض العرب ويا للأسف!
و«صدّام حسين» ولا شكّ قد نجح في صدّ هجوم إيران الشرس على كلّ العرب، ونحن نالنا منه الشيء الكثير في لبنان. وأنا أعتبر أنّ العراق أوقف هجوم إيران «الخميني»، الذي كان يقوم تحت ستار زائف من الدين، وهو تيّار همجي تدفّق على العرب والمسلمين جميعاً، وتأخذ به للأسف تيّارات إسلامية جاهلة تحت شعار «لا إله إلّا الله» الذي لا يفقهون منه شيئاً، وهو كاد لا يتوقف من الخليج حتى الأطلنطيك... وأنا أعني ما أقول، والعياذ بالله، فمثل هذا التيّار «التتري» لا يمكن لأيّ قوّة أن توقفه، حتى ولا أسطول أميركا ودبّاباتها وطائراتها! فـ«صدّام» وقف سدّاً منيعاً يحارب عن الأمّة العربية وقوميتها فسدّ عليهم بوّابتهم الشرقية. ربّما أطلت في هذا، ولكنّه شعورٌ كان مكبوتاً عندي طيلة هذه السنوات المفزعة.
وبعد هذا، كان حديث طويلٌ عن شؤون لبنان وشجونه، وأنا أسمع منذ أمد أصواتاً عراقية تقول: «انتظرونا وستكون مساعدتنا لكم في لبنان على كلّ صعيد، ولو لزم الأمر أن يكون ذلك عسكرياً، فنمنع عنكم أيّ عدوان أو خطر». وكان ردّي دائماً أنّ هناك قولاً مأثوراً عندنا في لبنان وفي سوريا، أنتم العراقيون طبعاً لا تسمعونه فنحن نقول: «إلى أن يأتي الترياق من العراق يكون المريض فارق» فالزمن يسرع، ولبنان يسير كلّ يوم في دروب الهاوية، أي إلى التفتيت المروّع الذي لن ينجح بعد أيّ ترياق فيه، فإذا استمرّ الفراغ الدستوري القائم اليوم، وفيه حكومتان تتنازعان الشرعية، وبدون رئاسة جمهورية شرعية، فإنّ كلّ يوم يمضي نقترب فيه من الهاوية والتفتّت المحتوم الذي ترقص له تل أبيب، وتفرح به إسرائيل.
من هذا المنطلق، رحت أسعى جاهداً منذ إطلاق ندائي للملوك والرؤساء العرب، فأتّصل بأكثرهم وأحثّهم على سرعة العمل. ورغم ما هو معروف من شعوري تجاه النظام السوري، فأنا أسعى للتوصّل إلى رئيس مقبول من المسلمين والمسيحيين وخصوصاً، وطبعاً، من سوريا التي لا يمكنها أن تأتي هي برئيس، وقد فشلت في ذلك فشلاً ذريعاً مرّتين، ولكن في مقدورها أن تمنع انتخاب أيّ رئيس لا ترضى عنه، وقد قلت لطارق: «أنا مثلكم، وعلى الرغم من تمسّكي بالمبادئ أجنح إلى «البراغماتية» في بعض الظروف التي لا بدّ منها». وقد وجدت عنده تفهّماً تامّاً، أكثر ممّا كان عند حديثي معه يوم جاءني قبل شهرين ووعد بأن ينقل ذلك للرئيس «صدّام حسين». وقد اتّفق معي على أن يجروا اتّصالاً في العراق بالملك «فهد»، وأعطيته الأسماء الأربعة التي نتداولها، وطلبت منه أن يتعاونوا معنا على ذلك، فوعد أن يبذلوا أكبر المساعي في هذا المجال، كما وعد أن يسعوا مع «القوّات اللبنانية» و«سمير جعجع» في التجاوب لاختيار واحد منهم، وهم «ميشال إدّه» و«بطرس حرب» و«ميشال الخوري» و«مانويل يونس». وربّما «ميشال الخوري» هو أقرب من يمكن التوافق عليه، ولا سيّما أنّي لمست من الملك «فهد» أنّه يرغب فيه.
وكنت في هذه الأيّام على اتّصال مستمرّ بالبطريرك في روما - الفاتيكان - كما اتّصل بي المرشح «ميشال إدّه» من باريس، و«بطرس حرب»، فكنت في كلّ حديث أفهّم إخواننا الموارنة أنّ الخاسر الأكبر، إذا تفتّت لبنان، ولم نحافظ على شرعيته، هو أنتم. كذلك كان تواصلي مع «الحريري» مستمرّاً، وكنت أشرح له كلّ ما يجري معي، لينقله للملك «فهد» حتى نشجّعه على الثبات في موقفه الذي وعدني به بأنّه سيحاول إقناع سوريا.
كذلك اتّصل بي الدكتور «ألبير مخيبر» وكان حوله فريق من النوّاب الموارنة، ومنهم طبعاً مرشّحون، وقال إنّهم جميعاً ينتظرون وصول البطريرك بعد يوم. فقلت له: «يجب أن تفهم أنت وكلّ من حولك أنّ البطريرك لن يأتيكم بالمنّ والسلوى في وعاء من السماء، فكلّ ما لديه هو أن يبلغ الموارنة أنّه يجب أن يتعّقلوا في الظرف الدقيق الذي يمرّ به لبنان، وأنّهم مع جميع مسيحيي الشرق سيكونون من المتضرّرين إذا تركوا لبنان يتقسّم»، وكان «الحريري» يطّلع منّي على كلّ هذا التحرّك وينقله للملك «فهد».
وأخيراً تغدّى عندي «داني شمعون» الذي زارني هنا قبل سنة أو سنتين، وقد سُررت بهذا اللقاء كثيراً إذ وجدت عنده تفهّماً واعياً وتفكيراً ناضجاً توافق مع تفكيري تماماً. وعلى الرغم من أنّه من أبرز المرشّحين الموارنة للرئاسة، ولا سيّما بعد أن ورث الزعامة عن والده وأصبح رئيساً لحزب الوطنيين الأحرار، فهو لا يتمسّك بترشّحه شخصياً مثل الآخرين، بل يسعى معنا لإيصال شخصٍ يمكن التوافق عليه بين المسلمين والمسيحيين، وسوريا، والعرب. وذكر لي أنّه قادم من بغداد، وأنّه موافق على ما ذكروه له من عرض أربعة أسماء ليس فيها اسمه، وهي نفس الأسماء التي ذكرتها لـ«طارق عزيز» الذي وعد أن يسعوا بها مع «القوّات اللبنانية» ومع الملك «فهد».
وكانت أحاديث طويلة مع «داني»، وفي الحقيقة وجدت عنده نضوجاً في التفكير والتعبير لم يكن عنده من قبل، وقد تنزّه عن رغبته الخاصّة، وهذا نادر عند العاملين في السياسية، ولا سيّما عند إخواننا الموارنة، بل وعند اللبنانيين جميعاً.
وهو صيّاد قديم، ورث ذلك منذ الطفولة عن والده، فكان الحديث بيننا جامعاً، فالصيّاد يبقى صيّاداً قبل أن يكون سياسياً أو صاحب أيّ مركز. وهكذا وجدت «داني» يتحلّى بروح الصيّاد الرياضية والمنفتحة، ولا أبالغ حين أردّد أنّي أعجبت برجولة داني هذه المرّة وسُررت جداً من زيارته.