بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 آب 2022 08:15ص أسرار الانتخابات الرئاسية في مذكرات صائب سلام (٥)

رفضتُ عرض أنطون سعد بعودة شهاب إلى الرئاسة مقابل ضمان رئاسة الحكومة.. شمعون وإدّه أيّدا فرنجية وكرامي لم يكن راغباً بسركيس وجنبلاط انضم إلينا عبر الفلسطينيين

حجم الخط
الإبحار مع مذكرات الرئيس صائب سلام هو في الواقع غوص في ثنايا تاريخ دولة الاستقلال، وما ميّزها من نجاحات باهرة حيناً، وما صادفها من كبوات موجعة وتحديات صارخة أحياناً. ذلك أن هذه المذكرات خرجت عن الصيغة التقليدية للسيرة الذاتية، وإهتم صاحبها بتأريخ لحظة الحدث أكثر من تركيزه على الرأي الشخصي أو الترويج لموقف سياسي، وهي بذلك تبقى مرجعا للباحث، وزادا للسياسي الصاعد، ومصدر إلهام وخبرة للأجيال الناشئة. 
من «لبنان واحد لا لبنانان»، في زمن الإنقسامات في الخمسينيات، إلى صيغة «التفهم والتفاهم» في زمن الصراعات وإنقطاع الحوارات في السبعينيات والثمانينيات، إلى الحرص على «لبنان الواحد بجناحيه المسلم والمسيحي» في زمن الإنتخابات العرجاء في مطلع التسعينيات. محطات لها تاريخ في مسار الوحدة الوطنية التي كان صائب سلام أبرز رموزها على مدى نصف قرن ونيّف.
ليس سهلاً الإحاطة، بهذه العجالة، بسفرٍ من ثلاثة أجزاء ويضم ألف وسبعمائة صفحة، فكان لا بد من إختيار محور واحد يتناسب مع الأحداث التي يعيشها لبنان حالياً، وهل ثمة أنسب من محور الإنتخابات الرئاسية، والبلد اليوم يعيش أجواء الإستحقاق الرئاسي في مرحلة من الإضطراب وعدم الإستقرار.
الحلقات ستغطي تباعاً أسرار الإنتخابات الرئاسية من إستقالة الشيخ بشارة الخوري إلى إنتخابات الرئيس إلياس الهراوي، وما تخللها من مناورات وصفقات وكرّ وفرّ هي من سمات المعارك الإنتخابية في لبنان. 

الاستعداد للانتخابات الرئاسية... هل يعود «شهاب»؟

أمضيتُ طوال يوم الأربعاء في 28 تموز/يوليو في اتّصالات ولقاءات انتخابية، للتوفيق بين وجهات نظر «الحلف الثلاثي» ووجهة نظر «كمال جنبلاط». وفي هذا السبيل، اجتمعت طويلاً بـ«شوكت شقير»، ثمّ بـ«كاظم الخليل»، ثمّ دعوتُ إلى اجتماعٍ مسائيّ، حضره العديد من النوّاب والفعاليات، ومن بينهم «كامل الأسعد» و«كمال جنبلاط» و«تقيّ الدين الصلح». وخلال ذلك الاجتماع، استعرضنا العديد من الأسماء المرشّحة، ثمّ فجأة ومن دون مقدّمات، طرحتُ اسم «سليمان فرنجيّة» - للمرّة الأولى على الأرجح - فما كان من «كمال جنبلاط» إلّا أن تراجع من فوره مستنكراً الأمر. تجاوزتُ الموضوع ولم أجب، ولم أحبّ أن أحدّد الأمر أكثر من ذلك، أمّا هو من جهته، فقد عرض عدّة أسماء كان بعضها مقبولاً، مثل اسم «فؤاد عمّون». في النهاية، اتّفقنا على أن ننتظر لنرى كيف سيتطوّر الأمر مع «الحلف الثلاثي»، وأن ننتظر الاجتماع الذي دعا إليه «جوزف سكاف» بعد يومين. وفي الوقت نفسه بلغَنا أنّ «يوسف سالم»، بالاتّفاق مع «رينيه معوّض» و«غابي لحّود»، رئيس «المكتب الثاني»، بدأ يدعو النوّاب إلى الاجتماع في اليوم التالي، وأنّ دعوته شملت نائبَي الضنيّة رغم عدم تماشيهما معهم، ومن هنا تبيّن أنّهم باتوا على شعور بالضعف، ما جعلهم مستعدّين لأيّ تنازل لأيّ نائب آخر.
ومن جهتنا تعدّدت اجتماعاتنا، وكان مأزقنا أنّنا، رغم اتّفاقنا على ضرورة التخلّص من الحكم القائم، لم نتمكّن من الاتّفاق على مَن سنأتي به، فـ«شمعون» غير مقبول عربياً، و«بيار الجميّل» لا يحظى بالإجماع، و«إدّه» بدأ ينفرط عقد المؤيّدين من حوله. فماذا نفعل؟ هنا كان اقتراح وجيه تقدّم به «شوكت شقير»، وهو أن نطلب من كلّ الفعاليات المارونية الحليفة لنا أن تجتمع وتتّفق على مارونيّ مناسب نؤيّده نحن بالتالي، لكنّ هذا الاقتراح ما لبث أن تلاشى.
بعد ذلك، خلال اجتماعاتنا مع «كمال جنبلاط»، بدا الأمر وكأنّه استقرّ على مرشّحَين لا يوافق هو على أحدهما (حبيب كيروز) ولا نوافق نحن على الثاني (الجنرال جميل لحّود)، وعادت الأزمة تطلّ برأسها. ومع هذا، رحنا نسعى جدّياً لترشيح «حبيب كيروز»، خصوصاً أنّ استمزاج رأي «سليمان فرنجيّة» في الأمر بعد عودته من سفر طويل قاده إلى موسكو وبلجيكا، كشف عن تحبيذه للفكرة. أمّا بالنسبة إلى «فؤاد شهاب»، فإنّه تلقّى تلك الآونة بالذات دعماً كبيراً، تمثّلَ في ما نُقل عن الرئيس «عبد الناصر» - عن طريق سفير مصر الذي بلّغ الأمر لـ«نسيم مجدلاني» - من أنّه يؤيّد عودته. ومع هذا، فإنّ أركان السفارة نفوا ذلك، وكذلك فعل «حسن صبري الخولي» كما أخبرنا «كمال جنبلاط» الذي التقاه في المطار، مضيفاً أنّ «الخولي» طلب إليه أن يتوجّه إلى مصر لمقابلة «عبد الناصر» يوم الخميس، لكنّ يوم الخميس كان متأخّراً بالنسبة إلينا، لأنّ «صبري حمادة» كان قد قابل «فؤاد شهاب» وعاد إلى المجلس ليبلغ الجميع بأنّه ربّما يعيّن جلسة الانتخاب آخر الأسبوع. أمّا من ناحية «شهاب»، فكان لم يزل حتى ساعتها ممتنعاً عن إعلان ترشيحه. البعض يقول إنّها مناورة، أمّا أنا فكان اعتقادي أنّه حقاً لن يترشّح إلّا إذا وفّروا له مسبقاً أكثرّية محترمة. وفي جميع الأحوال كان يبدو واضحاً أنّ جمع مثل تلك الأكثرية غير ممكن. غير أنّ هذا لم يمنع الاتّصالات معي من أجل إعلان موقف إيجابيّ من «شهاب»، فكان جوابي الوحيد: «فليعلن بصراحة أنّه مرشّح وأنا مستعدّ عند ذلك لكلّ حوار، ولكن على الأسس والمبادئ التي مشينا عليها حتى حينها».
إلى ذلك الحين، كان «الحلفيون» لا يزالون ينظرون بعين الجدّية إلى ترشيح «بيار الجميّل»، ولكن فجأة بدأوا يشعرون بأنّه لم يعد بإمكانهم أن يتمسّكوا به طويلاً، وأخذوا يفاوضون «الكتائبيين» على أن يتخلّى الجميع لصالح مرشّح آخر يمكنه أن يأمل جمع الأصوات اللازمة. وكان اسم «شمعون» في ذهنهم، لكن حين فاتحوني بالأمر استبعدتُ الفكرة كلّياً. من ناحيته، أخبرني «جنبلاط» مساء يوم الأربعاء بأنّه كان في اجتماع حزبيّ قرّر أن يدعم الجنرال «لحّود» حتى النهاية ومهما كانت النتيجة. لم أعلق على الأمر كثيراً، بل استفدتُ من مزاج «كمال جنبلاط» المرح والمنفرج عند ذلك المساء، واقترحتُ عليه أن يجتمع بـ«سليمان فرنجيّة» عندي في البيت. وبالفعل، حضر الاثنان إلى بيتي عند المساء، وكان ذلك أول لقاء بينهما بعد طول جفاء، فكانت النتيجة أن أثار اللقاء ضجّة كبيرة في البلد، والحقيقة أنّ الاجتماع الذي دام نحو ساعة كان ودّياً، تطرّقنا فيه إلى بحث العديد من الأمور، ومن بينها التوتّر القائم آنذاك بين الفدائيين الفلسطينيين و«عبد الناصر»، وهنا أخبرني «جنبلاط» بأنّ الفدائيين طلبوا منه أن يتوجّه إلى مصر لمقابلة «عبد الناصر» وإقناعه بمواقفهم، عند ذلك أخبرت «جنبلاط» بأنّ ممثّل «عبد الناصر» «حسن صبري الخولي» آتٍ من دمشق ومعه رسالة له من «عبد الناصر»، يطلب إليه فيها أن يؤيّد «شهاب»، فانتفض «جنبلاط» واستنكر ذلك، ثمّ قال إنّه على أيّ حال سوف يُفهِم «الخولي» حقيقة الوضع، وأنّه ليس بإمكاننا أن نؤيّد «شهاب» في أيّ حال من الأحوال. ومن جهته، أخبرني «جنبلاط» بأنّ أوساط «المكتب الثاني» تقول إنّهم حصلوا على 15 مليون ليرة دعماً من السعودية للمعركة الانتخابية، وأنّهم بدأوا يوزّعون بعض المال على بعض الفعاليات. وانتهى الاجتماع وسط مناخ في منتهى الودّ بين «فرنجيّة» و«جنبلاط»، ما سيكون له بالتأكيد تأثير إيجابي كبير على أوضاعنا، وفعل القنبلة على نفسية خصومنا الذين كانت قوّتهم الأساسية تقوم على تمزيق صفوفنا.
في سياق هذه المحاولات، اتّصل بي «ناظم القادري» وأبلغني رسالة من «فضل الله دندش»، العامل مع «الشهابيين»، فحواها أنّ «أنطون سعد»، من «المكتب الثاني»، يريد الاتّصال بي لمناقشتي في بعض الأمور، وبعد أخذ وردّ اجتمعتُ بـ«سعد»، ومعه «دندش» و«القادري»، في بيتي بالدوحة. وكانت خلاصة الحديث أنّ «شهاب» يريد إنقاذ البلد، لكنّه لا يمكنه ذلك إلّا إذا تحالف مع الجناح الإسلامي، وبالتحديد مع «صائب سلام».
عدنا إذن إلى الأسطوانة نفسها، أسطوانة أنّني إذا أيّدت «شهاب» أضمن رئاسة الحكومة. وهنا وجدتُ لزاماً عليّ أن أعود، أنا نفسي، إلى تكرار أسطوانتي التي يعرفونها: أفهمتهم أنّني لست ممّن يتطلّعون إلى رئاسات أو كراسيّ، وأنّ همّي أن يقوم البلد على أسس صحيحة حتى يرتاح الرأي العامّ والشعب. وأفهمتُهم، خصوصاً، أنّ لديّ أصدقاء مثل «كامل الأسعد» و«جوزف سكاف» أتعاون معهم ولا أريد أن أنفصل عنهم في أيّ حال من الأحوال. وهنا لمّحوا إلى أنّ رئاسة المجلس ستكون مضمونة لـ«الأسعد»، فكرّرت أنّ المسألة ليست مسألة كراسيّ. وطال بحثنا للأمور، وكان «سعد» يردّد أنّه إنّما أتى حاملاً منديل السلام الأبيض وليس من حقّي أن أردّه هكذا! فقلت له: «ليست المسألة مسألة منديل أبيض أو أسود، المسألة مسألة مبادئ وشعب ووطن». وهنا قال «ناظم القادري»: «للبحث صلة وسنعاود الحوار»، فقلتُ إنّ حواري الأساسي هو مع رفاقي، فقال «سعد»: «نحن لا نعرف غيرك... أنت القوّال وهم الردّادون».
وانتهى الاجتماع وهم يأملون أن يتمكّنوا من استمالتي، أمّا أنا، فكنتُ أفضّل أن أبقى معارضاً شرط أن أحافظ على كرامتي وكرامة الشعب. ومن ناحية ثانية، كان هناك جديد أساسيٌّ قد طرأ في ذلك اليوم بالذات، فالفكرة التي طرحتُها ذات يوم عَرَضاً على «كمال جنبلاط»، بدأت الآن تأخذ طريقها... وها هي الصحف تتحدّث عن إمكانية ترشيح «سليمان فرنجيّة»، الذي بات يمكن القبول به من ناحية «الحلفيين»، كما من ناحية «كمال جنبلاط».
أنا شخصياً، رغم حبّي وتأييدي لـ«سليمان»، كنت أعلم على أيّ حال أنّ الذين كانوا ينادون به هم أنفسهم الذين يُبدون خوفهم من ألّا يكون كفوءاً لرئاسة الجمهورية بسبب عدم ثقافته، ولأنّه لم يتجاوز حتى حينها كونه نائباً عن ضيعته. وإضافة إلى هذا، كنت متحفّظاً جدّاً تجاه تصرّفاته، وعناده الذي يمكن أن يوصله إلى الشطط، إضافة إلى خشيتي من بوادر التعصّب الطائفي التي كانت قد بدأت تظهر لديه في الآونة الأخيرة، والتي يمكن أن تزداد حدّةً بعد وصوله إلى الحكم، إذا وصل، حيث إنّ نظْرته إلى المسلمين والعرب باتت جافّة، إن لم أقل عدائية.
أمّا بالنسبة إلى التدخّلات الخارجية فيمكن عند هذا المنعطف تسجيل ثلاث ملاحظات:
• أوّلها، تكرار زيارة السفير الجزائري لي ومحاولته التوفيق بين وجهات نظرنا المتعارضة والدفاع عن المواقف الفلسطينية، إضافة إلى مواصلة «أبو يوسف» (من فتح) العمل معنا، مقابل أن نحاور «عبد الناصر» باسم «فتح».
• الملاحظة الثانية، جواب أتى من السعوديين فحواه أنّهم لم يروا ضرورة أن يتدخّلوا في المعركة، بعدما كانوا شديدي الحماسة لذلك أول الأمر، وفي الوقت نفسه كان «كميل شمعون» قد بعث ابنه إلى السعودية آملاً معاونتهم له.
• أمّا الأمر الثالث والأهمّ، فكان ما نقَله لي «جنبلاط» من أنّه اجتمع بـ«حسن صبري الخولي» في بغداد، فأبلغه الأخير أنّ مصر لا تؤيّد «شهاب» ولا «الشهابية». في جميع الأحوال، عرفتُ أنّ القاهرة أرسلتْ في الآونة الأخيرة ثلاثة رسميين إلى لبنان، بينهم «محمّد نسيم»، المطّلع على أحوال المنطقة وتفصيل الوضع اللبناني، وكانت مهمّة البعثة دراسة الرأي العامّ اللبناني وموقفه من قضيّة الانتخابات المقبلة.
بقي أن أذكر في هذه المناسبة ما نقله إليّ سفير الجزائر عن السوريين، وعلى لسان «نور الدين الأتاسي»، من أنّهم ليسوا موافقين، في أيّ حال من الأحوالّ على عودة «شهاب» رئيساً للبنان، وأنّهم سيحاربون مثل هذه الفكرة بكلّ قوّتهم.

مناورات ومشاورات قبل ترشيحنا «فرنجيّة»

إذن، كانت تلك هي الصورة يوم الأول من آب/أغسطس 1970: شدّ وجذب تأييداً أو مقارعة لعودة «شهاب» إلى الحكم، وبدْء ترسّخ فكرة أن يكون «سليمان فرنجيّة» هو مرشّح المعارضة، مع موافقة «جنبلاط» الضمنية على ذلك، وموافقتي أنا أيضاً، رغم تحفّظاتي على «سليمان فرنجيّة». ويبدو أنّ انتشار فكرة ترشيح هذا الأخير، جعل «الشهابيين» يعتقدون أنّنا لم نكن جادّين في الأمر، وأنّنا كنّا نطرح اسمه لأنّنا مرتبكون ولسنا قادرين على إيجاد مرشّح قويّ وحقيقي. ولمّا كنت أنا هدف تحرّك «الشهابيين» الأساسي، لذلك عادوا يتّصلون بي، وعاد «سامي الخطيب» للتحرّك طالباً مقابلتي عن طريق العديد من الفعاليات المحليّة، مثل «محمود الحكيم» و«عبد الحفيظ كريدية» وغيرهما، ومن جهة أخرى، كان «ناظم القادري» يشدّد الضغط عليّ لحساب «فضل الله دندش» ومن ورائه «أنطوان سعد»، اللذين يبدو أنّه خُيّل إليهما أنّ لقائي الأول معهما كان ناجحاً ويعِد باتّفاق قريب. أمّا أنا، فكان جوابي الوحيد: فليترشّح «شهاب» ولنبحث الأمر بعد ذلك.
وكان الشهابيون يتّصلون بـ«كامل الأسعد»، الذي اضطرّ أمام الشائعات العديدة التي دارت حول الموضوع إلى عقد ندوة صحافية نفى فيها أيّ اتّفاق معهم. ولكنْ كانت هنا مشكلة حقيقية، فلئن كنّا، «جنبلاط» وأنا، قادرين على تأييد ترشيح «سليمان فرنجيّة»، فإنّ «الأسعد» لم يكن قابلاً بذلك، واعتراضه له سببان:
• أولهما، موقف «فرنجيّة» من «المقاومة الفلسطينية» وصولاً إلى إقامته معسكراً لتدريب المقاتلين ضدّها في زغرتا.
• وثانيهما، ما يراه من عدم كفاءة «سليمان فرنجيّة» لشغل منصب رئيس الجمهورية.
لكن كان من الواضح لي أنّ هذا الأمر سوف ينتهي على خير، وأنّه ليس كفيلاً بإلقاء أيّ ظلّ على تحالفي مع «كامل الأسعد».
وفي الوقت الذي ازدادت فيه حدّة التحرّك، جاءني «أحمد إسبر» ليقول لي ما هو جديد حقاً، وهو أنّ «غابي لحّود» أخبره، بصورة قاطعة، بأنّهم إنّما يعملون للإتيان بـ«إلياس سركيس» رئيساً للجمهورية، لأنّ «شهاب» ليس وارداً، وهو نفسه لا يقبل. وأنا كنتُ فهمت شيئاً من هذا على لسان «أنطوان سعد»، الذي كان قد أكّد لي أنّ «شهاب» لن يترشّح إلّا إذا ضمن نوعية ناخبيه، قبل أن يضمن عددهم.
ولعلّ هذا ما دفع «رشيد كرامي» إلى التوجّه للقاهرة لاستطلاع رأيها النهائي في الأمر، بعدما تقاربت الآراء والتحليلات بصدد الموقف المصري، ولقد سبقتْ عودة «رشيد كرامي» إلى لبنان شائعات وأخبار عن أنّه لم يلقَ في زيارته لمصر سوى الفشل.
والمؤكّد أنّ فشل رحلة «كرامي» القاهرية كان السبب المباشر لخروج «شهاب» عن صمته أخيراً وإصداره، ليلة الثلاثاء 4 آب/أغسطس، بياناً أعلن فيه عزوفه عن ترشيح نفسه، لأنّ المؤسّسات، على حدّ قوله، «لم تعد تحتمل، ولأنّ الوضع العامّ مهترئ والاقتصاد متدهور...». كان واضحاً أنّه يريد عبر بيانه أن يهوّل على مَن سيقبل الترشيح، وكأنّ لا أحد يمكنه إصلاح الأمور.
كثيرون طلبوا منّي أن أعلّق على بيان «شهاب»، لكنّني رفضت. المهمّ كان بالنسبة إليّ، أنّ علينا أن نتحرّك على نور، وأن نعرف من هو خصمنا الحقيقي، لنعرف إلى من سينتهي اختيارنا. وكان لدينا في الواقع عدّة مرشّحين، من بينهم «ريمون إدّه» بالطبع، الذي كان ترشيحه يَلقى معارضة أساسية من «كمال جنبلاط». أمّا مرشحنا الأوفر حظاً فكان يبدو «سليمان فرنجيّة»، رغم أنّني أنا شخصياً كنت لا أزال راغباً في أن يكون «ريمون إدّه»... فـ«سليمان» لن يكون، في جميع الأحوال، من القوّة بحيث يعرف كيف يتصدّى جدّياً للأجهزة التي ستظلّ تحاول السيطرة على الحكم، مهما كانت هويّة الرئيس المقبل.
وفي سياق عملي لصالح «إدّه»، نجحتُ يوم 6 آب/أغسطس، في جَمعه بالسفير الجزائري «شهاب طالب»، الذي كان يرفض لقاءہ في البداية رفضاً كاملاً. ولمّا كنت أعرف ما للسفير الجزائري من تأثير على القوى التقدّمية في البلد، وخاصّة على «كمال جنبلاط»، كان اجتماع «إدّه» به ضرورياً. والحقيقة أنّ الاجتماع كان طيّباً ودام حوالي ساعتين. وفي اليوم التالي، اجتمعت بـ«جنبلاط» الذي كان يستعدّ لزيارة القاهرة لبحث قضيّة الوجود الفلسطيني، فطلبتُ منه أن يقنع المسؤولين في القاهرة بألّا يعترضوا على أحد، ممّا يعطينا حرّية التصّرف وحرّية الحركة. وكان ذهني خلال ذلك كله متّجهاً صوب «إدّه»، لأنّني مقتنع بأنّه الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يبدّل الأوضاع، وأن يكون رجل دولة مسؤولاً.
... واقترب موعد الانتخاب، وتواصلت المناورات والمشاورات ليلاً ونهاراً. وراحت المواقف تتقلّب والأعصاب تتشنّج. وفي يوم 14 آب/أغسطس رشّح «كميل شمعون» نفسه رسمياً عبر بيان مسهَب كان فيه ما يرضي الوضع العربي، وكذلك الوضع اللبناني بالطبع. وكان للبيان ردّ فعل كبير في لبنان، أمّا ردّ فعل «النهجيين» فكان قاسياً، وعبّر عنه كثيرون، منهم «رشيد كرامي» و«عبد الله اليافي» و«عدنان الحكيم» و«عثمان الدنا» وغيرهم، أمّا أنا فأردتُ أن أكون متحفّظاً في ردّ فعلي، وخصوصاً أنّني كنت غير راغب في أن أصرّح سلباً أو إيجاباً تحت وطأة أيّ انفعال. كان موقفي المبدئي هو التريُّث في انتظار التشاور مع الزملاء الرفاق قبل إعلان أيّ رأي في هذا الموضوع، وهكذا رحتُ أكثّف الاجتماعات مع الرفاق الأقربين، ولا سيّما مع «كامل الأسعد» و«جوزف سكاف» اللذين لم يكونا أقلّ منّي انفعالاً، خشية من ردّ الفعل الذي سيُبديه «كمال جنبلاط»، علماً بأنّني كنت صلَة الوصل بينهما وبينه، وهدّأت من روعهما مؤكّداً لهما أنّه إن كان «جنبلاط» سينفصل عنّا بسبب ما قد يجدّ، فليكن هو نفسه مسؤولاً عن ذلك، إذ يُستحسن بنا ألّا نبادر نحن بأيّ رّد فعل سلبيّ تجاهه.
بعد ذلك، اجتمعت بـ«كمال جنبلاط» في بيت «شوكت شقير»، وكنت قد أرسلتُ له عن طريق أصدقائي من محازبيه محاولاً إقناعه بترشيح «ريمون إدّه»، خصوصاً بعدما رشّح «شمعون» نفسَه، وهذه المرّة وجدتُه منفتحاً، لكنّه قال لي إنّه لن يتّخذ موقفه (اليوم)، إذ عليه أولاً أن يستشير أركان حزبه وأصدقاءہ، ولقد لمستُ منه، على أيّ حال، بعض الميل لتأييد «ريمون إدّه». وكان «جنبلاط» على موعد للالتقاء بـ«رشيد كرامي» (في الغد)، وكان قد تسرّب إليّ أنّ «رشيد كرامي» مستعدّ لمؤازرة «ريمون إدّه»، وأنا من ناحيتي ما إن علمتُ بهذا حتى أرسلتُ لـ«كرامي» من يقنعُه بالمشي مع «إدّه» بعدما تخلّى «شهاب» عن مشروعه بالعودة، خصوصاً أنّني أعرف أنّ «كرامي» لم يكن راغباً في «إلياس سركيس».
كان يخامرني الانطباع بأنّ ذلك اليوم سيكون يوماً حاسماً، فقد أخبرني السفير المصري بأنّ القاهرة لا تقف موقف التأييد أو الاعتراض من أيّ مرشح، ومن ناحية «شمعون» كنت أحسب أنّه مستعدّ لتأييد «إدّه»، رغم أنّه هو نفسه مرشّح، بل هو مستعدّ لأن يقنع «الكتائب» بتأييد «إدّه»، و«شمعون» سرّب إليّ ذلك عن طريق «غسّان تويني»، فاستغربتُه بعض الشيء، لكنّني قبِلتُه على علّاته، وصار عليّ الآن أن أحسم الأمور بين «ريمون إدّه» و«سليمان فرنجيّة»، وأن أقنع «كمال جنبلاط» بذلك، علماً بأنّه بات شبه مؤكّد أنّ «النهجيين» سوف يرشّحون «إلياس سركيس».
لم يكن «إدّه» هو المرشّح الأمثل بالنسبة إليّ، لكنّه الأفضل بين كلّ الأسماء المطروحة، إذا استثنينا مرشّحاً من الخارج هو الشيخ «فريد الدحداح».
كان اليوم التالي، 15 آب/أغسطس، يوماً حاسماً، وكان يوم سبت، ولم يبق على موعد جلسة الانتخابات سوى يومين. ومن هنا اختلطت الأمور أكثر وأكثر، وبات شبه واضح لنا أنّ «كرامي» و«جنبلاط» اتّفقا على أن يكون الشيخ «فريد الدحداح» مرشّحهما. لم يكن لي اعتراض عليه، لكنّني كنت أريده مرشّح تسوية لا مرشّح معركة، والفارق بين الحالتين كبير! أمّا «جنبلاط» فقد تشبّث بموقفه، وجاء ليقول لي إنّنا إذا لم نوافق معه على «الدحداح»، فإنّه سيكون مضطرّاً لقطع الطريق على «شمعون»، وللانضمام إلى «النهجيين» وانتخاب «إلياس سركيس». طلبت منه أن يتروّى حتى الغد، لكنّه أخذ يضغط بشكل كان من الواضح منه أنّه يريد أن يحشرنا، ومع ذلك استخدمتُ التروّي معه، وكنت أعلم أنّ أيّاً من الأمور لن يُحسم نهائياً اليوم، وأنّ اللعبة كلها سوف تُلعب غداً، الأحد.

«فرنجيّة» رئيساً

وبالفعل، جاءت التطوّرات الأساسية يوم الأحد، وكانت مدهشة، أوصلتنا إلى انتصار مفاجئ لم نكن نتوقّعه.
بدأ الأمر منذ الصباح، خلال اجتماع «تكتّل الوسط»، حيث قرّر «التكتّل»، ترشيح «سليمان فرنجيّة»، خلافاً لما كان «كمال جنبلاط» يتوقّع. وانفضّ ذلك الاجتماع على أساس أن تجتمع لجنة خماسيّة، منّي ومن «كامل الأسعد» و«جوزف سكاف» و«سليمان فرنجيّة» و«حبيب كيروز»، بعد الظهر، بـ«كمال جنبلاط». وبالفعل، جاء «جنبلاط» بعد الظهر وراح يبدّل مواقفه، بمعدّل موقف في الدقيقة، فمرّة يطرح اسم «الجنرال لحّود» ومرّة يقول إنّه يسعى لمرشّح تفاهم، وثالثة يقول إنّه في حال استمرار «شمعون» سوف يضطرّ لتأييد «إلياس سركيس»، ترَك الجلسة وهو لا يقرّ له قرار، فتداولنا الأمر بحزم، ثمّ اتّخذنا القرار النهائي بترشيح «سليمان فرنجيّة». وكان ذلك بعدما حلّلنا الأوضاع ووضعنا كافة الحسابات والاحتمالات، وطرحْنا جانباً كلّ تحفّظاتنا تجاه «فرنجيّة». ثمّ، لجعل ذلك الترشيح نهائياً ورسمياً، دوّنّا وثيقة بذلك ووقّعناها جميعاً، نحن الخمسة أولاً، ثمّ «نسيم مجدلاني» الذي استدعيناه من الجبل، فلمّا تردّدَ أرسلنا له «إلياس سابا» فأحضره. وبعد ذلك توجّه «سليمان فرنجيّة» إلى «شمعون» الذي تنازل له ووقّع الوثيقة، ثمّ وقّعها الأخَوان «عبد المجيد وعبد اللطيف الزين».
وكان للخبر وقْع الصاعقة في البلد، أمّا «كمال جنبلاط» فقد سارع إلى الاتّصال بي معاتباً... فناقشتُه في الأمر. وبعد ذلك، حين علم «جنبلاط» بأنّ «شمعون» أيّد «فرنجيّة» وأنّ «ريمون إدّه» فعل الشيء نفسَه، سارع إلى الاجتماع بأركان حزبه والقوى التقدّمية واليساريين والشيوعيين، ثمّ التقوا جميعاً بـ«إلياس سركيس» أكثر من ساعتين، وكانت أخبار الاجتماع تتوالى إليّ، وأحسستُ في لحظة أنّ «جنبلاط» بات على وشك إعلان تأييده لـ«سركيس»، فما كان منّي إلّا أن أرسلتُ لقادة «المقاومة الفلسطينية» أخبرهم بالأمر وطالباً منهم أن يضغطوا عليه. ثمّ اتّصلتُ بـ«شوكت شقير» للغاية نفسها. وأعتقد أنّ هذا كله قد فعل فعله، إذ خرج «سركيس» من عند «جنبلاط» غير متّفق معه، وبتّ شبه واثق من أنّنا سنكسب المعركة، خصوصاً أنّنا، تحسّباً لأيّ طارئ، طلبنا من الشيخ «فريد الدحداح» أن يتّصل بـ«جنبلاط» ليخبره أنّه ليس مرشّحاً وأنّه يؤيّد «سليمان فرنجيّة». وبعد ذلك ذهب إليه «عبد اللطيف الزين» و«نسيم مجدلاني»، فعادا من عنده برسالةٍ لي ولـ«سليمان فرنجيّة» تتضمّن... تهنئة لـ«فرنجيّة» بالفوز. ومع هذا طلب «جنبلاط» أن نصبر عليه قليلاً ريثما يجتمع بأعضاء «جبهة النضال» ليتّخذوا الموقف النهائي.
وتمّ كلّ شيء كما كنّا نريد، وجرت الانتخابات يوم 17 آب/أغسطس، وكان الفوز من نصيب مرشّحنا «سليمان فرنجيّة»، وفي ذلك انتصار كبير لنا، كلّل جهودنا وصراعنا الطويل مع «المكتب الثاني».
أمّا أنا، فبعد نجاح «سليمان فرنجيّة»، شعرت بشيء من الراحة، ولكنّني شعرتُ أيضاً بأنّ ثمّة معارك جديدة تنتظرني.