بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 تشرين الأول 2019 06:10ص البراغماتية القاسية في أبهى مظاهرها اللبنانية: الفوضى التي تدرّ النفوذ والمال!

بعض الحكم أكثر الدافعين لإستدامة الفوضى وإستدراج الحراك من العفوية الى الاستثمار السياسي

حجم الخط

الاحياء المعلن للمواجهة بين المحورين الملتحقين بالمحورين الاقليميين هو استعادة للانقسام السياسي في العام 2005

إختار الرئيس الأسبق للحكومة فؤاد السنيورة أن يكون أول المبادرين الى تبنّي الوجه السياسي للحراك الثوري، بدعوته المتظاهرين الى «الاستعداد الى تحرك طويل أمد»، في تعقيبه على الإطلالة التلفزيونية للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله. هو بذلك أكّد ما بات مؤكّدا لجهة تدرّج الحراك من عفوية غريزية صافية أطلقها الفقر والعوز والجوع، الى مشروع سياسي واضح المعالم يحوز تمويلا سخيا داخليا (ثمة لائحة موثقة بأحزاب وجهات وشخصيات من مثل أحد النواب السابقين من رجال الأعمال والمستحوِذ حديثا على حزب سياسي عريق) وخارجيا عبر منظمات دولية تمويلها دوليّ بإمتياز.

أعطى خيار السنيورة، معطوفا على ما يتوالى من بيانات غربية وتصريحات أميركية حريصة على سلامة المتظاهرين، مشروعية لكل ما قيل وتردد في الأيام الأخيرة عن تسييس الحراك وتوظيفه في سياق مشروع ربط الساحات من بيروت الى بغداد. فكان رد المحور المقابل لافتا بتلقّف تلقائي لهذا الربط: تثيرون الفوضى في ساحات بيروت، فنثيرها في ساحات بغداد. وعندها فلتتواجه القوى ولتتحدد الموازين. 

ما يحصل في بيروت راهنا وجه من وجوه البراغماتية القاسية Ruthless Pragmatism التي تعني في قاموس علم السياسة التصرف بطريقة تسعى الى تحقيق التأثير المطلوب من طريق استخدام أي استراتيجية أو طريقة أو وسيلة متاحة، من دون النظر إلى أي آثار غير مرغوب فيها Collateral Damage على أي شيء أو على أي شخص آخر. ويعتقد منظرو هذا النوع من البراغماتية اللارحيمة أنها أمر أخلاقي ومبرر طالما أن الفوائد تفوق الخسائر.

لا يخرج كلام السيد نصر الله عن هذا السياق. ثمة إحياء معلن لمواجهة واضحة المعالم بين محورين لبنانيين ملتحقين بالمحورين الإقليمين المعروفين، هو في الحقيقة إستعادة للانقسام السياسي الذي أصاب اللبنانيين في العام ٢٠٠٥، وإعادة تفعيل لهذا الإنقسام، بما ينذر بمواجهة مفتوحة في حال أصر فريقي الصراع على المواجهة المفتوحة حديثا، مع إلتزام مبدئي بالخطوط الحمراء التي تلت إتفاق الدوحة (٢٠٠٨). 

تفترض البراغماتية القاسية توافر عناصر المواجهة، وهي متوافرة فعليا. فالساحات المفتوحة والمترابطة من بيروت الى بغداد تنطوي على كل تلك العناصر، العناصر المتفجرة إياها التي قسّمت اللبنانيين سابقا وجعلتهم وقودا في الحرب الإقليمية الباردة. تحركون الساحة اللبنانية فنرد لبنانيا وفي العراق. تصوّبون في السياسة والأمن فنردّ بالمثل. تهددون الاستقرار في بيروت، فنقوّض الاستقرار في العراق. تأسرون الحكومة هنا، فنعتقلها هناك. إنها حرب الساحات بإمتياز. 

أ- فهل يدرك الثوار هذا الواقع الأليم؟ بالتأكيد لا. فهؤلاء من الصعب أن يسلّموا بأن ثمة من يسرق آلامهم ويوظفها في السياق الإقليمي الكبير، حيث لا حسابات سوى المصلحة، ولا جوع سوى لصراع النفوذ.

ب - وهل يدرك أهل الصراع، وتحديدا أولئك الذين إستنفروا لإستثمار الغضب الشعبي، ما يفوّتون على البلد من فرص إنقاذ أخيرة قد لا تتكرر؟

لا يبدو ذلك. فهؤلاء بإطلاقهم النفير وإحيائهم الإصطفاف يدفعون لبنان المتأرجح عند الحافة، الى قهر الإنهيار، ويحيون العصبيات، يحللون الأدوات لتحقيق نصرهم النسبي بصرف النظر عن حجم الخسائر وكارثيتها. إنها الغاية التي تبرر الوسيلة، طالما أن الفوائد تفوق الخسائر. هي أرفع منازل البراغماتية اللارحيمة. 

ج - وهل يدرك اللبنانيون من الجالسين على الهامش أنهم أكثر من سيدفع ثمن إستعادة الصراع العشائري إستجابة لرغبات المحورين المتصارعين إقليميا، ما لم يبادروا الى التصدي الفعلي لمثيري الفتنة الخامدة، ولمموليها ومنظريها، ولأولئك الذين يكمنون في إنتظار اللحظة السانحة للإنقضاض على ما تبقى من مقومات الدولة وشظف خزينتها المتداعية؟

هامش أخير: ما يثير الإستغراب والإستهجان أن بعض أهل الحكم هو أكثر الدافعين لإستدامة فوضى الشارع، فقط في سبيل إستثمارها للإجهاز على ما بقي من مؤسسات رسمية تدرّ المال العام!