بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 تشرين الأول 2022 08:26ص العالم على شفير ربيع دولي على غرار الربيع العربي

حجم الخط
نعم، إن العالمَ أقحِمَ بربيع دولي على غرارِ الرَّبيعِ العربي، أعدَّتهُ وتُشرِفُ على تنفيذِه الإدارةُ الأميركيَّة، وبغيةَ تسهيلِ فهمِ المجرياتِ ومآلُ الأمورِ على المُستوى الدَّولي لا بدَّ من العودةِ إلى المرتكزاتِ التي أرستها نتائجِ الحربِ العالميَّةِ الثانيةِ حيث برزَ الاتِّحادِ السُّوفييتي كقوَّةٍ وازِنَةٍ (سِياسِيَّاً واقتِصادِيا وعسكرِيَّاً) مُناهِضَةٍ للهيمنةِ الغربيَّة. لم يَرُق للمُجتمعِ الغربي وفي مُقدِّمَتِهِ الولاياتُ المُتَّحِدةُ الأميركِيَّةُ سطوعُ نجمِ الإتِّحادِ السُّوفييتي في الفضاءِ الدَّولي كدولةٍ عُظمى تقومٌ على إيديولوجِيَّةٍ فِكرِيَّةٍ عَقائدِيَّةٍ مُتكامِلةٍ فلسَفِيَّاً وسِياسِيَّاً واقتِصادِيَّاً؛ هذا الفِكر الاشتراكيُّ الذي تبنَّتهُ الثورةُ البلشفيَّةُ، أخذَ يُشكِّلُ تهديداً للأنظِمةِ التي تتبنى في نُظمِها الديمقراطيَّةِ الغربيَّة، والذي أثارَ بانتشارُهُ قلقاً في أوساطِ المُجتَمعاتِ الغَربيَّةِ التي تُدينُ بالفِكرِ الليبرالي، وخاصَّةً بعد انقِسامِ العالمِ بين محورين شبه متوازيين (حلف شمال الأطلسي وحِلفِ وارسو)، وبدأ الحديثُ عن توازُنٍ في الرُّعبِ، بعد بناءِ كل محورٍ لترساناتٍ من الأسلِحَةِ النَّوويَّة، وشهِدَ المُجتمعُ الدَّوليُّ ما عُرِفَ بالحربِ الباردة، بعد أن أضحى اللجوءُ إلى الأسلِحةِ النَّوويَّةِ يُعتبرُ ضَرباً من الجنون، وبالتالي لم يعُد بالإمكان حَلُّ النِّزاعاتِ الدَّوليَّةِ باللجوءِ إلى الحُروب.
لم يُسلِّمَ المُجتمَعُ الغربي بهذه المعادلة، بل سعى جادَّاً إلى وَقفِ تَمَدُّدِ الفِكرِ الإشتراكي، فوجَدَ ضالَّتَهُ في استِغلالِ الدِّينِ لمُواجَهَةِ هذا الفِكرِ الذي يتعارَضُ مع الأديانِ السَّماويَّةِ في ارتِكازِهِ على عنصُرِ المادَّة كمَصدَرٍ لكُلِّ شيء في الكون. ووجدَت القوى الغربيَّةِ لها أرضاً خَصبةً لمناهضةِ هذا الفِكرِ لدى شعوبِ الدُّولِ الإسلاميَّةِ القريبةِ من الحُدودِ الجُغرافِيَّةِ للإتِّحادِ السُّوفييتي؛ فتبنَّت الولاياتُ المُتَّحِدةُ مَشروعَ وَقفِ تَمدُّدِ الفكرِ الإشتراكي، وأخذت تُروِّجُ إلى أنه يُشكِّلُ خَطراً داهِماً على الشُّعوبِ التي تعتَنِقُ أدياناً سَماوِيَّة، وتُحرِّضُ على مواجَهَةِ التَّمدُّدِ السُّوفييتي الذي يُروِّجُ لهذا الفِكرٍ الإلحادي، وأخذت تمَوِّلُ الحركاتِ الإسلاميَّةِ المناهِضَةِ له، مُستفيدةً من غزوِ الاتحادِ السُّوفييتي لأفغانستان، حيث رعت أميركا الحَركاتِ الإسلامِيَّةِ السَّلفيَّةِ المُناهِضَةِ لهذا الوجودِ وموَّلتها وزوَّدَتها بالأسلِحة، ومنها حركةُ الجهاديين والإخوانَ وتنظيم القاعِدة... الخ، وهذا ما يُفسِّرُ نشاطَ الحركاتِ الإسلاميَّةِ السَّلفيَّةِ والجِهاديَّةِ في كل من أفغانِستانَ وباكِستان وتُركِيَّا وإيران التي رعى الغربُ ثورتها الإسلاميَّةَ، وساعدَها على الإطاحةِ بحُكمِ الشَّاه، بدَعمٍ ورِعايَةٍ من الوِلاياتِ المُتَّحِدةِ الأميركِيَّةِ بصورَةٍ مُباشِرَةٍ أو غيرِ مُباشِرَة.
لم يكتفِ المُجتمعُ الغربي بقيادَةِ الولاياتِ المُتَّحِدةِ الأميركيَّةِ في لجمِ تمدُّدِ فكرِ الثَّورةِ البلشفيةّ، بل عمدَ إلى التَّضييقِ عليها بحيثُ أُثقلَت موازاناتُ الاتحاد السوفييتي بكلفةِ تَصنيع الأسلِحةِ ودعمِ الدُّولِ الإشتراكيَّةِ في أوروبا الشَّرقِيَّةِ والعالم الثالث، بحيث انعكسَ ذلك سلباً على الأوضاعِ المَعيشيَّةِ داخِلَ الكيانِ السُّوفييتي، وتسبب بانخفاضِ مُستوى الخدماتِ وجودةِ السِّلَعِ ونُدرةِ السِّلعِ الكماليَّةِ التي كانت المُجتمعاتُ الغربيَّةُ تنعمُ بها. استغَّلَّتِ الدُّولُ الغريَّةُ وفي طليعتِهم الولاياتُ المُتَّحِدةُ الأميركيَّةُ تولي ميخائيل غورباتشيوف، والذي عُرفَ بانفِتاحِهِ وأفكارِهِ التَّحرُّريَّة، رئاسةَ الاتحاد السُّوفييتي، لتقليب الشَّعبِ ضُدَّ النِّظامِ الإشتراكي، ونجحوا في دفعِ شعوبِ الدُّولِ المنضويةِ فيه إلى المُطالَبَةِ بالإستقلالِ، ما أدى إلى تفكيك الاتِّحاد، وأُبقِيَ على ما يُسمَّى بالآتِّحادِ الرُّوسي، وشَهِدَ هذا الكيانُ الوليدُ المزيدَ من التَّقهقرِ في عَهدِ بوريس يلتسن.
انتقلت السُّلطةُ بعدَ يلتسن إلى فلاديمير بوتين وهو ضابطٌ سابقٌ عملَ في جهاز المُخابراتِ السوفييتي الـ «كا جي بي»، والذي كرَّسَ اهتمامَهُ لإرساءِ مكانَةِ الاتحاد الروسي باعتبارِه الوريثُ الشَّرعيُّ للإتحاد السوفييتي، وسعى جاهداً إلى إعادةِ المكانةِ للأسلِحةِ الإستراتيجيَّةِ كالطَّائرات والصَّواريخِ الذكيَّة، وبدأت ملامِحُ التَّبايُنِ ما بين الدولِ الغربيَّةِ والاتِّحادِ الروسي بالظُّهورِ إلى العلن، كما بدى وكأنَّ الحربَ الباردةَ عادت للظهورِ مُجدَّداً ولكن بمُعطياتِ جديدة، واحتدَّ التَّبايُنُ على أثرِ الثَّوراتِ التي شَهِدتها دُولٌ كانت منضوِيَةً في الاتحاد السُّوفييتي، وبخاصَّةٍ في كُلٍّ من جورجيا وليتوانيا وأوكرانيا التي كانت تُعتبرُ ثاني دولة بإمكاناتِها العسكريَّةِ والاقتصاديَّةِ واللوجِستيَّةِ بعد روسيا، والتي أدَّت إلى إقامةِ أنظِمةٍ مناوئةٍ للأخيرةِ ما أغاظَ فلاديمير بوتين. أما الشَّعرةُ التي قَسَمَت ظَهرَ البَعيرِ فكان إعلانُ تلك الدُّولِ وبخاصَّةٍ أوكرانيا برغبَتِها في الانضمامِ إلى حِلفِ شَمالِ الأطلسي «العدو التاريخي لروسيا».
لم يحتمل الرئيسُ الروسيُّ هذا التَّوجُّهَ الذي اعتبرهُ انتهاكاً للإتفاقاتِ الدَّوليَّةِ التي أُبرِمَت على أثَرِ تَفكُكِ الاتِّحادِ السُّوفييتي، كما أنه ينطوي على تهديدٍ مُباشرٍ للمصالِحِ القوميَّةِ الروسيَّة، وشبَّه هذا السلوكِ بإعلان الحرب، فسعى إلى قطعِ الطَّريقِ على هذا التَّوجُّه قبلَ نُضجِهِ وتحقُّقِ ظروفِه، فأعطى أوامِرَه للجيشِ الروسي باجتياحِ أوكرانيا، ظَنَّاً منه أنه بقيامِهِ بعمليَّةٍ عسكريَّةِ استِعراضيَّةِ يُبدِّلُ الواقِعَ السِّياسيَّ في أوكرانيا، إما بانقلابٍ عسكري على رئيسِها فولوديمير زيلنسكي، وإما بثورَةٍ شَعبِيَّةٍ ترتَكِزُ على فئاتٍ من الشَّعبِ الروسي ذاتِ الأصولِ الروسيَّةِ وخاصَّةً في بعضِ المُقاطعاتِ والأقاليمِ المُجاورَةِ لروسيا.
يبدو أن الغربَ كان يتوقَّعُ مثلَ هذه الخُطوَةِ غيرِ المَدروسةِ من بوتين، وأنه كان يَمدُّ الرئيس الأوكراني بما لديه من معلوماتٍ وساعَدهُ بعضٌ من الدولِ الغربيَّةِ على الاستِعدادِ لمثل هذه اللحظةِ «كما ظهر في ما بعد»، وخاصَّةً أن الأوكرانيين فاجأوا العالم بما في ذلك حُلفاؤهُم الغربيين بصمودِهِم أمام الجيشِ الروسي ووحداتِهِ القِتاليَّةِ المُدجَّجةِ بمُختلفِ أنواعِ الأسلحة الاستراتجيَّةِ والتَّكتيَّة.
الدولُ الغربيَّةُ، وفي طليعتِهم الولاياتُ المُتَّحِدةُ الأميركيَّةُ، وإن كانت وجَّهت بعضِ النَّصائحِ الخجولةِ لروسيا عبر رئيسها بالامتناعِ عن اجتياحِ أوكرانيا وتَحذيرِها من مغبَّةِ الإقدامِ على هكذا خُطوَة، فهي ترى في ذلك فرصَةً لتَقويضِ قُدُراتِ روسيا، التي أعادَ بناءَ مقوماتِها الاستراتيجيَّةِ بوتين، لذا بادرت إلى مُدُّ القوّاتِ الأوكرانيَّةَ ولم تزل بأحدثِ الأسلِحة، وهي لا تنفَكُّ تُمارِسُ المزيدَ من الضًّغوطِ النَّفسيَّةِ على بوتين، لتَشويهِ صورتِه على المُستوى الدَّولي وإظهارِهِ أنه شَخصٌ غيرِ مسؤولٍ ومُتسَرِّعٌ بقراراتِه ومُتهوِّرٌ بخياراتِهِ، وأنه لا يؤتمنُ على الإمساكِ بأيَّةِ أسلِحةٍ استراتيجيَّة، وبخاصَّةٍ أسلِحةُ الدَّمارِ الشَّامِلِ، وأنه لا يُعيرُ اهتِماماً لتَسبُّبِهِ بحَربٍ عالَمِيَّة، ولا يَتوَرَّعُ عن استِخدامِ أسلِحَةٍ نَوويَّة.
هذه الحربُ الثُّنائيَّةُ ظاهِريَّاً (بين روسيا وأوكرانيا)، والدَّوليَّةُ عَملِيَّاً نتيجةَ وقوفِ الدُّولِ الغربيَّةِ خلف أوكرانيا وإمدادها بأحدثِ الأسلِحة، ودعمِ بعضِ الدُّولِ الاشتراكيَّةِ ومنهم الصين ودولِ المُمانَعَةِ ومنهم إيران لروسيا سِياسِيَّا، ستكونُ نتائِجُها كارثيَّةً على العالمِ أجمع، إن كان على مُستوى الخسائرِ البشريَّةِ، أم على مستوى حجمِ الدَّمارِ المُتأتي عن استعمالِ أسلِحةِ دمار شامل بالستيَّةٍ مُدمِّرة، كما الأزماتُ الاقتِصاديَّةُ التي يَشهدُها العالَمُ اليوم، والتي ستتفاقَمُ مع امتدادِ أمدِ الحربِ وتوسُّعِ نطاقِها.
للأسفِ لا يمكنُ معرفةُ الأُفُقٍ الزَمنِيٍّ لنِهايَةِ هذهِ الحَرب، ولا أحَدٌ قادِرٌ على التَّكهُّنِ بما سَتؤولُ إليه بنِهايَةِ المَطاف، ولكنَ بمُستطاعِنا القَولُ أن أميركا ربِحَت الحَربَ بانِطلاقِ القذيفَةِ الأولى، وأنَّ روسيا خَسِرَتها بكُلِّ المَقاييسِ، وستَدفَعُ ثمنَ تورُّطِها بها عُزلَةً دوليَّةً، وحِصاراً اقتِصادِيَّا غيرِ مُعلَنٍ، أقلَّهُ حِرمانُها من تَسويقِ إنتاجِها من الغازِ لدولِ أوروبا الغربيَّة؛ أما أوكرانيا فستربِحُ كرامَتَها وتفَرضُ شَخصيَّتَها على السَّاحَةِ الدَّوليَّة، ولكن الثَّمنَ سيكونُ باهِظا، فإن تلقَّت الدَّعمَ العَسكَرِيَّ خِلالَ الحَرب، فَستُترَكُ وحيدَةً في لِملَمةِ آثارِها، وترميمِ ما دُمِّرَ وسيُدمَّر، وأوروبا ستَحملُ وزرَ عدمِ قُدرَتِها على الخروجِ من تحت العباءةِ الأميركيَّة، أمَّا الصِّينُ فتَعي أنها جيِّداً أنها قد تكونَ الهدفَ التَّالي الذي سيسعى الغربُ إلى تقويضِ مُقوِّماتِ نهوضِها اقتِصاديَّاً وعَسكرِيَّا.
ومن الثابتِ أيضاً أن بوتين مُربكُ في ما وَصلَ إليه بخيارِهِ العَسكري، ومُحرَجٌ في أداءِ جيشِه الذي بدى على غير الصُّورةِ التي حاولَ إظهارَهُ بها، ولا على قدرِ التَّحدِّياتِ والطُّموحات الملقاةِ على عاتقه، وأنه بعيدٌ بأشواطَ عما بلغتهُ الجيوشُ الغَربيَّةُ من تِقنيَّاتٍ وبرمَجيَّاتٍ وأسلِحَةٍ ذكِيَّة؛ وثمَّةَ ثابتٌ آخرَ يتمثَّلُ في أن بوتين بحاجَةٍ لمُنقذِ يُخرِجُهُ من هذا المأزَقِ الذي أقحَمَ بلده فيه، خاصَّة وأن الغَربَ لا يُريدُ له إلاَّ الخروجَ مَهزوما مدحورا، وهنا الطَّامةُ الكبرى على المُستوى العالمي، إذ قد يؤدي الاحتِقانُ إلى مُغامَراتٍ مُدَمِّرةٍ يدفعُ المُجتَمَعُ الدَّولِيُّ بكُلِّيَّتِه تَبِعاتِها الاقتِصادِيَّةِ والمَعيشِيَّة.