بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 حزيران 2021 06:10ص العونية السياسية المضطربة وفشل انقلابها على المارونية السياسية التاريخية

حجم الخط
المتابع لمسار وخيارات التيار العوني السياسية ولخطاب قياداته منذ عودة مؤسسه من المنفى، يدرك عمق اضطراب وتوتر الشخصية السياسية النمطية لدى عدد كبير منهم بشكل ملحوظ والتي تمحورت بداية باستحضار اللغة العدائية الدائمة للحريرية السياسية ممثلة برفيق الحريري ولخلفه سعد الحريري.

لقد تحول هذا العداء إلى حالة من الفوبيا المستدامة وإلى نهج لإلغاء جميع القوى والفعاليات السياسية الأخرى خاصة في البيئة المسيحية، تبلورت بحربي الإلغاء والتحرير المدمرة عام 1989، التي هدفت لترسيخ ظاهرة الشخصانية السلطوية الجديدة التي ستعرف لاحقاً بالعونية السياسية.

منذ انطلاقتها كان هدف العونية السياسية الانقلاب على الواقع في البيئة المسيحية لتصبح الوريث والبديل عن المارونية السياسية التاريخية، التي إستُنزفت مع غالبية البيئة المسيحية الأخرى نتيجة مغامرات ميشال عون العسكرية العبثية كقائد عسكري، أو من موقعه كرئيس للجمهورية وكلاهما أديا تباعاً إلى خلخلة الكيان اللبناني، خاصة بعد انتخابه رئيساً للجمهورية وتجاوز حدود دوره كحكم، وفقاً للدستور، حاضن وجامع لكل مكونات الوطن وقواها السياسية المختلفة.

شكل الوعي السياسي العوني حالة مناقضة جذرياً لوعي المارونية السياسية التاريخية المدركة لمصالح لبنان الوطنية العليا والتي لعبت دوراً تاريخياً في تكوين وإعلان الكيان اللبناني، كما قدمت رجالات دولة من الطراز الرفيع لا يمكن إنكار هاماتهم ودورهم في تثبيت موقع هذا الكيان في رحاب المحيط العربي وتمكّنهم لعقود من الزمن من تحقيق التوازن المحسوب بدقة، بحكمة وتبصر، مع الدول العربية وفي علاقات لبنان الإقليمية والدولية، في زمن كان حلم الوحدة العربية والمشروع القومي مهيمناً على الوعي السياسي الإسلامي العام ولكن دون العبث بالحدود السياسية للكيان اللبناني المعترف بها دولياً، ثم أتى اتفاق المصلحة الواقعية اللبنانية والعربية المشتركة نتيجة لقاء الخيمة الشهيرة، الذي جرى في المنطقة المحايدة بدلالاتها الجيوسياسية على الحدود السورية اللبنانية، بين الرئيسين فؤاد شهاب وجمال عبدالناصر ليحسم دور لبنان ووظيفته عربياً.

والذي أقر بخصوصية لبنان في محيطه العربي، وبدوره كدولة مساندة غير مشاركة مباشرة في الصراع مع العدو الإسرائيلي وهذا ما التزمت به النخب القيادية والقطاعية الإسلامية المسيحية حينها، ما أدى إلى استقراره نسبياً لفترة دامت حتى بداية الحرب الأهلية، كما أن دستور الطائف الذي أتى لاحقاً حسم وأكد أن لبنان بلد عربي ووطن نهائي لجميع أبناءه.

أولاً: ظاهرة اضطراب وتوتر الشخصية السياسية العونية بشكل عام، يعرّف علم النفس الشخصية، بأنها مجموعة من الصفات أو العادات السلوكية والعقلية المتصفة في الثبات وهي تشكل الاختلافات الفردية بين البشر ضمن ثقافة معينة وبالتالي، يتم تعريف اضطرابات الشخصية السياسية هذه، بناء على كيفية تعاطيها مع ثقافة المجتمع المتعدد وتوقعاته وعاداته.

عادة ما تعاني الشخصية السياسية المضطربة من صعوبات في الإدراك الواقعي لخصائص المجتمع وتاريخه، والتفاعل معه ومن صعوبات السيطرة على الإنفعالات وفي اتخاذ القرارات المتهورة والمغامرة، وجميعها، طبعت مسار تجربة التيار العوني منذ بداية تشكله عام 1988 حتى حاضرنا.

فوفق عالم النفس الأميركي «ثيودور ميون»، توجد عدة أنواع من اضطرابات الشخصية، ما يجعلها مؤثرة على السلوك والأداء السياسي العام للفرد في المجتمع أو لمجموعة منه، نذكر البعض منها:

1- اضطراب الشخصية المرتابة: تتميز بنمط الشك غير العقلاني، وعدم الثقة في الآخرين، وتفسير دوافع الآخرين بصورة سيئة.

2- اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع: هو نمط سلوكي سائد من تجاهل وانتهاك حقوق الآخرين ونقص التعاطف مع الآخرين، وصورة ذاتية منتفخة، وسلوكيات استغلالية ومتهورة.

3- اضطراب الشخصية الحدية: هو نمط سائد من عدم الاستقرار في العلاقات وفي صورة الذات والهوية والسلوك وفي كثير من الأحيان إلحاق الأذى بالنفس أو بالآخرين والإندفاع المغامر.

4- اضطراب الشخصية النرجسية: وهو نمط سائد من العظمة الوهمية، والحاجة إلى الإعجاب، ونقص التعاطف مع الآخرين.

5- اضطراب العدوانية السلبية: يكون مستاء، متناقض، متشكك، ساخط، يقاوم إشباع توقعات الآخرين، غير فعال وغير كفء بشكل متعمد، ينفّس عن غضبه عن طريق تقويض أهداف الآخرين، متقلب المزاج.

ثانياً: من اتفاق القاهرة بنسخته الفلسطينية إلى اتفاق مار مخايل بنسخته الإيرانية تابع....

كان لاتفاق مار مخايل الموقّع بين العونية السياسية وحزب الله تداعيات خطيرة على بنية الدولة اللبنانية، إذ أعاد إنتاج اتفاق القاهرة بنسخته الإيرانية لموائمته وتكامله مع الأجندة الإقليمية السورية الإيرانية بهدف الإنقضاض على موقع ودور وخصوصية المارونية السياسية التاريخية الإستقلالي بمؤسساتها المختلفة التي تُعتبر الحصن الحصين والحاضنة للكيان اللبناني، في وجه الطموحات الشخصية والأبعاد السلطوية لمؤسس العونية السياسية.

لأول مرة منذ إعلان دولة لبنان الكبير تم بموجب هذا التفاهم تأمين تغطية شرعية من قبل رأس الهرم المسيحي الماروني في الدولة والتسليم طوعاً بازدواجية القرار والسلطة معاً، على حساب هيبتها لصالح قوى مسلحة غير شرعية ممثلة بحزب الله الذي اقتنص اللحظة المناسبة للإنقضاض على الثورة السورية والتدخل لإنقاذ النظام في سوريا. وبمعزل عن التبريرات التي سيقت بهذا الصدد، تم إستباحة حدود لبنان الدولية البرية والبحرية والجوية والتلاعب بمستقبل وجود الكيان ذاته، في سابقة خطيرة غير معهودة منذ تاريخ إعلان تأسيسه عام 1920 وهددت وجودياً مستقبل لبنان شعباً وكياناً الذي كان ميزة تفاضلية في محيطه العربي، نظراً لدوره وخصوصية تركيبته المناقضة لمشروع يهودية دولة إسرائيل ولكافة مشاريع الكيانات الطائفية والمذهبية العابثة بوحدة الاجتماع العربي المتعدد.

ثالثاً: من عون إلى باسيل: تدحرج سياسي وخَواء فكري ثقافي

أدى تصاعد توتر واضطراب الخطاب السياسي لجبران باسيل بعد سيطرته على القرار العوني، إلى جعل هذا التيار ظاهرة سياسية عبثية فوضوية، متوترة، مترنحة وفاقدة لتوازنها في الحياة السياسية اللبنانية، إذ شكلت حالة مرضية مركبة جمعت الفوبيا واضطراب في الشخصية السياسية والوسواس القهري عبرت عن ذاتها عبر الخطاب والمعارك العبثية التي افتعلها التيار العوني منذ عام 1988 حتى الآن.

تطور مسار هذه الحالة المركبة الفريدة بعد انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، وتمثلت في الأداء والسلوك وفي لغة الخطاب السياسي التافه Médiocre «وفق تعبير الفيلسوف الكندي «آلان دونو Alain Deneault» في كتابه «نظام التفاهة La Médiocratie».

تميز الخطاب العوني بأنه نمطي تلقيني سطحي، إذ أدى إلى تعطيل وإلغاء العقل النقدي لدى كوادره، كما كان لفشل جبران باسيل في محطات انتخابية سابقة تأثيراً سلبياً على شخصيته، فطالت بعمق أداءه وسلوكه ما جعله يعاني حالة من التوتر الدائم ومن الوسواس القهري، كما أن عجزه عن إدراك الواقع المجتمعي العام في لبنان وخصائصه التعددية وحساسيته، أدى بخطابه السياسي الاستفزازي التافه إلى إستثارة جميع البيئات المكونة للاجتماع اللبناني بما فيها البيئة المسيحية.

بعد إقصاء غالبية القادة التاريخيين للتيار العوني والإنقلاب عليهم، إنطلق جبران مع فريقه الخاص وشركائه في الأعمال، بسلوكه السطحي وأداءه التافه الذي تظهّر عبر مواقفه في لقاءات دولية، مثلاً، حين نصح الأميركيين باعتماد نظريته «الإقتصاد بدون موازنة»، كما تميز خطابه أيضاً بالنفاق السياسي المتبادل مع أقرانه من السياسيين وشركاءه بالسلطة منذ عام 2011، عبر تبادل المصالح التي لا علاقة لها بالصالح العام وقيمه المعروفة، وفق ما يقول «آلان دونو»:

«يشكل العمل السياسي بما ينطوي عليه من سلطة وخطاب ومال وجماهير، المساحة الخصبة لازدهار نظام التفاهمة الذي أنتج نظاماً اجتماعياً ترعرع على اقتصاد السوق المتفلت من قواعد الرعاية الاجتماعية للدولة ما انعكس سلباً على جميع نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتربوية والأكاديمية والمالية والحرفية».

وهذا يعكس ما افترضه دونو «بأن الديمقراطية لم تعد مهددة، بل تم تنفيذ جميع التهديدات فعلياً»، وهذا ما يمكن وصفه «بنظام بلوتوكراسي (أي حكم اللصوص)، أوليغارشي، طغياني برلماني، شمولي مالي»، فهو إذا لم يعد ديمقراطي، وهذا ما يمكن إسقاطه بأفضل تجلياته على الواقع اللبناني وقواه السياسية.

اعاد الخطاب العوني الباسيلي، معطوفاً على الممارسة العملية، تذكير اللبنانيين بالحالة العبثية التي عاشوها مع ميشال عون عامي 1989 و1990 ولكن بأشكال جديدة أكثر خطورة، أدت اليوم وخاصة بعد إنفجار مرفأ بيروت وتدمير ثلث العاصمة، إلى تحرير لبنان من شبابه صوب بلدان الإغتراب وإلى إلغاء ميزة لبنان التفاضلية في محيطه العربي وتدمير اقتصاده.

رابعاً: كيف تمظهر فشل محاولة الإنقلاب على المارونية السياسية التاريخية؟

بدأت محاولة الانقلاب العوني على المارونية السياسية التاريخية منذ عام 1988، لكن تبلورها ظهر بوضوح باتفاق مار مخايل مع حزب الله وبلغ ذروته بانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2016. 

إستناداً إلى أهداف العونية السياسية الإلغائية السلطوية، فإن منطلقات المارونية السياسية التاريخية وإدراكها لمصالح بيئتها الخاصة والوطنية الإستراتيجية العامة مع محيطها العربي، سمح لها أن تضع بجدارة المرتكزات الأساس لدولة لبنان العميقة، ما جعلها تدفع بنخبها المميزين برصانتهم وحنكتهم وكفاءتهم ومساهمتهم بجدارة طوال العهد الإستقلالي في صناعة القرار على الصعد كافة سياسياً، عسكرياً، دبلوماسياً، مؤسساتياً، تشريعياً، إقتصادياً، مالياً، تجارياً، خدماتياً وتمكنت من إقامة علاقات نموذجية متوازنة مع الدول العربية والأجنبية، الأمر الذي ساهم في إقامة الدولة الوطنية وفي نمو إقتصادها الوطني ورفع مستوى معيشة مواطنيها وجودة التعليم والإستشفاء والخدمات فيها.

ازاء هذا الواقع، تصدت المارونية السياسية التاريخية لجميع محاولات إنقلاب العونية السياسية المتكررة من أجل مصادرة القرار المسيحي العام في المعادلة الداخلية، بعد أن شكلت البطريركية المارونية رأس حربة لمواجهة الإنقلاب المدعوم سورياً وإيرانياً.

شكلت إنتفاضة 17 تشرين مؤشراً واضحاً لترنّح العونية السياسية وازمتها، فكانت انتفاضة الطبقة المتوسطة خاصة المسيحية منها، والتي راكمت غالبية رأسمالها الوطني بفعل نشاطها الاقتصادي التشاركي مع دول مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمها المملكة العربية السعودية، هذا الرأسمال الذي ساهم في نهضة الإقتصاد الوطني وفي إنشاء وتطور القطاع المصرفي اللبنانية المملوك بغالبيته من المسيحيين كما الشركات والمؤسسات الإقتصادية اللبنانية الكبرى.

إن هدف التيار العوني السيطرة على المصرف المركزي والقطاع المصرفي، إضافة إلى المواقف السياسية المعادية للمحيط العربي والمنحازة لإيران والنظام السوري، كما تفشي جائحة كورونا التي أثرت على إقتصادات دول الخليج العربي المستقبلة للعمالة اللبنانية، دفعت بالمارونية السياسية التاريخية التصدي بشراسة للمشروع الإنقلابي، مدعومة من غالبية الطبقة المتوسطة والغنية المسيحية. 

كما أدت السياسة العونية الإقصائية إلى انكفاء وابعاد غالبية النخب المسيحية المستقلة الكفؤة عن المشاركة في صنع واتخاذ القرار في الإدارة اللبنانية لصالح النخب التافهة والسطحية من المحازبين العونيين، إسوة بجميع الممارسات والإرتكابات المشابهة التي قامت بها غالبية القوى السياسية المشاركة في الحكم والسلطة منذ عام 2011، مما أدى إلى تدني مستوى الأداء والكفاءة والجودة في إدارات ومؤسسات الدولة الرسمية وتحللها.

لقيت الخطوات الإنقاذية التي اقترحها البطريرك بشارة الراعي مؤخراً، والداعية إلى تثبيت استقلالية ووحدة الكيان، بحدوده المعترف به دولياً، والعودة إلى حضن الدولة عبر احترام دستور الطائف وتطبيق مندرجاته، كما تحقيق الإصلاح الشامل بدءاً من إستقلالية القضاء، باعتباره المنطلق الأساس لخروج لبنان من المخاطر الوجودية الناجمة عن عقلية التسلط والإستئثار والكيدية وأوهام العودة إلى ما قبل الطائف المستحيلة، والتسويات الصفقاتية البغيضة.

إن المؤشر العملي والواقعي للخروج من كارثة تحلل الدولة يظهر حين يتيقن اللبنانيون بأن حدودهم البرية والجوية والبحرية أصبحت خاضعة لسلطة الدولة اللبنانية وحدها، وبعد ترسيم الحدود في كافة المجالات الجغرافية، والقضاء على جميع أوجه نشاط الإقتصاد الموازي بتغطية من العونية السياسية كونهم شركاء لقوى الأمر الواقع، كما ضرورة تحقيق الإصلاح المستعصي الآن، خاصة بعد أن حرضت وشجعت العونية السياسية على تعميم ثقافة التمرد التدميري للمؤسسات الوطنية وفق ما حصل مؤخراً عبر تحريض قضاة بعينهم للقيام بممارسات ميليشياوية صدّعت بعمق هيبة القضاء في الداخل والخارج.

خلاف كل ذلك، لن يتبقى للبنانيين سوى مشهدية استكمال تفكك وتحلل الدولة والكيان كهدف مرتجى من قبل اللاعبين الإقليميين، من أجل تثبيت دور لبنان الجديد كدولة فاشلة وساحة مفتوحة للتهريب وللجهاد على أنواعه، وتلقيه تداعيات لعبة الأمم، ما يهدد حاضر ومستقبل الوطن والمواطن معاً.