بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 كانون الثاني 2023 12:00ص المعركة النهائية

حجم الخط
لا يبدو أن المعركة النهائية اقتربت في لبنان، على جميع الملفات السيادية الساخنة، أو على كرسي الجمهورية الشاغرة، بعد خروج الرئيس من قصر بعبدا، في 31 تشرين الأول العام 2022، وحتى اليوم. وربما تأخّر ذلك، لأجل غير مسمّى. فهذه الملفات السيادية، مضافا إليها كرسي الجمهورية مؤخرا، لم تكن في يوم من الأيام، طيلة المئوية الآفلة، إلا جزءا من الأزمات المحلية، أو الأزمات الخارجية. ولم يكن لبنان بالمطلق، يعيش خارج هذة الأزمات. وإذا ما كانت كرسي الرئاسة، قد عرفت المرشحين الطبيعيين لها، فهي للأسف، لم تظفر في يوم من الأيام، بعهد طبيعي. ولم يشهد أي عهد من عهود الرؤساء اللبنانيين، الحياة الطبيعية. كما لم يظفر بالزمن الطبيعي، الخالي من الأزمات، الذي ينهض بالبلاد، بدل التهاوي والتساقط الجزئي أو الكلي، الذي كان يثقل الجمهورية بالتراكمات. أقول، تلك التراكمات التي جعلت جباله تنوء عن حملها، وحملها الإنسان في لبنان.
وكلما كان يؤاذن عهد بالرحيل، حين تنتهي مدة الرئاسة، بسنواتها الست المثبتة بالقانون والدستور، ينقلب اللبنانيون، في أواخر السنتين الأخيرتين، من عمر العهد، ليذوقوا علقم الرئاسة، بعدما كانوا قد نعموا بشهدها، في الصدر الأول من العهد.
وخلافا لكل الدول في العالم، ذات النظام الجمهوري المدني، التي يشهد مجتمعها، في نهاية العهد، هجمة غير إعتيادية، لمراكمة الأعمال العظيمة المعطاءة، ومراكمة الإنشاءات الحيوية، ومراكمة الأفعال البنّاءة، التي تجعل الناس، يذكرون العهد بالخير، فإن اللبنانيين، ما كانوا يشهدون في أواخر العهود، إلا المراكمات القهرية والكيدية والفتنوية، ولا يرون إلا الحراب والسكاكين، تحضر للشحذ. وحين يقترب العهد من الأفول، تنصرف «الأقوام اللبنانية»، على حد تعبير الأستاذ سركيس نعوم، إلى الجبهات، ترفع الدشم، وتسيّس العلم، وتطلق الرصاصة الأولى، إيذانا ببدء المعركة. فتنزل الشعوب اللبنانية إلى الشوارع، وتتعالى الأصوات، كما أصوات الباعة في «سوق الهال»، وتعلو كلما علا النهار، يصيحون على الرئاسة، حتى تغرق الرئاسة نفسها في سوق المزادات.
ليس اليوم أغرب من البارحة، وسدة الجمهورية تنتظر سيد القصر. وليس لبنان اليوم أغرب من لبنان الأمس، في الإنقسام، تحت الرايات والأعلام. وليس الأقوام اليوم، إلا من «غزية نفسها»، في القبضنة والمرجلة ورفع القيمة والمحدلة، وكذلك في ركوب أعلى الخيول، وفي إعتلاء المنابر، وكذا أعلى دكة في الأسواق، لإطلاق دعوة، أو لتوزيع بيان.. حتى أننا نراهم يتزيدون على أسواق عكاظ والبصرة والكوفة، بأسواق بيروت. تماما، كما تزيد المتنبي على جبال العراق وإيران، بجبال لبنان.
يستحضر اللبنانيون، وخصوصا منهم أهل السياسة، أو كما يسميهم الأستاذ هنري زغيب «بيت بو سياسة»، كل «أسلحتهم»، كل أدواتهم القتالية، كل بلاغتهم، كل فصاحتهم، كل غنائياتهم: القوما والزجل والموشح والمعنى. وكذلك شعر النقائض، والأهاجي والأماليح والأماديح. وربما كان للكثيرين منهم، تغريدات يستلهمونها من التراث، بما يحتشد فيه من أيام ومن مقامات ومن منامات، أين منها «منامات الوهراني» الذائعة الصيت. يستحضرون كل ذلك إلى الجبهات والمنابر والشاشات والإذاعات، ليقولوا لجماعاتهم: إنها أم المعارك. وينسون من قاد أم المعارك، وكيف تذوق طعم العلقم، وهو يخوض عن أمة، «ضحكت من جهلها الأمم». يظنون أنها المعركة النهائية، أو أنهم يخوضون معركة في نهائيات كأس العالم، ولا ينتبهون إلى أنهم يعيشون في أوهامهم، بل هم غارقون فيها حتى أخمص آذانهم. فالعالم كله بشرقه، وبغربه، يغردون في مكان، وهم، على وهمهم، يغرّدون في مكان آخر.
نعم، لسنا فيما نحن غارقون فيه، تحت هذه الركاميات الثقيلة، تحت هذه الأوحال المحلية والعالمية، على إستعداد لنخوض معركة «نهائيات كأس العالم». ولا نحن، في المعركة النهائية، من معركة إختيار، بل إنتخاب رئيس للجمهورية. فمثل ذلك دونه «خرط القتاد»، في مثل هذا الوقت من تاريخ الإقليم، ومن تاريخ لبنان، وليست دروس حرب السنتين، بعيدة عنا. وأما دروس الربيع العربي، فهي لا زالت على الألواح السوداء، بالطبشورة البيضاء. وكذلك الأخبار التي تصلنا يوميا من بلاد الروس والأوكران، بعد مضي قرابة السنة أو أدنى بقليل، على بدء المعركة النهائية، التي انفجرت فجأة في الرابع والعشرين من شباط 2022، بعد تأجيلها، المرة تلو المرة، منذ العام 2004. فهناك يخوض العالم كله، أم المعارك. ولا ندري أي منقلب، سينقلبون.
يعرف اللبنانيون مصابهم بهذه الكرسي للجمهورية. وأنه ما كان للإستحقاق الوطني العظيم، أن يجرّ عليهم، منذ تأسيس الكيان، وحتى اليوم، إلا الويل والثبور وعظائم الأمور. وما كانت معركة الإستحقاق الأخير، هي المعركة النهائية. وكذلك لم تكن المعركة، هي معركة الملفات السيادية. فالرئيس ما كان ليرد القنبلة التي تنفجر، بالوطن بصدره، إذا لم يتصدَّ الشعب لها. فلننهض بالشعب، تلك هي عنوان المرحلة القادمة. ولنؤجل الكلام الكبير عن الرئيس الذي لا يقدّم ولا يؤخّر، لأن الدعوة إلى تأجيل الإنتخابات، قبل ظهور الرئيس علينا، هو ضرب في المجهول، بل هو وجه من المغامرة، قبل أن يتحول إلى وجه من وجوه المقامرة أو المؤامرة.
إن المعركة النهائية في إنتخابات الرئاسة، إنما هو ضرب من الوهم لاعتبارات عدة: فهل إنتهى الشعب من معاركه في الملفات السيادية؟ هل إستطاع الإلتفاف حول دستور الطائف؟ أم هل إستطاع التوحد حول معركة النزوح واللجوء؟ هل أصبح البلد، خاليا من السلاح المتفلت في الساحات وعلى الطرقات؟ أم هل صفا الجو للسلاح الشرعي، فلا ينابذه السلاح الإقليمي، دولا ومنظمات وميليشيات؟!
تأجيل إنتخابات الرئاسة، بحجة «المعركة النهائية»، دعوة لتأجيل الخدمات الملحة عن اللبنانيين، الذين يطلبون الماء والكهرباء والدواء. ويطلبون السير في عجلة الدولة إلى الأمام، فيذهب الطلاب والموظفون والمرضى وأصحاب الحاجات، للظفر، كل بغرضه الحياتي، ولا ينتظر السنوات حلس الرهانات الخاسرة، التي لم تجر على البلاد إلا الويلات.
اللبنانيون يعرفون السر وأخفى. ولكن المثل البلدي يقول: «كتر الفهم، قلة فهم». فهل ننتظر حتى نفهم، ما وراء الأكمة. والمثل يقول: «وراء الأكمة ما وراءها»!
فليتق «بيت بو سياسة» الله بنا، بلبنان، بهذا الشعب الذي أصبح على أبواب الله في كل شيء. وليؤجلوا «المعركة النهائية»، فيقبلوا على إنتخاب رئيس، لأن الشعب أصبح في السن اليأس. ويخشى، مثل العروس، أن يذهب العمر به، قبل أن يقتنع ويرضى، بل يقبل بعريس!

* أستاذ في الجامعة اللبنانية