بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 كانون الثاني 2022 12:01ص تزوير انتخابات أيار 1947 تضعف العهد الإستقلالي الأول وتسهم بانتفاضة 1952 التي أطاحت بالرئيس بشارة الخوري

الانتخابات النيابية: بدايات... ومراحل (3)

حجم الخط
اكدت التجارب الانتخابية التي مر بها لبنان منذ العهد الاستقلالي الأول (1943- 1952) ان التلاعب بالاستحقاق الانتخابي تزويرا او تمديدا هو مؤشر لأحداث ومشاكل وفتن، وعلى هذا النحو قدم العهدان الاستقلاليان الأولان أسوأ مثال في التلاعب في الانتخابات، إذ لم يستطع العهد الاستقلالي الأول ان ينجز قانونا انتخابيا مختلفا عن قانون الانتداب الفرنسي الذي أجريت على أساسه انتخابات 1943، لا بل انه أنجز اول انتخابات في 25 أيار 1947 ذاع صيتها في التزوير، فبعثر المعارضة وشتتها، مثل الضغط على جوزيف سكاف الذي أجبر على نقل ترشيحه من البقاع إلى الجنوب، ليحل بدلا منه هنري فرعون في البقاع، من أجل تركيز زعامته الكاثوليكية، وضغط على صائب سلام في بيروت للانسحاب من المعركة ومنع من تشكيل قائمة معارضة، كما عمل على تفكيك جبهة المعارضة في الجنوب، ويروى عن تلك الانتخابات: أنه تم التلاعب بلوائح الناخبين وبتوزيع أقلام الاقتراع، فتم انتقاء رؤساء الأقلام من موظفي الدولة الموالين والمدربين على التزوير، ناهيك عن القيام بأعمال التزوير علنا.

ويروى عن هذه الانتخابات أيضا: أن نتائج أقلام الاقتراع لم تتطابق مع النتائج التي صدرت في مراكز المحافظات، ومن الأمثلة على ذلك في محافظة جبل لبنان: أن نتيجة فرز قلم البوار كانت 190 صوتا، لكنها في بعبدا بلغت 353، وفي قلم اهمج بلغت 360 صوتا، فصدرت في بعبدا 756، وفي قرطبا 62 صوتا فبلغت في يعبدا 375، وفي غلبون 10 انما نتيجتها في بعبدا كانت 560،  وفي علمات كان 25 صوتا وفي بعبدا 390، وفي لحفد كان مجموع المقترعين في قلمها 198 مقترعا، لكنهم بلغوا في مركز المحافظة في بعبدا 550 مقترعا. 

ويروي الشهيد كمال جنبلاط - الذي كان وزيرا في الحكومة، ان عدد الناخبين الى جانبه بلغ 53 الفا حسب النتائج الرسمية، رغم أن عدد المقترعين لم يتجاوز الـ40 الفا، مما يعني أن 13 الف صوت قد أضيفت إليه، وحمل مسؤولية التزوير الى قائممقام الشوف في حينه.

وجاء في كتاب « جريمة 25آيار 1947» (الصادر في حينه عن حزب الكتلة الوطنية )نماذج مذهلة عن تلك الانتخابات، فيقول: » تجلت البطولة ومنعت المعارضة من الاقتراع بشتى الطرق، وقد جاءت غوسطا التي جعلوها قلعة حكومية بما ضموا اليها من أقلام اقتراع محلية في ميدان التزوير والتلاعب، فوقف القبضايات على أبوابها وحالوا دون دخول أحد من المعارضين بقوة السلاح، وفضلا عن ذلك كانت ميدانا فسيحا للتلاعب، حيث اقترع أحد الموتى وانتخب الشخص أكثر من مرة بتذاكر نفوس عديدة ليست له». 

ومما جاء في هذا الكتاب أيضا: «معلوم أن قلم غوسطا كان يضم القرى الآتية: درعون، معراب، عين ورقة وثلاث قرى غيرها، وما ان ازفت الساعة التاسعة حتى كان في صندوقة الاقتراع 1200 ورقة، ثم أشار مرشح المنطقة الى القبضايات وجوب ارجاع كل ناخب من حيث أتى.. وهكذا كان.

وقد أحس باللعبة الوزير شمعون فعاتب المرشح فريد الخازن بشدة على تلك اللعبة المفضوحة، فما كان من المرشنح المذكور الا ان تنصل مما أقدم عليه، قائلا: انه لم يقدم على ما اقدم عليه الا بناء لاوامر عالية.»

 ويعترف الرئيس بشارة الخوري بما رافق تلك الانتخابات من أعمال غير ديموقراطية فيقول في الصفحة 30 من (حقائق لبنانية، - الجزء الثالث): «بدت طلائع المعركة عنيفة، وكنت أتمنى أن لا اتدخل في فروع تأليف القوائم، مكتفيا بالتوجيه ,والإشراف ، ولكن ما العمل وعقلية بني قومنا تتطلب من الرئيس كل شيء، فاضطررت الى التعاون مع رئيس الحكومة وسائر الوزراء في اتباع الطرق المعقولة وضرورات الحال دون خطة سابقة، سوى تأمين الائتلاف في جميع المناطق ما أمكن، ضنا بالمحافظة على الكسب الذي أحرزه لبنان من استقلال تام ناجز لم يزل طري العود». 

ويضيف الرئيس الخوري: «نويت مخلصا زيادة عدد النواب بغية افساح المجا ل لوجوه جديدة، فاصطدمت رغبتي بعقبات غير منتظرة، فلم يقدم مشروع الزيادة الى مجلس النواب قبل حله، وجرت انتخابات على أساس العدد القديم.» (حقائق لبنانية ج 3 ص44).

وبعد ان يتناول الرئيس بشارة الخوري كيفية تشكيل اللوائح في المحافظات يقول: «لا ننكر أن الانتخابات التي اطلقوا عليها انتخابات 25 نوار، اثارت احتجاجات ومزاعم متعددة، وان المسائل الشكلية التي صارالتجاوز عليها كانت عاملا في تضخيم تلك الاحتجاجات والمزاعم، وعندي أنه كان من الواجب أن تراعى الشكليات وأن يتحاشى الوزراء والموظفون وأغلب المرشحين أي عمل من شأنه أن يزرع الشك أو يثير الريبة في نفوس الناس، والأمر الأكيد أن مراعاةالاصول ما كانت لتغير شيئا من النتائج المرتقبة، ولا من نجاح القوائم الانتخابية، فكان أن الموظفين الذين أرادوا تبييض وجوههم مع السلطة او مع بعض المرشحين، لم يفلحوا الا بتسويد صفحة السلطة وصفحة هؤلأ المرشحين معا، اما الائتلاف الذي توخته الحكومة لمصلحة لبنان وفي بدء عهد الاستقلال، وفي الانتخابات الأولى التي جرت في هذا العهد، فليس فيه من جهة المبدأ شائبة، ناهيك عن أن نظام القائمة يقضي به ويجعله مشروعا بحد ذاته».

يضيف الرئيس الاستقلالي الأول: «وللمرشحين أن يندمجوا ما أمكن لتأمين نجاحهم، غير أن التعكير الذي رافق تأليف القوائم وربطها بالمد والجزر، وبالمشادات التي لا طائل منها، والتي لم تخف عن أعين النقاد قلب معنى الائتلاف، وحوله في نظر العامة الى الانتقاص من حرية الناخبين، خصوصا أن مرشحين خابت آمالهم، ومرشحين فازوا ولم تتحقق اغراضهم كلها، ولم يكن لهم من شجاعة كافية لحمل تبعة أعمالهم، فأرادوا التهرب منها، هؤلأ وأولئك غذوا الحملة الظالمة ضد الدولة، وأسهموا في تسميم الجو المشحون بشتى التيارات ( الحقائق اللبنانية _ج3_ص45).

 ويعترف الرئيس صبري حمادة، وهو كان وزيرا للداخلية في الحكومة، بالتزوير، واصفا إياه بـ«التزوير الحلال» ويقول: « الحقيقة انني لم اتحمل وحدي مسؤولية ما حدث في انتخابات 25 آيار، بل شاركني فيها كميل شمعون الذي كان وما يزال في نظري مهندسا جغرافيا لا يجارى وتكنولوجيا في علم الانتخابات وما إليها ، خلاف طارئ مع هنري فرعون واعتلال في صحتي حملني على أن أعهد الى شمعون بأمر الاشراف على المعركة الانتخابية، لم تكن قد انقضت أشهر قليلة على وفاة سليم تقلا حتى شعرت ليلا بانقباض في القلب وبحالة من الإرهاق دفعتني الى الاعتقاد بأنني سأقضي مثلما قضى، تملكني هاجس الزمني الفراش أكثر أيام تلك السنة، وكان ما كان من أمر تلك الانتخابات التي ضخمت الصحافة فيما بعد ما قيل عن عمليات التزوير، وإن كان ثمة تزوير فمرده الى كوننا سعينا لابعاد كل من شابت وطنيتهم شائبة لخطورة الموقف، والفرنسيون ما زالوا يسعون لاستعادة سيطرتهم على المرافق الحيوية في البلاد، فكان اذن تزوير له مبرراته، تزوير حلال، وإن كان ابغض الحلال، ولو أضفنا على هذه الاعتبارات عادة درج عليها الفاشلون في تبرير فشلهم بالشكوى من تزوير وهمي يلصقونه بمن يكون أوفر حظا بالنجاح «.

وفي تصريح نشر في «الاوريان في أيار 1947، ادلى به رجل أعمال امام محكمة بيروت، كان قد مثل أمامها بتهمة إصدار شيكات بلا مؤونة فيقول: «في 21 آيار، التقيت في الساعة العاشرة مساء في فندق أميركا بالسيد فيليب مرهج، وبحضور السيد حنا غصن، طالبني السيد مرهح يدفع 18 الف ليرة لبنانية الى السيد كميل شمعون لتأمين نجاحه في الانتخابات، وقد أجبت السيد مرهج بأن ما سبق لي دفعه للائحة كاف بحد ذاته، وبأني _ فضلا عن ذلك _ لا احمل معي المبلغ المذكور.

بشكل عام بقيت انتخابات 25 أيار 1947 وصمة قبيحة في سجل العهد الاستقلالي الأول، وقد جدد المجلس النيابي الناتج عن هذه الانتخابات للرئيس بشارة الخوري عام 1949 ولايته الرئاسية، لكن سيد العهد وجد نفسه وحيدا في منتصف ولايته الجديدة وكانت احداث عام 1952 التي أدت الى استقالة الرئيس بشارة الخوري.

وتكررت تجربة تزوير الانتخابات في عهد الرئيس الاستقلالي الثاني كميل شمعون عام 1957، فكانت ثورة 1958، وهذا مالنا عودة اليه في الحلقة المقبلة.