ينسحب عدم نضوج المعالجات الخارجية مزيدا من التخبّط الداخلي وتوغّلا في الفراغ الرئاسي، يزيده خطرا التفلّت الحاصل جنوبا حيث الهمّ الأساس أمنيّ متأتٍّ من تجاوز الصراع الخطوط الحمر وقواعد الاشتباك الكلاسيكية والتصاعد التدريجي في وتيرة الحرب القائمة عند الحدود اللبنانية - الإسرائيلية.
عواصم القرار بغالبيتها مجنّدة لتطويق ما يحصل ومنع الانفلات صوب الحرب. لذا تتوالى رسائل التنبيه والتهديد والنصح، ويتوالى معها التخبط الرسمي. فرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي قرّر على ما يبدو أن يمسك العصا من وسطها: في بيروت يخطب ودّ حزب الله ويتبنى سرديته، وفي دافوس يخاطب العقل الغربي ويحمّل الحزب المسؤولية عن الحرب، حتى أضحى، والقول لقيادي بارز، «رجل المقال في كل مقام».
تشذّ عن قاعدة الانشغال بالهم الجنوبي الحصري، العاصمتان الفرنسية والأميركية.
أ- باريس المكبّلة راهنا بفعل فشل مبادرتها الرئاسية وتخبّط سياستها اللبنانية وابتعادها عن ثوابت العلاقة بالمكوّنات اللبنانية، وخصوصا المسيحيين منهم.، فضّلت بدلا من ذلك الانصراف إلى البزنس السياسي بأسوأ نماذجه. فحصل لها ما حصل، وإضطُّر الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الاستغناء تدريجا عن فريق عمله اللبناني، ولا يزال يعوّل على شيء ما يأتيه به موفده الوزير السابق جان – إيف لودريان. لكن أي إنجاز يبقى رهن تغيّر آليات العمل التي يعتمدها لودريان بحيث لا تأتي بالنفس الكولونياليّ نفسه الذي بدا عليه ماكرون في زيارته الشهيرة إلى بيروت قبل نحو 3 سنوات، وبدا هو عليه في زيارته الأخيرة قبل شهر.
ب- واشنطن تبدو الأكثر انهماكا في تسليك حل لبناني سياسي - رئاسي في الداخل وأمني – عسكري عند الحدود مع إسرائيل. وتُظهر اهتماما استثنائيا بالشأن اللبناني، منطلقه ضرورة المعالجة الفعلية للأزمة بدءا من انتخاب رئيس للجمهورية.
صار متوقعا أن تزيد واشنطن من وتيرة مسعاها من خلال مجموعة الدول الخمس المعنية بلبنان، وعبر السفيرة الجديدة ليزا جونسون التي على ما يبدو تضطّلع بمهمة حسّاسة وشاقة من أجل تحقيق هدف الحل اللبناني المركّب، بالتعاون الكامل مع المستشار الرئاسي آموس هوكستين.
عمليا، صار لهوكستين مهمّتان لبنانيتان:
1-إنهاء الفراغ الرئاسي بانتخاب الرئيس العتيد وبدء مسار التعافي المالي والاقتصادي والاجتماعي. فتأمين الاستقرار جنوبا يتطلّب استقرارا سياسيا المدخل إليه إعادة الانتظام العام، بدءا من مؤسسة رئاسة الجمهورية. وكل ذلك يفترض اصطفافا إقليميا ودوليا يحصل حصرا من خلال إعادة إنخراط المملكة العربية السعودية، على وجه التحديد، في الملف اللبناني لما لها من تأثير بائن ومباشر وحيّ لبنانيا وعربيا. ويظهر أن الرياض لم تعد بعيدة عن تحقيق هذا الإنخراط، وسفيرها في بيروت وليد البخاري فعّل حراكه مع مطلع السنة الجديدة. كما ان قطر استأنفت تحرّكها. وقد حضر إلى بيروت الأسبوع الفائت موفد بقيت زيارته بعيدة من الإعلام، والتقى عددا من قيادات الصفّ الأول، إلى جانب أكثر من شخصية نيابية وسياسية مرشّحة للرئاسة او يمكن أن تغدو كذلك في ضوء الترتيبات الحاصلة. كما يتوقّع أن يزور الموفد الأمني جاسم بن فهد آل ثاني بيروت قريبا لمتابعة الملف الرئاسي.
بالتقاطع، تردّد أن واشنطن تعمل على تنظيم اجتماع في نيويورك نهاية هذا الشهر أو بداية شباط يضمّ مروحة كبيرة من وزراء الخارجية العرب والغربيين، سيمهّد في حال حصوله لاجتماع المجموعة الخماسية، ويعطي لأعضائها الدفع اللازم من أجل الانطلاق بمبادرة رئاسية محصّنة وأكثر جدية من سابقاتها من المبادرات، ولا سيما تلك الفرنسية.
2-إكمال إنجاز الترسيم البحري بحلّ مستدام للحدود البرية مع إسرائيل، بنقاطه الـ13 والأراضي التي لا تزال تحتلها في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وخراج بلدة الماري. صحيح أن هوكستين لم يثر في زيارته المختصرة الأخيرة هذه المسائل بالتفصيل، لكنها بالتأكيد في مقدم أولوياته. فالإدارة الأميركية تريد من إنهاء الأزمة السياسية حماية الترسيم البحري ومباشرة ترتيب الحدود البرية مع إسرائيل. وهذا البند الحدودي سلاح استراتيجي لها، من خلاله تسعى إلى تطويق حزب الله وسحب الذريعة التي يستخدمها من أجل الحفاظ على سلاحه ودوره. باعتقادها أن كل ذلك ليصبح نافذا لبنانيا يحتاج إلى توقيع رئيس الجمهورية، كما حصل في اتفاق الترسيم البحري. لذا يصبح إنهاء الفراغ الرئاسي حلقة رئيسية في مجمل هذا المسار المؤدي إلى الاستقرار.
لكن الوقت ليس مفتوحا إلى ما لا نهاية. ثمة مهل تكبّل الإدارة الأميركية نفسها التي دخلت مدار الإنتخابات الرئاسية، وتلقائيا سيتراجع اهتمامها بالمسائل الخارجية، ما عدا الصين بالطبع. عندها قد يصير رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بنزعاته اللاعب الأكثر تأثيرا بالملف الرئاسي اللبناني!