بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 كانون الأول 2020 06:35ص جردة عام بين الانتفاضة ودياب: أمَل.. فخَيبة!

«قوى التغيير» بديلة عن الحَراك تحضيراً للانتخابات

حجم الخط
عندما اعتلى الدكتور حسان دياب سُدة المشهد قبل نيف وعام في رئاسة الحكومة، كان شخصية مجهولة بالنسبة الى الغالبية الساحقة من اللبنانيين وبينهم المنتفضين على السلطة الذين كان وهجهم طاغيا على المشهد حينها.

أجبرت الاحتجاجات الشعبية العارمة الرئيس سعد الحريري على الاستقالة الذي لم يتمكن من الصمود أكثر من أيام رغم خطته الحكومية الإصلاحية التي وُضعت لإرضاء من هم في الشارع.

توالت الأضحية على مذبح رئاسة الحكومة بين رفض شعبي وآخر حريريّ حتى تصدر دياب للمشهد ليشكل حكومته بعدها بأسابيع. 

شكل غموض الرجل نقطة قوته. وزير التربية الأسبق بالكاد ترك بصمة لدى اللبنانيين قبل أن يختفي عن المشهد السياسي مكتفيا بجهد أكاديمي في «الجامعة الأميركية». لكنه، وهو غير المتورط بالشبهات، حصل بعدها بسنوات على قبول نسبي وبعض الأمل من اللبنانيين، لكن كان من الصعوبة بمكان أن يخوض رجل «العلم» ميدان «السياسة» وتشعباته.

نال دياب موافقة المرجعية السنيّة الدينية ممثلة في دار الفتوى كما على قبول المرجعية السياسية عبر الحريري، وسط فوضى في البلاد، وربما شاء الحريري خلع رداء الحكم الوسخ وإلباسه لمن سعِد باعتلائه المشهد وشرَع في محاولة حكم ساءتها الظروف.

انقسمت مجموعات الحراك الشعبي تجاه خيار دياب. فبعد أشهر على 17 تشرين بدأت عوامل التعب والطقس القارس وفوضى التحركات، تثير عوائق أمام الإنتفاضة الشارعية لتأتي صدمة «كورونا» لتوجه الضربة الكبرى للمنتفضين.

ورغم احتفاظ بعض المجموعات والشخصيات بموقف رافض لحكومة دياب كونها «طوائفية تحاصصية مُقنّعة»، عملت الحكومة وسط سيل من الأشواك حتى سقطت بضوء أخضر من رعاتها مع مأساة إنفجار بيروت.

معاندة الظروف.. والعودة إلى الجذور!

غلّب أداء حكومة دياب رأي أقلية في الحراك رفضت توفير فرصة له واستمرت في تحركاتها في الشارع وفي وجه مؤسسات الحكم. والحال أن عوامل كثيرة تجمعت لتفعل في انتكاسة دياب الذي بدأ سريعا في تحاصصيته متشبها بطبقة سياسية قدِم لمواجهتها، أو هكذا تم تظهير الصورة عنه.

كان يمكن لدياب الصمود في وجه معظم المنظومة الحاكمة منذ نحو 30 عاما، رغم الهجمات التي تعرض لها بوصفه واجهة سنية لـ«حزب الله» وللعهد ولرئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل. حظه العاثر خسّره المعركة في وجه الأساطين الطائفية الراسخة في السلطة وجماهيرهم الموالية لهم، كما في وجه وباء لم يكن في مقدور لبنان، محدود القدرات، على مواجهته.. قبل أن يوجه له انفجار المرفأ الضربة القاضية.

بدا دياب متعثر الخطوات، عقيمها، يُكثر من الوعود هو وبعض الوزراء من دون فاعلية في ظل ظروف جد صعبة عاندته. وكان مشهد خاتمة ولايته الحكومية رمزياً مع وقوفه خجولاً قرب الحريري الذي حضر إليه رافضا القرار القضائي في حق دياب في جريمة المرفأ. وبذلك عاد الرجل إلى الجذور التقليدية، رافعاً شعار «الخط الأحمر» المذهبي مندداً بتحوله كبش فداء لفساد سنوات طويلة للطبقة السياسية، ولينزوي في منزله في تلة الخياط حيث أقفل كل الأبواب المؤدية إليه.. ومنه. 

على أن الانتفاضة الشعبية لم تكن أفضل حالاً كثيراً. هي واجهت أيضا سوء حظ في وجه تغلغل السياسة والأمن فيها كما في وجه الوباء الخبيث. لكنها أيضاً ليست بعيدة عن الحساب رغم عدم القدرة على القيام بذلك عبر اعتبارها رزمة واحدة وسط بحر من العقائد والأفكار والمجموعات والشخصيات.

كثيرون خرجوا ليعلنوا وفاة 17 تشرين كثورة على الحكم. قد يكون ذلك صحيحا جزئيا في حال قصُرت النظرة على مدى الأشهر الماضية. لكن هؤلاء يتناسون أن 17 تشرين جاءت استكمالا لانتفاضة سابقة قبلها بأعوام أربعة على فضيحة النفايات والتي فور خمودها اعتقدت الطبقة الحاكمة أن الأمر استتب لها. 

ولعل المنظومة سترتكب الخطأ نفسه وهو ما يدلل عليه أداءها كله وأبرز معالمه هذا التحاصص الطائفي المذهبي السلطوي في تشكيل الحكومة، والجميع يعلم إفتقاد لبنان الى ترف الوقت وسط أفظع أزمة إقتصادية وإجتماعية منذ تأسيس لبنان!

على أن هذا الاعلان بوفاة 17 تشرين تكسره تحركات شجاعة على الارض ترتدي في معظمها الطابع الشبابي وتمظهرت في إنتخابات الجامعات حيث تمت نجاحات إنضمت الى أخرى في نقابة المحامين ووسط المهندسين ورابطة أساتذة الجامعة اللبنانية، وستستمر مع أشكال مُبتكرة وسط تصاعد أزمات اللبنانيين وإصرار الطبقة الحاكمة على عدم سماع نبض التغيير.

نقد ذاتي.. وتحديات

لكن في المقابل، على مجموعات وشخصيات الحراك إجراء نقد ذاتي ومراجعة لكل ما حدث منذ 17 تشرين الأول 2019.

سيكون التحدي الأول هو نبذ إنقسامات حدثت بين المنتفضين شكل العامل الشخصي أساسها ما أدى الى مقاطعة البعض لتحركات البعض الآخر. في الوقت الذي تشترك الغالبية الساحقة من المنتفضين في مطالب مشتركة تتمثل في تشكيل حكومة إنتقالية مستقلة تتمتع بصلاحيات استثنائية وتشريعية واسعة، تُحضِر لانتخابات نزيهة على أساس قانون حديث، قبل الشروع في الإصلاح الحقيقي واستعادة الاموال المنهوبة والاستيلاء شيئا فشيئا على السلطة، كما يردد هؤلاء، أو خرقها على الأقل، كما يشير الهدف الطبيعي والواقعي لأية مواجه للسلطة.

ولعل البرنامج المشترك قد يمهد لائتلاف وطني موحد إذا أمكن يحمل مشروعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً للإنقاذ والتغيير الديمقراطي السلمي، استعدادا لانتخابات نيابية مقبلة ما يحقق إمكانية للخرق المجلسي في وجه سلطة الحكم. 

كما سيُفيد هذا التوحيد في مواجهة إجراءات السلطة لتقسيم الحراك وإرهابه عبر الاستدعاءات وتخويف الناشطين كما مواجهة مخططات للسلطة للمزيد من إفقار اللبنانيين، وما خطة رفع الدعم سوى المثال الحيّ على ذلك. وسيكون من شأن تحديد الاهداف والاولويات أن يسهل من مهمة الناشطين مع تفريخ الانتفاضة كل فترة لمجموعات جديدة ترتدي طابعا راديكالياً حالما يحمل مراهقة الشباب واندفاعهم من دون أفق.

وثمة عامل يغض المنتفضون الطرف عنه. ذلك أن عدائية مطلقة لكل أركان الحكم تعمي الأبصار عن واقعية ضرورية تحتم التعامل جزئياً مع الأحزاب والتيارات القائمة، وهي ذات ثقل على الارض مهما تراجعت. فقد أدى النبذ العدائي لكل ما هو قائم الى إنفضاض كامل عنهم من قبل تلك الاركان ومناصريها، التي يمكن تحقيق الافادة من اللعب على تناقضاتها وعدائيتها لبعضها البعض، كما يمكن اجتذاب شرائح موالية للحكم في حال تبني الخطاب الموضوعي والواقعي.

ويتصل ذلك بشرط سلمية الانتفاضة ومواجهة أي انجراف نحو العنف يفيد السلطة ويقوي حجتها. ويجب التسجيل أن تسلل العنف الى الانتفاضة شكل أحد عوامل تعثرها، علما أن السلطة ساهمت في تشويه التحركات واستثمرت ذلك الى أقصى الحدود.

كما سيكون على الانتفاضة تحييد المواضيع السياسية الخلافية، علما أنها في انطلاقتها في 17 تشرين اتسمت بطابع مطلبي ومعيشي قبل تسلل شعارات سياسية تمكن المنتفضون حتى الساعة من السيطرة عليها وهو ما يجدر بهم تعزيزه في السنوات المقبلة.

من المقدر أن يؤسس كسر هيبة السلطة نحو دفع أكبر للتحركات التي ستتخذ طابعا موضعياً أكثر منه عددياً، وسيواجه الرئيس المكلف سعد الحريري الذي مثلت عودته إمتحانا للحراك، تحديات جمّة لكبح جماح التدهور الحاصل الذي يهدد بإعلان لبنان دولة فاشلة وهو ما سيعني بدوره تصعيدا للتحركات في وجهه. فالنية القائمة اليوم هي لإنضاج التحركات، خاصة في ظل الشلل الحكومي، ليس في الشوارع والساحات العامة فحسب، بل في داخل المؤسسات الخاصة والمرافق العامة والنقابات العمالية المستقلة. 

 وبعد خيبات الأمل للعام الحالي ومنها تلك التي عوّلت على حسان دياب وحكومته، من المقدر أن يشهد العام المقبل تصعيداً للاحتجاج على السلطة مع أمل انحسار الظروف التي واجهت الحراك العام الماضي، ضمن خطة مفتوحة ومتصاعدة تدريجياً، تحضيراً لاستحقاق الانتخابات النيابية بعد أن شكل الحراك ركنا جديدا في البلاد خارج التقليد السياسي في وجه السلطة والمعارضة، لينخرط كما يدعو كثيرون، في إطار ما يعرف بقوى التغيير الديمقراطي المُنبثق عن الحَراك.