بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 أيار 2024 12:01ص خدمة لمُجرمي إسرائيل .. الأنظمة الغربيَّة تُطيح بمنظومة القِيَم التي قامت عليها

حجم الخط
ما إن سُرِّبت معلومات تشير إلى نيَّة المحكمة الجنائيَّة الدَّولية تسطير مذكَّرات توقيف بحق بعض من القادة الإسرائيليين الضَّالعين بحرب الإبادة الجماعيَّة التي ترتكب في قطاع غزَّة منذ ما يزيد عن نصف عام حتى بدأت تظهر للعلن تصريحاتٌ لكبار المسؤولين الأميركيين والأوروبيين برفضهم القاطع لهذا التَّوجه وانطوى بعضها على تهديدات مبطَّنة للمحكمة لثنيها عن مثل هذا التَّوجه، وما هي إلَّا أيام معدودات حتى أعلن مدعي عام المَحكمة «كريم خان» أنه طلب من الجِهة المختصة في المحكمة إصدار مذكرات توقيف دوليَّة بحق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يواف غالانت لضلوعهما في ارتكاب جرائم ضد الإنسانيَّة وشنِّ هجوم واسع النطاق وممنهج ضد المدنيين الفلسطينيين، بالإضافة إلى ثلاثة آخرين من قادة منظمة حماس وهم رئيس المكتب السياسي للحركة في قطاع غزَّة يحيى السنوار وقائد كتائب القسَّام محمد دياب إبراهيم (الضيف) ورئيس المكتب السياسي للمنظمة إسماعيل هنيَّة، لضلوعهم بأعمال اغتصاب وعنف جنسي وإبادة واحتجاز رهائن، وقد أوحى هذا الطَّلب للوهلة الأولى بالمُساواة ما بين ما قامت به حماس وما قام ويقوم به الكيان الإسرائيلي.
لاقى هذا القرار تنديداً من الجهتين المعنيتين، أي منظمة حماس كما الكيان الإسرائيلي، وإن كانت النَّبرة الإسرائيليَّة أكثر حدَّة وتنمّ عن غضب شديد، وكأني بالمسؤولين الإسرائيليين خرجوا عن طوعهم لإدراكهم خطورة الموقف الذي قد يترتَّب على هذا التَّوجه عامَّة وبخاصَة ملاحقة معظمهم مستقبلاً بعدد من الجرائم التي تندرج ضمن اختصاص المحكمة. بدورها الولايات المتحدة الأميركيَّة والتي اتَّخذت موقفاً منحازاً إلى جانب إسرائيل منذ عمليَّة طوفان الأقصى، لم تخفِ ردَّة فعلها الرافضة على الإطلاق لملاحقة المسؤولين الإسرائيليين، بحيث لم تكن ردَّة فعل كبار المسؤولين فيها أقل حِدَّة عما أعلنه المسؤولون الإسرائيليون. وبعد أن أعلن الرئيس بايدن رفضه القاطع لتوجه المحكمة لإصدار مذكرات توقيف بحق أي من المسؤولين الإسرائيليين، عاد وندَّد بما أعلنه مدعي عام المحكمة، وكذلك فعل وزير خارجيَّته أنطوني بلنكن، وقد وصل الأمر برئيس الكونغرس الأميركي مايك جونسن بالتَّلويح بأن المجلس قد يصوّت على فرض عقوبات ضد المحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة إن أقدمت على إصدار مذكرة توقيف بحق بنيامين نتنياهو، وأن المجلس سيدرس جميع الخيارات بما في ذلك فرض عقوبات على المحكمة وقضاتها في حال مضوا قدمًّا في هذا التَّوجه.
ردَّات الفعل الأوروبيَّة تمايزت بين دولة وأخرى وإن تمايز بعضها بالإشارت إلى ضرورة احترام القانون الدَّولي الإنساني، ففي الوقت الذي رأينا فيه تشدّد السُّلطات في ألمانيا، والتي أعلنت عبر الناطق باسم وزير خارجيَّتها أن حماس قد ارتكبت في السَّابع من تشرين الأول مجزرة همجيَّة بهجومها على إسرائيل، وأنها لم تزل تحتجز رهائن إسرائيليين في ظروف تفوق الوصف وتهاجم إسرائيل بصواريخ وتستخدم سكان غزَّة المدنيين دروعاً بشريَّة، وأنه من حق الحكومة الإسرائيليَّة وواجبها أن تحمي شعبها وأن تدافع عنه في مواجه هذا الأمر، وأدرج ما قامت وتقوم به إسرائيل ضمن إطار ردَّة الفعل المشروعة دفاعاً عن النَّفس، إلَّا أنه أشار إلى أن القانون الدَّولي الإنساني واجب التَّطبيق بكل مندرجاته، وأن بلاده من الدُّول التي دعت إسرائيل إلى إتاحة إدخال المزيد من المساعدات الإنسانيَّة إلى القطاع. ولكن الموقف الفرنسي وإن جاء متعاطفاً مع إسرائيل فقد عرف تمايزاً أكثر عن باقي دول أوروبا المؤيِّدة لإسرائيل، بحيث أعلن وزير خارجيَّتها إدانته لما أسماه بالمجازر المعادية للسامية التي ارتكبتها حماس في السابع من تشرين الأول الماضي، ولكنه كان واضحاً في الإفصاح عن الموقف الفرنسي الداعم للمحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة واستقلاليَّتها ومكافحة الإفلات من العقاب في جميع الحالات، وهذا التَّوجه تماهى مع موقف رئيس الدبلوماسية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل الذي أمَّد على أنه ينبغي على كافة الدُّول التي صادقت على ميثاق المحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة أن تنفذ قرارات المحكمة.
تأتي هذه المواقف الواضحة والصَّريحة برفضها لما أقدم عليه المدعي العام لدى المحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة، بمثابةِ تدخُّلٍ سافرٍ في أعمال المحكمة ويمسّ باستقلاليَّتها وحيادها، رغم أن الاتفاقيَّة التي أنشأتها «نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة، قد حدّد دون أي لبس استقلاليَّةَ هذه المحكمة وطبيعتها الخاصَّةِ والغرض من إنشائها ونطاق اختصاصها النَّوعي، وأصول المحاكمة أمامها، وأنها تابعة لهيئة الأمم المُتَّحدة ولكنها تتمتع باستقلال في أعمالها القضائيَّة. وتوحي وكأن بعض الدُّول الغربيَّة قد انزلقت في خدمةِ إسرائيل إلى حدِّ التَّنكُّر لمنظومة القيم التي قامت عليها أو تنادي بها، في سبيل تلافي ملاحقةِ القادة الإسرائيليين عما اقترفوه ويقترفونه من جرائم في قطاع غزَّة تندرج ضمن الإختصاص النَّوعي للمحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة، أي جرائم الإبادة الجماعيَّة، الجرائم ضد الإنسانيَّة، جرائم الحرب، جرائم العدوان، وهي من أخطر الجرائم التي قد تشهدها البشريَّة.
كيف لدول عريقة في تاريخها أن تتخلَّى عن المبادئ الإنسانيَّة والأفكار التَّحرريَّة والليبراليَّة التي أطلقها كبار مفكروها، لتعود بمواقفها وممارساتها ودعمها اللامحدود لكيان غاصب وتذكّرنا بماضيها الإستعماري وارتكاباتها الهمجيَّة بحقِّ الشعوب الأصليَّة للعديد من المستعمرات وتصفيتهم عرقيًّا، وسرقة مقدرات البلدان التي استعمرتها، وتضرب كل ذلك عرض الحائد تلافياً لمحاكمة كبار المجرمين الصَّهاينة، وهذا ما يتجسَّدُ في تنكُّرها لحقوق الشَّعب الفلسطيني في العيش على أرضه ومساواة مناضليه بأولئك المجرمين، لا بل بتوصيف المقاومين بالإرهابيين وتبييض صفحات المسؤولين الإسرائيليين رغم ارتكاباتهم الإجراميَّة الهمجيَّة وانتهاكاتهم المتكرِّرة للمواثيق الدَّوليَّة التي ترعى حقوق الإنسان. والغريب في الأمر تناسي القادة الأميركيون لما عاناه الشَّعب الأميركي من حروب أهليَّة عنصرية وتمييز عرقي واستعمار بريطاني، وبيع العبيد في أسواق النِّخاسة، وزملاؤهم الأوروبيون لما ارتكبوه في حق الشعوب الأصليَّة للبلدان التي استعمروها وسلبوا خيراتها الطبيعيَّة.
لقد أنشئت المحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة بعد مخاض دولي عسير امتدّ لقرابة نصف قرن من الزَّمن، إلى أن أسفرت أعمال المؤتمر الذي عقد في روما عام 1998 عن إقرار النظام الأساسي لهذه المحكمة، وذلك بغرض تحقيق جهاز قضائي جنائي دولي دائم ومُستقل، تكمنُ مهمته الأساسيَّة في ملاحقة ومعاقبة الأشخاص الذين يقومون بارتكاب جرائم دَوليَّة بغض النَّظر عن وظائفهم ومناصبهم، وإن كان يعيب نِظامها الأساسي تخويل مجلس الأمن الدَّولي، وهو كناية عن هيئة سياسيَّة دوليَّة تغلب الاعتبارات السياسيَّة على قراراته الإنتقائيَّة والبُعد عن المعياريَّة المتجردة التي تحكم قراراته عند تناوله للقضايا الدَّوليَّة، سُلطَةَ إحالَةِ القضايا إليها بالإضافة إلى الدول الأعضاء كما للمدعي العام لديها، كما تخويل المجلس صلاحيةَ إرجاء التَّحقيق أو المقاضاة، وهذا يشكّل انتهاكاً صارخاً لمبدأ استقلاليَّة المَحكمة في أداء مهامها، وينعكس سلباً على مِصداقيَّتها.
وعليه نرى أنه لا بدَّ من تذكير من يعنيهم الأمر أن المحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة وجدت لتبقى، وأن استقلاليتها هي سبب بقائها، وأنها أنشئت بغرض تلافي حدوث ما حصل خلال القرن الماضي خلال الحروب وموجات الإستعمار، على شاكلةِ ما يحصل اليومَ في غزَّة من حرب إبادة وجرائم ضد الإنسانيَّة وجرائم حرب، يستهدف بها الآلاف من الأطفال والنساء والكهلة، وكأني بهذه المحكمة قد وجدت للنَّظر في ما يرتكبُ من جرائم خطيرة وفظائع في غزَّة تُهدِّدُ السِّلم والأمن العالمي.
وعلى المسؤولين الذين يتغاضون عن الجرائم الإسرائيليَّة ويحاولون تبريرها بشتى الوسائل أن يعوا أن ما نشهده اليوم يثير قلق الشعوب كافَّة وعلى امتداد الكرة الأرضيَّة، ويجب ألَّا يمرّ دون عقاب، وأنه يجب ضمان مقاضاة مرتكبيها منعاً من تكرارها وخشية إفلات مرتكبيها من العِقاب، وذلك خدمةً للأجيال الحاليَّة والمُقبلة، وهذا هو الغرض الأساس من إنشاء المحكمة الجنائيَّة الدولية كهيئة قضائيَّة حياديَّة مستقلة ومستدامة.
وتكمن أهميَّةُ هذه المحكمةِ في أن نظامها الأساسي يملي أن يكون لها اختصاص في ملاحقة الأشخاص الطبيعيين الذين يرتكبون جريمة تدخل في اختصاصها أو شرعوا بارتكابها، وسواء كانوا مسؤولين لأو عرضة للعقاب نتيجةَ مشاركتهم الفرديَّة بالجريمة أو لاشتراكهم مع آخرين أو بتوجيه الأوامر أو الإغراء، أو الحثّ على ارتكابها أو لتقديمهم العون أو التَّحريض أو المساعدة بأي شكل من الأشكال بغرض تيسير ارتكاب الجريمة أو الشروع في ارتكابها.
ومن أهميَّة هذه المحكمة أيضاً أن الجرائم التي تقع ضمن اختصاصها لا تسقط بالتَّقادم، وأنها تتمتَّع بجوانب إجرائية على قدر كبير من الأهميَّة لجهةِ ضمان حقوق المَتقاضين، وعدم الاعتداد بالصفة الرسميَّة للمحالين أمامها، وبالتالي عدم التَّمييز في ما بينهم بسبب الصفة الرسميَّة أو المنصب الذي يشغله الملاحق، ولا تحول الحصانات دون ممارسة المحكمة لإجراءاتها. كما لاعتدادها بالمسؤوليَّة عن علاقة الرئيس بالمرؤوس وكذلك لكونها تعتدّ بمسؤوليَّة القائد العَسكري الجزائيَّة عن الجرائم المرتكبة من جانب قوات تخضع لأمرته وسيطرته الفعليتين، وأن مسؤوليَّته تترتَّب لعدم ممارسته لسلطاته على القوات الخاضعةِ لإمرته بصورة سليمة أو لعدم اتخاذه للتدابير المعقولة في حدود سلطته لمنع أو قمع ارتكاب الجرائم، وخاصَّة إن لم يعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق معهم ومقاضاتهم.
إن العدالة الجنائيَّة على المُستوى الدَّولي ستتوقَّفُ على مدى صمود هذه المحكمة وقضاتها بمن فيهم المدعي العام لديها في وجه ما يُمارسُ عليهم من ضغوط معنويَّة وماديَّة، وما يتلقّونه من تهديدات مُعلنة أو مبطَّنة؛ ومن هنا نرى أن المجتمع الدَّولي وخاصَّة الدُّول المُستضعفة وأحرار العالم مطالبون جميعاً ببذل كل جهد متاح دفاعاً عن هذه المحكمة وضماناً لاستقلاليتها، وصوناً للعدالة على المستوى الدَّولي، ومنعًا من إفلات كبار المُجرمين من العقاب، كون هذه المحكمة هي الضَّامن لملاحقة ومعاقبة الأشخاص الطَّبيعيين الضالعين في جرائم على قدر عالٍ من الخطورة والتي تندرج ضمن اختصاصها.