بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 شباط 2023 12:00ص ساحات وألسنة بلا سياج

حجم الخط
«...أعتذر من اللبنانيين الذين لن نتمكن من تلبية طموحاتهم ومطالب ثورة 17 تشرين 2019. التغيير بعيد المنال، وبما أن الواقع لم يطابق الطموح الذي كنا نسعى إليه، وبعد هول كارثة بيروت وانحناءً أمام آلام الجرحى وتجاوباً مع الإرادة الشعبية بالتغيير أتقدم باستقالتي من الحكومة اللبنانية».
اعتذار لوزيرة الإعلام السابقة الشابة منال عبد الصمد في (6/8/2020) بعد يومين من انفجار مرفأ بيروت (4 آب 2020) وقبل يومين من إعلان استقالة حكومة حسّان دياب (28/1/2020-9/8/2020) التي استقالت وصرّفت الأعمال بانتظار حكومة نجيب ميقاتي (10/9/2021)، مع أنّ لبنان بطاقاته الإعلامية التي تجاوزت رقعته الـ10452 كلم مربع بكثير وعرف 32 وزيراً للإعلام، ينال علامات جيّدة وجاذبة للمحيط العربي والإسلامي والعالمي.
لماذا؟...
لأن المرأة طاقة قيادية من التواصل والإتّصال أوّلاً، متميّزة بيولوجياً وبالممارسة بتربية الأجيال، ولأنّ الإعلام في لبنان الذي أسميته «الميديا ستيت» أو «الولايات الإعلامية غير المتحدة» تمطّ أعناقها عالياً وتتنافس وكأنها «سلطة السلطات» لا السلطة الرابعة التي قفزت فوق الأنظمة الديمقراطية، في ساحةٍ بلا سياج.
نعم. صُدمت بمسؤولٍ لبناني يعبّر عن سعادته باختيار «بيروت عاصمة الإعلام العربي للعام 2023» في «زمنٍ أسودّ فشلنا جميعاً بإخراج الساحة اللبنانية من أعبائه وكوارثه» كما قال، مذكّرني ومشيداً بالوزيرة في محادثتنا الهاتفية.
إلى متى يبقى لبنان ساحة بلا سياج؟
صحيح أنّ الوزيرة اقترحت بكتابها في 27/5/2021 على الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، باعتبار «بيروت عاصمة الإعلام العربي، وصحيح أن مجلس وزراء الإعلام العرب تجاوب مشكوراً في 16/6/2021 معتبراً بيروت «عاصمة السلام والتسامح والمحبة والعيش المشترك بين كافة الديانات والجنسيات»، والأكثر صحّةً من هذا كلّه الإنشغال العربي اللطيف بهموم لبنان واللبنانيين بانتظار إخراجهم من مواقد التشظّيات المقيمين فيها، لكنّ ما ليس صحيحاً على الإطلاق، قوله بـ «الساحة اللبنانية»، تلك الصفة اللزجة الثقيلة الملتصقة بألسنة السياسيين والإعلاميين وعقولهم تباعاً وهذا ما لا نعثر عليه في أي بلدٍ آخر عند تناولهم لوطنهم.
كان وما زال وسيبقى يستفزّني مصطلح «الساحة» هذا، باعتباره من الملصقات المُدانة والمرفوضة والمُعبّرة سلباً عند الكلام أو الكتابة عن لبنان وفيه، وذلك لسببٍ بسيط يدركه اللبنانيون أكثر من غيرهم ويُدركه معهم من عرفوا الساحات الفالتة وأعبائها وخرائبها التي دمغت تواريخ الشعوب بما يتجاوز الوصف.
يا لأهوال الساحة اللبنانية المفتوحة العارية والمشرّعة أبداً على العالم من الجهات الأربع حيث لا أبواب لها أو نوافذ ولا مداخل أو مخارج أو حرّاساً يضبطون الداخلين والخارجين منها وفيها. كيف نلملم وطناً من الساحات؟
هكذا اعتاد اللبنانيون، إذن، لا السياسيّين وحسب بالنظر إلى وطنهم بصفته ساحة أو الساحة المفتوحة على العالم في الخطب الرسمية والإعلامية والشعبية. وإذا كانت تلك الإلفة دليلاً ثابتاً للصفة المعبّرة سلبيّاً، فإنّ شعوباً أخرى، ومنهم الفرنسيّون مثلاً، يرفضون قطعاً مثل تلك التسمية التي راحت تقوى وتترسخ بفعل تقنيّات الإعلام وفورة الإتّصالات والشاشات في عصر العولمة، فرأوا فيها «صفة شديدة الخطورة، قد تبدو فيها فرنسا ساحةً بلا سياج»، بينما تحافظ شعوب أخرى مثلها، بالأطر والقوانين والسلطات الرقابيّة متوخّيةً الضبط والتقنين والتنظيم وفقاً لما هو حاصل في الكثير من الدول الأخرى.
صحيح أنّ التماهيات اللبنانية بفرنسا واسعة، لكنّها تفتقر للتدقيق لو قرأنا ببساطة ما ورد حرفيّاً مثلاً في رسالة «المجلس الأعلى للإعلام المرئي المسموع» الذي تمرّست طالباً متدرّباً فيه لاستيعاب فلسفة الحريّات الإعلامية وشروطها وحدودها التي وردت في الرسالة رقم 121 أكتوبر 1999 المتضمّنة خلاصة الأوراق المقدّمة في «القمة العالمية لتنظيم الإنترنت ووسائل الإتصالات الجديدة»، والتي اعتمدتها خلال حياتي الأكاديمية مرجعاً لطالباتي وطلاّبي في كلية الإعلام وهم يشغلون اليوم الشاشات اللبنانية والعربية والمقاعد الوزارية والقيادية الإعلامية.
تستدرجني «الساحة» للتنبيه مجدّداً للفروقات بين: «الإعلام اللبناني» و«الإعلام في لبنان» حيث يجد اللبناني نفسه في الخارج ثم في الداخل وعلى قارعة الطرق المتشعبة من دون سياج لكل عبورٍ سياسي حزبي مذهبي إعلامي من جهات الأرض.
جاء في قانون إعادة تنظيم الإعلام المرئي المسموع بعد الطائف ما حرفيته: «الإعلام في لبنان حرّ» بلا ألف ولام تضبط الأخلاقيات والساحات المفتوحة على الدنيا. هكذا تنعكس معاني الساحات لحلقات العيش قوةً وضعفاً، اتساعاً وانتشاراً وضيقاً، تبعاً للظروف الداخليّة المُعقّدة التي لم تفارق هذا الوطن الصغير لأنّ الحكام صغار، والتي تترك نتائجها الخطيرة وتأثيراتها الثقافية والاجتماعية والسلوكية واللغوية تخلّفاً يدمغ هويّات الجميع.
كيف نسلخ من الأذهان مقولة ذبلت باعتبار الساحة همزة الوصل بين الشرق والغرب، أو المفصل الجغرافي به تسترشد قارّات العالم؟
أنها مقولةٌ سقطت لكنها مقيمة بالألسن والأفكار ومناهج التعليم وبرامج «الميديا ستيت».