بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 تشرين الأول 2022 12:00ص مـغـــادرة الــرئـيــس

حجم الخط
كل الإشارات، كل الدلائل، كل المعلومات التي تصل من بعبدا، إنما تشي، إنما تشير، إلى أن العهد سيخرج بكل هدوء من القصر. يغادر بكل هدوء. يشرب الرئيس مثلي، في الثواني الأخيرة من اليوم الأخير، من الليلة الأخيرة، كوبا من الماء، ويخرج بهدوء. يغلق الباب وراءه بكل هدوء. يترجل بكل هدوء. ويصعد إلى السيارة بكل هدوء. وينطلق إلى بيته في الرابية بكل هدوء، دون ضجة، دون ضجيج. يحتفظ بهدوئه، فلا يجعل مغادرة الرئيس ترمب، تغلب عليه، أو تغالبه، أو تجعله يتأثر بهذه المغادرة، التي اتصلت بالهجوم على مبنى الكابيتول. فيسجل اللبنانيون، ويسجل العالم، ويسجل التاريخ.. يشهد: إن العهد «إنتهى على خير».
ليس هناك أعظم، ولا أبهى، من صورة فخامة الرئيس ميشال عون، يخرج من القصر، هادئا، مثل جبل من الصوان. يمشي على رجليه، بكل كبرياء، بكل عظمة، ولا يلتفت وراءه، ولا يتلفت حوله، بل يرسل نظره في عمق أعماقه: أن اللبنانيين، يستحقون، مثل هذا الرنين من الهدوء.. مثل هذا الرنين من الصمت. فيقول الناس: إن الرئيس خرج من القصر، تحفّه جلبة، بل عاصفة من الهدوء الرزين، الذي تستحقه مثل هذه الشخصية التاريخية من الرؤساء اللبنانيين. تحفّ موكبه، مثل هذه العاصفة من الهدوء، التي تليق بالرجال العظام، حين يتركون السلطة، يغادرونها إلى البيت.
في مثل ذلك تكون ولادة الرئيس الأب لشعبه، ولا غرو، فهو قد صرح بذلك، حين تسلّم مقاليد السلطة في البلاد، طيلة ست سنوات. وقد وقعت هذه العبارة: «بيّ الكل» في نفوس اللبنانيين، وكانت حلوة، وكانت جميلة، وكانت مستساغة، وكانت «مهضومة». فلا أحلى ولا أجمل ولا أعظم، من أن يكون الرئيس، «بيّ الكل»، كما كان يضمر في نفسه. كما إشتهى أن يكون.
في يوم مغادرة القصر؛ ترى اللبنانيين، أحوج ما يكونون، إلى أن يحقق الرئيس، وداعا رئاسيا، يظهر فيه بكل كبرياء، بكل عظمة: أنه «بيّ الكل»، ذلك لأنهم في أسوأ الظروف، وفي أسوأ الأحوال. وأن البلاد كلها، من أقصاها إلى أقصاها، على شفا الإنهيار. وأن الناس فيها، إنما يحتاجون إلى جرعة هدوء، إلى جرعة أمل. ما داموا قد خذلوا في تشكيل حكومة، بديلة عن الحكومة المستقيلة. وما داموا يتوجسون من إستكمال مخاوفهم، بعدم مرور الإستحقاق الرئاسي على خير، وعدم إنتخاب رئيس للجمهورية، لا قبل مغادرة الرئيس.. وربما لا بعد مغادرة الرئيس.
رجل بقامة وطنية، مثل الرئيس الجنرال ميشال عون، من حقه أن يخشى على اللبنانيين، إذا ما إفتتن الناس فيما بينهم، إذا ما تصدّع الجدار الوطني، إذا ما إهتزّ البيت والدار والحوش، إذا ما إهتزّت القلعة الوطنية في النفوس، إذا ما إهتزت الأجراس، إذا ما إهتزت المآذن.. «إذا ما غادر الشعراء من متردم».. إذا ما إهتزت المنابر.. وصار الناس «يحسبون كل صيحة عليهم».
أزعم أنه، سوف يصغي مليّا لصوت ضميره. يقول في قرارة نفسه: كفى اللبنانيين شر الفتنة. فالرئاسة لست سنوات، كانت كافية لتجب ما قبلها. فكفاهم شر ما وقع لهم، من قبل، ومن بعد. أزعم أن فخامته، يملك من الشجاعة الأدبية ما يكفي، ليفوّت الفرصة، على كل من تسوّل له نفسه، إلحاق الأذى بلبنان.. إلحاق الأذى باللبنانيين. فالرئيس ميشال عون، قائد رائد. وقديما قيل: «إن الرائد لا يخذل أهله».
أزعم أن فخامة الرئيس ميشال عون، إنما يحيط علما، بكل ما يخبأ للبنان، بكل ما يحفر له من حفر عظيمة، لا ترحم من تزل به قدم. وهو يدرك التفاصيل.. وتفاصيل التفاصيل، التي تحيط بالإستحقاق الرئاسي. ويدرك أيضا أن لبنان على شفا جرف عظيم. وأنه لا يحتاج، إلا لأدنى هزّة، حتى يتهاوى إلى الجحيم الذي هو يحاذره. ولهذا أرى، أنه سوف يمضي، في خطى مغادرة القصر، دون أن يكون سببا في إهتزاز البلاد، ولو على أدنى مقياس، لأي مرصد يرصد الأحداث.
أزعم، أن فخامة الرئيس سوف يفوّت الفرصة على أعداء لبنان، في الثواني الأخيرة من عهد مضى، بكل ما له.. بكل ما عليه. فيمنعهم من الإصطياد في الماء العكر. فيكفي لبنان، كل هذه الشرور التي يقطعها.. كل هذه المطبات التي وقع فيها.. كل هذه الخبائث التي تنتظره.. كل هذا الإنهيار الذي يشهده. وفخامته يرى بأم عينيه، كيف يتربص بلبنان المتربصون، وكيف يمضون ليلهم ونهارهم، في جعله بلد الإنهيار، بدل أن يكون بلد الإزدهار، تماما، كما كان يرجي رئيسه الميمون.
أزعم أن سيادة الجنرال، فخامة الرئيس ميشال عون، أحرص على لبنان، في الثواني الأخيرة من مغادرته السلطة، لأنه خوض في كل التجاريب، منذ نصف قرن وأكثر. فعركته وعركها.. فأبلى في السياسة، وأبلى في القيادة، وأبلى في الرئاسة. وكان له أن يرى «روما»، من تحت.. وكان له أن يرى روما من فوق. وما عادت تغريه في شيء. ولا يشتهي لأقرب المقرّبين منه، أن يذوق ما ذاقه.
أزعم أن فخامة الرئيس، في الثواني المتأخرة بل الأخيرة، له في القصر، سيدفع كل من حوله جانبا. يمضي بكل هدوء، واثق الخطى، ملكا.. يقول في نفسه: «أبتاه إدفع عني هذي الكأس».

* أستاذ في الجامعة اللبنانية