بيروت - لبنان

اخر الأخبار

10 أيار 2024 12:01ص ما كان للكثير من الحقائق أن تنكشف لولا طوفان الأقصى

حجم الخط
شكَّلت عمليَّةُ طوفان الأقصى التي باغتت بها مُنظَّمة حماس العدو الصهيوني في صباح السَّابع من شهر تشرين الأول الفائت نقلةً نوعيَّةً في أداء المُنظَّمات الفلسطينيَّة المناهضة للإحتلال، والتي سُرعان ما تبيَّن أنها لم تكن محسوبة النَّتائج، وستفضي إلى مآلاتِ على عكسِ ما كان مرجوًّا منها، ولكنها حقَّقت نتائجَ معنويَّة لم تكن لتخطر على بال أحد.
لم يكن يتوقَّع مخططو طوفان الأقصى استغلالِ الكيان الإسرائيلي لهذه العمليَّة لصبِّ جام غضبه على الشَّعب الفلسطيني، وليرتكب بحقِّه أفظع عمليَّةِ إبادةٍ جماعيَّة شهدتها البَشريَّة، ولم يتوقعوا أن يحظى عدوهم بذاك الدَّعم غير المحدود من الدول الغربيَّة ذات النُّظم الديمقراطيَّة. ولم يتوقَّع أحدًّا أن تدخُّل تلك الدُّول سيعرِّيها من لبوس الديمقراطيَّة المُزيَّفة، وانكشاف حقيقتها، واستذكار الشُّعوبِ لماضيها الاستعماري ونَزَعاتِها الاستبدادِيَّة والعُنصريَّةِ والكراهيَةِ لدول العالم الثالث، ولكل ما مورس باسم الديمقراطيَّة بحقها من استعباد ونهب لخيراتها وثرواتها ومدى التَّحكُّم بمُقدراتها ومقدار التنكيل الذي مورس بوجه أحرارها ومُفكريها، خدمَةً لمَصالِحها الاستعماريَّة على حِساب القيمِ الأخلاقيَّة ومبادئ العدل والإنصاف والكرامة الإنسانيَّة التي ترعاها المواثيقُ الدَّوليَّةُ والدساتيرُ الوَطنيَّة.
كم كان العالمُ بأسره بحاجةٍ لحدث كطوفان الأقصى كي يستفيق من غفلته، وليكتشف حقائقَ مُروِّعة لم يكن بمقدورِه أن يتبيَّنها من كتب التاريخ أو غيرها من المنشورات والتَّحليلات والأفلام والمسلسلات والدِّعايات المُعلَّبَة والموجَّهة والمضلِّلة للرأي العام بغالبيَّتها. ويبدو أن مجرمو اليوم لم يتنبَّهوا إلى التَّغيُّراتِ التي أحدثتها التَّقانةِ في الإعلام أو أنهم كانوا يعتقدون أنه كعادتهم قادرون على التَّحكُّمِ بما يُنشرُ عبره، من هنا كانت مبادرتُهُم لمُمارسَةِ أقسى الضُّغوطِ على الفَضائيَّاتِ والمِنصَّاتِ الإلكترونيَّةِ وفلترَةِ ما يُنشَرُ عبر وسائل الإعلام الرَّقميَّةِ ووسائط التَّواصل الاجتماعي؛ وظّنّوا أن بمقدورهم إخفاءَ جرائمهم ومجازرهم وتضليل الرأي العام كما كانوا يفعلون طوال القرن الفائت.
لقد استغلَّ قادةُ الكيان الإسرائيلي الحدث لتنفيذِ مُخطَّطٍ معدٍّ مسبقاً، لينفِّذوا أكبرَ عمليَّةِ إبادةٍ جماعيَّة، بأبشعِ الأساليب وبأحدث وسائل الفتكِ وأكثرها قدرةً على القتل والتَّدمير والتَّخريب، إلى حدٍّ جعلَ ارتكاباتهم الجرميَّةَ تتصدَّرُ قائمةَ أبشع الجرائم التي يمكن أن يتخيَّلها العقل البشري.
لقد كشف طوفان الأقصى أن قادةَ الكيانِ الإسرائيلي، على خلاف ما يُعلنون، لا يضعون نصب أعينهم تحرير المحتجزين لدى منظَّمة حماس بل يرغبون في إطالةِ فترةِ احتجازهم لأطولِ مدَّةٍ مُمكِنَة، ولهذا يتعمَّدون إجهاض الحُلول التَّفاوضيَّة لاتِّخاذِ احتجازهم ذريعةً لإطالةِ فترةِ انقِضاضِهم على قطاعِ غزَّة وتبرير تنكيلهم بالشَّعب الفلسطيني، وليستكملوا تقويض كلِّ مُقوِّمات الحياةِ فيه، وإلَّا لِما تدميرُهُم للأحياء السَّكنية على قاطنيها، ولدور العبادةِ والمُستشفيات والمُستوصفات ومباني الجامِعات والمدارسِ والأفران وهي تعُجُّ بمئات الآوين إليها، ولما الإيعازُ للشُّيوخ والنِّساء والأطفال بالتَّوجُّه إلى أماكن ومَعابرَ يوهمونهم أنها آمنة ومن ثم يقصفونها ليردونهم بين قتيل وجريح؛ ولما اخراجهم للمُعالجين من المشافي عنوة ودفنَهُم أحياء، ولما إصرارُهم على اقتِحام رَفح بعد أن أرغموا المدنيين العزل على اللجوء إليها.
ولولاه لما تعرَّف الرأي العام العالمي على الأساليب الوحشيَّةِ التي ينتهجها سفاحو الصَّهاينةِ في ارتكابِ مجازرهم، كما على أنماطِ التَّعذيبِ والقَهر والتَّدنيس والقتل ودفن الأحياء، ولما اطّلع على تَّحليل حاخاماتهم للمُحرَّمات الدِّينيَّة بتحريفهم لمَقاصِدِ بعضِ الآياتِ التلمودِيَّة؛ ولا على رعونةِ وصلفِ وتعنُّتِ القادة الصَّهاينة وعنصريَّتهم وكراهيَّتِهم لباقي شُعوب الأرض وتجاوزِهم لكل الاعتباراتِ الإنسانيَّة وخرقِهِم للقِيَمِ الأخلاقِيَّة، واستِسهالهم التَّعرُّضَ للصَّحافَةِ واستِهدافِ الصُّحفيين وذَويهم في وَضح النَّهار، ومنع بثِّ الكثيرِ من المواد الصُّحفيَّةِ التي تكشف بشاعةَ إجرامهم أو قد تستعملُ يوماً لإدانتهم، وفظاظةِ تنمُّرهم وتطاولهم على كُلُّ من ينتقدُ إجرامَهُم ونَعته بمُعاداة السَّاميَّة.
ولولاه لبقيت الغشاوة على الأعين تعمي الأبصار عن حقائق مرَّة، ولبقيت العُقولُ منبهرةٍ بظواهرِ الحضارة الغربيَّة وبالتَّقدُّم العلمي الذي وصلت إليه وما تشهده بعضُ الدولِ الغربيَّة من انتعاشٍ اقتصادي، وما كان لينكشف أن بين طيَّاتِ تلك النَّهضةِ انتكاساتٌ أخلاقيَّةُ وإنسانيَّةٌ مشينةٌ ونزعاتٌ إجراميَّة عنصريَّةٌ راديكاليَّة مُروِّعة، وأن ذاك الانتعاش قام على سرقةِ ثرواتِ دول العالم الثالث، ويموَّلُ حاليًّا بعائداتِ صفقات الأسلِحَةِ الفتَّاكَةِ التي يُقتلُ فيها مئاتُ آلافِ الأبرياء من الكهولِ والنِّساء والأطفال.
ولولاه لما كان ليدور في خلدِ أي فردٍ منا أن يسمع ما نسمَعُه اليومَ من تنديد عالي النَّبرةِ من مئات آلاف اليهود غير الإسرائيليين ورفضِهِم العلني لما يقومُ به أبناءُ ملَّتهم المتصهينون من إجرام باسم الدِيانةِ اليهوديَّة، وما كان لنا أن نشهد على امتدادِ العالم الغربي حشوداً وتظاهرات فاقت أعداد المنضوين فيها مئات الآلاف من مختلف الأعمار والأجناس والأعراق، وما كُنَّا لنشهدَ تلك الانتفاضات الطُّلابيَّة العارمة التي تجتاحُ العديد من الجامعاتِ الأميركيَّة، وهي في طريقها لتعمَّ جامعاتٍ أوروبا.
كم كنَّا بحاجة لطوفان الأقصى لنكتشف مدى تأييد الأنظمةِ الغربيَّة الأعمى لإسرائيل، واستعدادها لإشعال حربٍ عالميَّة دفاعاً عنها، وإلَّا لما رأينا حشد كل تلك الأساطيل البحريَّة، وأحدثِ حاملات الطائراتِ والغواصات النَّووية، وعشرات البوارج الحربيَّة، واستنفار ما لديها من قواعدِ عسكريَّة على امتداد منطقة الشرق الأوسط، ومدِّ الجيش الإسرائيلي بجسورٍ جويَّةٍ وأخرى بحريَّةٍ لتزويده بكميَّاتٍ هائلةٍ من الأسلِحة الحديثة وأكثر الذخائر فتكاً وتدميراً، وتسخير مُعظمِ أجهزة المخابرات العسكريَّة الغربيَّة لخدمةِ الجيش الإسرائيلي، واستغلال أحدث وسائل التَّجسُّس والرصد والتَّعقّب من أجل رصد وتعقُّبِ مُقاومي حماس الذين بأحسن الأحوال لا يتعدّى عددهم الألفي مُقاتل.
ولولاه لما فهم العالم لغز وقوف الولاياتِ المُتَّحدة الأميركيَّة ومن خلفها الغرب خلف هذا الكيان اللقيط، وأنه يكمن في وجود صهاينة من غير اليهود أشدُّ تعنصراً للصَّهيونيَّةِ من الإسرائيليين، وأكثر حماساً للدفاعِ عن ذاك الكيان أكثر من قادة إسرائيل المُجرمين، والسِّر الذي يجعلهم لا يخجلون بتأييدهم لما يقترفه جيشُها من مجازر وجرائم حرب وأعمال إرهابيَّة وتعذيب للأبرياء وغيرها من الفظائع.
ولولاه لما استطاعت المُجتمعاتُ الدَّوليَّة كشف زيف المزاعم الصهيونيَّة التي يروّجون لها بأساطيرهم ودعاياتهم ووسائل إعلامهم منذ ردحِ طويلٍ من الزَّمن، والتي كادوا أن يُقنِعوا المَلايين بمَظلومِيَّةِ الإسرائيليين وتَشويه صُورة المُناضلين الفلسطينيين المُدافعين عن وطنهم وكرامتهم وشعبهم وحقِّهم في الوجود.
ولولاه لما أنكشف مدى عجز هيئة الأمم المُتَّحدةِ وبُعدها عن مراميها، وأن مجلس الأمن ما هو إلَّا أداةٌ دوليَّةٌ تتحكَّمُ بقراراته الدُّول الغربيَّةِ الكبرى ذات العضويَّة الدَّائمة فيه، تهمّشه متى تشاء وتُفعِّلُهُ متى تَشاءُ وتتحَّكمُ بقراراته على نحو لا يصدرُ عنه سوى ما يتوافق مع توجُّهاتها، وتسقطُ كل المُقترحاتِ التي لا يرغبون بصدورها ولو جاءت ترجمةً لأهم مقاصِدِ الأُمم المُتَّحدة.
ولولاه لما انكشفت هشاشَةُ الكيان الإسرائيلي، ولما تبيَّن أنه مهما امتلك من أسلِحةٍ متقدِّمة، فسيبقى غير قادرٍ على حمايةِ نفسه بنفسه، وأن وجوده رهنُ إرادة غربيَّةٍ استِعمارِيَّة قد لا تدوم، وأن هذا الكيان ما هو إلَّا مُستعمرة غربيَّة أُقيمت بإرادة غربيَّةٍ آثمة؛ وأن الغرضَ من إقامته هو تَخليص أوروبا الغربيَّةِ من الصَّهاينة بعد أن ضاق شعبها ذرعاً بتآمرهم وسعيهم للسَّيطرةِ على مُقدِّرات بلدانهم ولتآمُرِهِم على نُظُمها السِّياسيَّة، وهذا ما أدّى إلى نبذِهم والسَّعي إلى التَّخلُّص منهم.
ولولاه لما تعرَّت بعض النُّظم العربيَّة وحكَّامها، وانكشف مدى ارتهانهم للغرب وافتقادهم لروح الانتماء إلى الأمَّة؛ وإلَّا لما اقتصرت جُهودُهُم وجهود الجامعة العربيَّة على مُجرَّدِ بهوراتٍ كلاميَّةٍ ومُناوراتٍ وعَراضاتٍ بهلوانيَّةِ مَكشوفة، بحيث تظاهر بعضهم أنهم يسعى للتَّخفيفِ من مُعاناة الفلسطينيين؛ كما انكشف أن معظمِ الشُّعوب العربيَّة بمن فيهم طًلَّاب الجامعات والذين ثبت أنهم أقل التزامهم بالقضايا التَّحرُّريَّة والإنسانيَّة من أقرانهم الغربيين أو لا يتحلّون بجرأة كافية للتَّعبير عن مواقِفِهم.
ولولاه لما انكشف أن مُعظم التَّحرُّشاتِ المذهبيَّة والارتكاباتٍ الإرهابيَّة التي تحصل في العالم العربي هي مدروسة وتقف خلفها مخابراتٍ غربيَّة، بغرض ضرب التَّنوع في مُجتمعنا العربي وتَخريب مقوماته الاقتصاديَّة خدمةً للعدو الإسرائيلي، وأن الأراضي العربيَّة ومن عليها ما هي إلَّا حقول رمايةٍ بالنِّسبة لدول الغربِ، تُختبرُ فيه أحدثُ ما أنتجته مَصانعُهم من أسلِحَةِ وذخائر.
ولولاه لما سُلِّطت الأضواء مجدَّداً على القضيَّة الفلسطينيَّة، ولما أيقن المجتمع الدَّولي أنه لا استقرار ولا أمان ولا ازدهار في أيةِ دولةٍ أو كيان في منطقة الشرق الأوسط، إن لم يُصرّ إلى إرساء سلام عادلٍ ومُستدام، يضمن للفلسطينيين فرصةً حقيقيَّةً للعيشِ بكرامَةٍ في دولةٍ مُستقلَّة كاملة السيادة عاصمتها القدس، وهذا لا يتحقَّقُ بالتهجير أو التَّطبيع إنما بالتَّمسُّك بروحِيَّةِ المُبادرَةِ العَربيَّةِ للسِّلام.
وأخيراً لولاه لما تنبَّه العالم إلى أن الإتهامات التي كان يسوقها مدّعو الديمقراطيَّة في وجه ما كانوا يسمّونهم دكتاتوريو الدول المارقة أمثال زعيم كوريا الشمالية كيم جون إيل، وكاسترو وتيتو ونهرو ومانديلا وصدَّام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي وغيرهم، وعلى الرَّغم من ممارساتهم القَمعيَّة تجاه شعوبهم، إلَّا أن أفعالهم لم ترق يوماً بوحشيَّتِها لما ارتكب ويرتكب تحت لواء الديمقراطيَّةِ بدءاً بالقنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا على هيروشيما وناكازاكي مروراً بأسلحة النَّابالم التي استعملت في فيتنام وكوبا، وأسلوب الحرب الهجينة الذي استعمل في الحرب على يوغوسلافيا والقنابل القذرة التي ألقيت على كورابورا في أفغانستان، وقذائف اليورانيوم المنضَّب التي استخدمت خلال اجتياح العراق، والممارسات الهمجيَّة التي مورست في معتقل غوانتنامو، وانتهاءً بما يرتكبُ اليوم في قطاع غزَّة.