23 تشرين الأول 2023 12:00ص غاب رجل الحوار صبحي غندور... من يحمل رايته؟

حجم الخط
الحبيب الغالي الأخ صبحي غندور.
هو فارسٌ من فرسان العروبة الحضاريَة الجامعة، حمل قضيّة الأمّة في عقله وقلبه منذ ان تفتّح وعيه السياسي، وكان لا يزال فتىً يافعًا على مقاعد الدراسة في دار المعلّمين يوم أصدر كتيبيًا فكريًّا حمل عنوان الناصرية ثورة قوى الشعب العامل في سبيل الحرية والاشتراكية والوحدة، وتضمن ان الثورة تقاس بمدى شعبيتها وتقدميتها.
انتسب الى التنظيم الناصري– اتحاد قوى الشعب العامل، وكان أصغر أعضاء مكتبه السياسي (في الخامسة عشر من العمر). استوعب باكرًا وعميقًا نظرية الثورة العربية للمفكر الكبير الدكتور عصمت سيف الدولة، وكان مسؤولًا عن لجان العمل الثانوي الناصري، ولجان العمل التعليمي الناصري، ثم في مرحلةٍ لاحقة كان مشرفًا على اتّحاد الشباب الوطني إحدى مؤسّسات المؤتمر الشعبي اللبناني الذي كان يرأسه الأخ كمال شاتيلا.
سهر على إصدار مجلة الموقف وتطويرها من نشرة تُطبع على آلة بدائية تسمى «الستناسل»  الى مجلة أسبوعية مرخّصة تصدر بالألوان، وتعالج قضايا فكرية وسياسية واجتماعية، وكان رئيس تحريرها ومديرها المسؤول، وعلى يديه تدرّب صحافيون وإعلاميّون ومخرجون فنيون ورسامّو كا ريكاتور، انتشروا في بلادٍ عربيّة واغترابية، وبعضهم تبوأ مراكز إعلاميّة متقدّمة في صحفٍ كبيرة. وكان عضوًا في نقابة المحرّرين اللبنانيين.
بعد العدوان الصهيوني الغاشم على لبنان عام 1982، وبعد أن عايش هذا العدوان ونتائجه على مدى سنتين متتاليتين تنامت فيها بشكل كبير المشاعر الطائفية، ترسّخت لديه قناعة ان الدفاع عن القضية العربية لا يمكن أن يبقى داخل جدران الأمّة، فذهب في منتصف عام 1984 الى الولايات المتّحدة الأميركية، الى ولاية نيو جرسي بداية، حيث أشرف لمدّة على صدور صحيفة «الاعتدال» التي  كان يخطط لإصدارها لفترةٍ طويلة رجل الأعمال السوري المرحوم عبد الله طحان، ثم انتقل بعد فترة وجيزة إلى ميتشيغن حيث عمل على إصدار جريدة «صدى الوطن»  كأوّل صحيفة عربية أسبوعية تصدر باللغتين العربية والإنجليزية وتُنشَر في عدّة ولايات على مستوى أميركا الشمالية، بتمويل من صديق قديم له هو المهندس اللبناني أسامة السبلاني.
عاد إلى لبنان لفترة ثم عاد من جديد في العام 1987 إلى واشنطن وكان المرحوم ملحم كرم قد اشترى مجلة «الحوادث» التي كانت تصدر في لندن، فأشرف الأخ صبحي على  إدارة أعمال مكتبها ومراسلتها الأسبوعية  من  العاصمة الأميركية.
في ربيع العام 1989 أنشأ مجلة «الحوار» الشهرية التي كانت تصدر باللغتين العربية والإنجليزية، وكانت أوّل مطبوعة عربية تصدر في العاصمة الأميركية، وكانت مدماكًا فكريًّا لكلّ العروبيّين لغِنى المقالات والدراسات والأبحاث والمواضيع التي تناولتها طيلة فترة إصدارها ورقيًا ثم إلكترونيًّا. 
وفي الذكرى الخامسة لتأسيس مجلة الحوار،  وبعد سنوات شهدث لقاءات فكرية، بناءً لمبادرة منه، مع شخصيات وهامات فكرية وعلمية ودينية في واشنطن، اختمرت لديه فكرة إطلاق «مركز الحوار العربي»، الذي كان يقيم ثلاث ندوات أسبوعية  باللغتين العربية والإنجليزية، وقد أتاح هذا المركز منذ نشأته المجال للمفكّرين العرب للالتقاء والتحاور وتبادل الأفكار.
عمل «مركز الحوار العربي» دفاعًا عن قضايا عربية هامّة داخل المجتمع الأميركي لحوالي ثلاثة عقود، وكانت مطبوعاته ومنشوراته الإلكترونية تصل إلى أعداد كبيرة من المؤسّسات الأميركية والناشطين الأميركيين والعرب في مجالاتٍ وأمكنة مختلفة.
ساهم «مركز الحوار» كذلك، في الجانب الفكري والثقافي والإعلامي، بالعرض السليم للثقافة العربية وللهُوية العربية ولمضامين الحضارة الإسلامية التي يشترك بها كل العرب، وبالردّ على الحملات العنصرية ضدّ العرب والمسلمين داخل المجتمع الأميركي، والإسهام في خدمة القضايا العربية المشتركة، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية، داخل المجتمع الأميركي والغرب عمومًا، من خلال الندوات والنشرات الدورية باللغتين الإنجليزية والعربية عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
ولقد حمل «مركز الحوار» منذ تأسيسه دعوة عربية توحيدية تدعو للتكامل بين العرب بدلًا من التفرّق، وإلى صون التراث الحضاري والاعتزاز بالانتماء العروبي بدلًا من العصبيات الإقليمية والطائفية والإثنية، وأحدثت هذه الدعوة على مرِّ السنوات الماضية تأثيرًا ايجابيًّا واضحًا في أكثر من مجال ومع أكثر من شخص ومؤسّسة في أمكنة وبلدان مختلفة.
وحافظ «مركز الحوار العربي» طيلة 28 عاماً، منذ تأسيسه في 18/12/1994، على منطلقه كمنتدى فكري ثقافي عربي مستقل، دون تمييز على أساس خصوصياتٍ وطنية أو دينية أو إثنية. كما حافظ على أسلوبه كساحة حوار عربي تتفاعل فيها الآراء وتختلف دون خلاف بين الأشخاص، وحافظ على هدفه المتجسد في تعزيز الهويّة العربية وفي تحسين المشاركة العربية في الحياة السياسية - فكراً وأسلوباً - داخل المجتمع الأميركي وخارجه. ومن يدخل الى موقع مركز الحوار العربي على الإنترنت يكتشف الكنز الفكري الذي أنتجه الأخ صبحي ووضعه ذخيرةً لكلّ الشباب القومي العربي.
تميّز الأخ صبحي بحواره الهادئ والمقنع، والبعيد عن الغوغائية والاستفزاز الرخيص، وبتحليلاته السياسية التي كانت تستبق أحيانًا الأحداث، سواء في مقالاته أم في إطلالاته الإعلامية على العديد من شاشات التلفزة. وكان محاورًا بارعًا بأسلوب هادئ مقنع، يحترم آراء من يخالفونه بالرأي ويطبّق على نفسه المبادئ التي وضعها بنفسه للتحاور في مركز الحوار.
 تميَّز أيضًا بالوفاء الكبير والإخلاص لتجربة الزعيم الراحل  جمال عبد الناصر وأفكاره ومبادئه، ولذكراه، وذكرى كل الراحلين الذين عرفهم الأخ صبحي خلال مسيرته الفكرية والنضالية.  وتميّز كذلك بطيب الخلق والمعشر وبدفء اللسان، وبالمرح، والتواضع، والبعد عن الأنانية والانتهازية، وكان يمقت بشدة النميمة والطعن في الظهر. اهتم اهتمامًا كبيرًا بهموم عائلته وأصحابه ومعارفه وعمل دومًا على حلّ مشاكلهم وكأنه موجودٌ أبدًا معهم. تميز بالكرم والإحسان رغم ضيق ذات اليد، وبالتفاني في العطاء من أجل الوطن والأمّة، ودومّا على حساب عائلته وراحته الشخصية.
سهر  الأخ صبحي على مركز الحوار العربي وأداره بإبداع وديمقراطية في اختيار المواضيع والمتحدّثين، ونظّم مئات الندوات الإسبوعية حضوريًّا، ثم عبر تطبيق برنامج زوم بعد انتشار جائحة كورونا.
وقام هذا المركز على جهد الأخ صبحي الشخصي والدؤوب  دون تمويل من أي جهة عربية كانت أم أجنبية. كان الاعتماد فقط على الاشتراك الشخصي، والاشتراكات كما يعلم كل من يتعاطى الشأن الإعلامي لا تؤمّن سوى الحدّ الأدنى من متطلّبات الاستمرار. 
تجاوز عدد ندوات مركز الحوار العربي الحضورية في منطقة واشنطن الألف، وكذا عدد مقالاته التي كانت تنشر في كبريات الصحف العربية.  . ووصل عدد الندوات الإلكترونية التي أقامها بعد جائحة كورونا إلى 267 ندوة أون لاين. وكان آخرها حول الأوضاع في فلسطين، التي أحب وناصر قضيتها بصدق وإخلاص طيلة مسيرة حياته، وكان دومًا يرى المقاومة السبيل الوحيد للتحرير، فسجّل التقدير والفخر والاعتزاز بالمقاومة وأبطالها. وقد أصرّ على إجراء هذه الندوة من على سريره بالمستشفى، ولمّا حالت صعوبات تقنية دون ذلك أصرّ على العودة إلى البيت لإقامتها في اليوم التالي لتاريخها أي في 14 أكتوبر 2023 بدلًا من يوم 13.
كان دائم الحضور الإعلامي عبر شاشات التلفزة وأثير الإذاعات العربية والدولية، وكان موضوعيًّا في حواراته ونقاشاته، وكان المدافع الشرس عن القضايا العربية، والناقد الموضوعي والعلمي للتوجّهات الأميركية والأطلسية. ولم يتوقّف عن تنظيم الحوارات بين مفكّرين عرب على الرغم من الأوجاع التي سببها المرض الخبيث الذي أصابه.
 لم يتسلّل اليأس يومًا الى نفسه، ولم تغب قضية وطنه لبنان عن باله، فبقي مدافعًا شرسًا عن وحدته وحرّيته وعروبته واستقلاله، وكان صوت المقاومة بكل حرّية ومن دون تبعية لأيٍّ كان. 
كان داعية بكلّ ما للكلمة من معنى. وكان جسرًا بين العروبيّين المقيمن والعروبيّين المغتربين. وكان صلة الوصل بين مناضلين تعرّفوا الى بعضهم البعض من خلال ندواته الهادفة دائمًا.
خسارته لا تعوّض بشخص ولا بمجموعة، لقد كان مؤسّسة قائمة بذاتها، وقلما يجنّد إنسان نفسه لخدمةٍ عامّة ويستمرّ طيلة حياته على هذا المنوال بكل عزّة نفس وكرامة وإباء.
سنذكره بقلوبنا، وبعقولنا، فله عندنا ذكرٌ لا يُمحى إلا بانقضاء آجالنا، ويبقى الذكر بعد ذلك لكل من قرأ له واستمع إليه واشترك معه في ندوةٍ أو لقاء أو حوار، وكل من عرفه وتعرّف إلى مبادئه الأصيلة طيلة مسيرته النضالية على مدار خمسة عقود من الزمن.
اللهم لا اعتراض على حكمك

عائلة صبحي غندور