25 أيلول 2023 12:00ص مضى عام على مغادرتي بيروت..

حجم الخط
عام على تركي لبنان ومغادرتي بيروت لأبدأ فرصة عمل جديدة لم يكن مخطط لها..
الكثير من الأمور تبدّلت وتغيّرت. عام صعب، مليء بالتحدّيات والتجارب الجديدة. تقلّبات وتطورات وتراكمات واختلاط وتخبّط بالمشاعر..
يكفي فكرة الابتعاد والانسلاخ والانفصال. علاقتي ببيروت من الصعب فهمها. قطعٌ من قلبي تشظّت وتباعدت وتناثرت لحظة ابتعادي عنها.
يكفي أيضا فكرة التأقلم.. نحن سريعو التأقلم لكنها عملية صعبة تتطلب وقتا. تماما كشفاء الجروح المفتوحة. مغادرتي بيروت فتحت لي جرحا وضمدت لي جرحا في الوقت نفسه.
ربما كنت بحاجة للخروج. لتوضيب حقيبة على عجل بتذكرة واحدة.. ربما..
ربما كانت فرصة للتنفّس بعيدا عن الضغط الشديد والصعوبات التي لا تنتهي. وخيبات الأمل التي تراكمت منذ ٢٠١٩ وصدمات الكوارث والجرائم خصوصا في آب ٢٠٢٠ وعودة الفساد والتفلّت الأمني والانهيار الاقتصادي والنفسي أيضا بعد معارك طاحنة ضد من أوصلنا الى الجحيم.. ربما.
أنا تغيّرت ولبنان تغيّر. كلنا تغيّرنا. وتبدّلت الكثير من ملامحنا. وتبدّلت معها مواقعنا ونظرتنا للأمور.
أشتاق لبيروت، لأصدقائي، لعائلتي، لمنزلي، لكل تفصيل صغير في المدينة أو في البلد.. غادرت مضطراً، حملت حقيبتي ومشيت. رحلة لم أخطّط لها..
مضى عام وها هو البلد يغرق أكثر فأكثر بفساد أحزابه وغباء سلطته. بلد غارق بالخداع الذي يتعرّض له الناس يوميا.. الدولة العميقة تحفر قبورا عميقة جدا لكل شيء في بيروت.
البلد يسيطر عليه الجهل. فئات فاقدة لأي أهلية تسيطر على الناس وتبطش بهم وتخنقهم الى حد الموت.
لم يتبدّل شيء، بل زاد القمع وصعوبات الحياة والقصص اليومية المرعبة هناك..
بيروت مدينة تصارِعنا ونصارُعها، نتبادل الأدوار، لكننا دوما لسنا على وفاق. حبّ متبادل وكره متبادل وصراع لا يتوقف. حتى اليوم لم تتضح علاقتنا المعقدة معها بعد..
أشتاق كثيرا لبيروت لكل شيء، ولي كلمات يصعب التعبير عنها هنا أو هناك.
أصدقاء وأحباء غادروا المدينة وهجروها أو تهجّروا وهُجِّروا منها كما فعلت قبل عام.. لكنهم على الأقل ناضلوا وحاولوا وكافحوا وبكوا ورفضوا وعارضوا وجرّبوا كل الوسائل للاستمرار والصمود لكنهم لم يفلحوا. اعترفوا بالهزيمة، أو أصابهم التعب، أو احتاجوا استراحة ولو متوسطة المدى...
كلنا نفعل فعل الاضطرار.. لي أصدقاء وأهل وأرض وحب في بيروت، بعضهم يتحضّر للهجرة وآخرون يسعون إليها. وآخرون أيضا غير قادرين على ترك هذه الأرض لأسباب عدة..
تحية لصمود الجميع رغم كل شيء. وتحية لمن حاول على الأقل. وتحية لمن بقي ويكرر المحاولة. وتحية لمن اعتكف لأن ندوبه وجروحه أتعبته كثيرا..
بيروت الحقيبة التي نحملها معنا. والقصة التي نرويها يوميا لأصدقائنا. فجدلية علاقتنا واصابتنا بمتلازمة بيروت صعبة التفسير..
سنعود يوما ما. ربما قد لا نعود للاستقرار الدائم. لكننا سنعود. ومن جهتي لن أترك بيروت. فحبي لها فوق كل هذا الخراب والفوضى والكراهية والأحزاب المتغطرسة وفسادها المستشري.
تركت لبنان. ما زلت لا أصدق. غير قادر حتى على استيعاب ما حصل. احتاج لكثير من الوقت لتصديق فكرة رحيلي من مدينتي.
لبنان يعني لي العائلة والأصدقاء وبعض الزوايا والأماكن واليوميات والذكريات. أما لبنان اليوم، بمافياته وسلاحه وجنود ربه وفيحائه وزعران أحزابه وفساد حكومته فلا يعني لي سوى الانحطاط والجهل.
بالمناسبة، أبو ظبي مدينة دافئة جميلة وهادئة ومستقرة. تعرف جيدا كيف تحتضن ضيوفها وتشعرهم بأنهم أهلها وسكانها..
أبو ظبي تعرف كيف تشعرك بالأمان والاستقرار. ها أنا أمارس حياة طبيعية هادئة. أذهب الى عملي. أعود الى منزلي. أمارس الرياضة. أزور الأماكن التي أريد في الساعة التي أريد من دون خوف أو قلق من تعرّضي للسرقة أو الضرب والاعتداء أو التوقيف من قبل مافيات الأحزاب والزعران.
أمضي في الحياة. أعرف قيمتها. بتت أقدّر الأشياء الصغيرة وتفاصيلها. تخلصت من الكثير من المعارك اليومية. نضجت كثيرا.
لي أصدقاء على قلّتهم هنا. لكنهم غاية في اللطف والطيبة والاحتضان. أصدقاء نتشارك سويا القصص والذكريات والصعوبات ولحظات الفرح.
ولي أصدقاء وأحباء لا ينقطع التواصل بيننا مهما أبعدتنا المسافات وفارق التوقيت والمسؤوليات.
وفي العمل، أسعى دائما نحو الأفضل وتقديم المواد التي تليق بالمستوى الذي أعمل به وبالقِيَم التي أؤمن بها. أنظر الى الأمام دائما وأمضي كما درجت العادة.
انه عام.. نعم مضى عام. قد أكتب الكثير. بتوقيت ابو ظبي أو بتوقيت بيروت أو بتوقيت أفكاري وأحلامي ومخاوفي وتطلّعاتي ونظرتي للأمور. واليوم ابدأ عاما جديدا… بانتظار بيروت.. بانتظار جديد يسطع.. في أي مكان.

سلمان العنداري