بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 نيسان 2021 12:00ص تاريخ مدفع رمضان

حجم الخط
سهيل منيمنة *



بعيد مغيب شمس يوم التاسع من شهر كانون الثاني/ يناير عام 1832م، سُمع دويّ إحدى وعشرين طلقة مدفعية في كل أرجاء بيروت، المدينة الصغيرة القابعة داخل سورها، حارسها القديم. ربما لم يتفاجأ السكان كثيراً، فتاريخ مدينتهم حافل بهجمات القراصنة والغزاة الذين كانوا يطلقون نيران مدافعهم على المدينة إن من البر أو البحر، حتى أن أكبر وأوسع وأشهر ساحات المدينة كان يطلق عليها ساحة المدفع قبل أن تشتهر بساحة الشهداء فيما بعد. ولكن طلقات مساء ذلك اليوم الصادرة عن ثكنة جيش إبراهيم باشا المصري في باطن بيروت كانت مختلفة، فقد كانت تبشيراً برؤية هلال شهر رمضان المبارك. وكان يطلق العدد نفسه من الطلقات عند ثبوت هلال شهر شوال إحتفالاً باستقبال عيد الفطر السعيد، كذلك كان يطلق منه 21 طلقة مساء التاسع من ذي الحجة إجلالاً لحلول عيد الأضحى المبارك. لذلك أطلقت على هذا المدفع تسمية «مدفع رمضان والعيدين».

يقول الباحث الأستاذ زياد سامي عيتاني عضو جمعية تراث بيروت: «تشير بعض الدراسات والمعلومات التاريخية الى ان تقليد إطلاق مدفع الافطار في رمضان يعود الى عام 1811 في عهد والي مصر محمد علي باشا، ويقال بأن الجيش المصري في تلك الفترة امتلك مدافع حديثة، فأحال المدافع القديمة إلى المستودعات بعد أن نصب أحدها في أعلى قلعة القاهرة رمزاً لانتصاراته. وفي أحد أيام شهر رمضان أطلق جيش محمد علي طلقة من المدفع القديم مع أذان المغرب مما لاقى استحسان وتأييد أهالي القاهرة عامة والمناطق البعيدة عن القاهرة بشكل خاص . ومنذ ذاك التاريخ أمر محمد علي باشا بإطلاق المدافع مع أذان المغرب ومع الامساك فجراً وفي الأعياد والمناسبات. ونظرا لارتباط مصر ببلاد الشام فقد تكرّس هذا التقليد مع الحكم المصري في بلاد الشام بين أعوام 1831-1840، أي خلال ولاية إبراهيم بن محمد علي باشا على هذه البلاد قبل إجباره من قبل التحالف العثماني - الأوروبي على الخروج من بيروت بعد إغارة أساطيل هذه البلاد على المدينة وقصفها مما تسبّب بتضرر وانهيار أجزاء من قلعة بيروت».

دخل إبراهيم باشا المصري بجيشه إلى بيروت المحروسة سنة 1831م، وفي عهده استحدث في المدينة مدفعاً مهمته إثبات شهر رمضان وإعلان وقت الإمساك والسحور وأوقات الصلاة وخصص له موظفاً خاصاً لإطلاق المدفع وتحديد الأوقات كان يسمّى الميقاتي.

في تلك الأيام كان يتم إطلاق المدفع مساء يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان إذا ثبتت رؤية الهلال، وإلا عصر اليوم التالي وهو اليوم المتمم للثلاثين. وفي سنة 1859 وما بعدها كانت تطلق 21 طلقة تبشيراً وإجلالاً عند حلول الشهر وأيام الأعياد.

كان موقع هذا المدفع أيام الدولة العثمانية في الثكنة العسكرية الواقعة على رابية مطلة على باطن المدينة (مكان مجلس الإنماء والإعمار اليوم). كانت وجهة المدفع إلى الشرق، وكان الميقاتي المعيّن من قبل مدير الأوقاف يسحب من جيب سترته ساعة معلقة بسلسلة ذهبية يحدد بموجبها إشارة إطلاق المدفع. وأشهر من عرف من الميقاتية شخص من آل زغلول ثم اشتقت من هذه الوظيفة عائلة الميقاتي المعروفة.

استمر هذا الوضع إلى عهد الإنتداب الفرنسي حين وضع الانتداب يده على الأوقاف الإسلامية وتم تعيين المسيو جينادري مشرفاً عليها. وفي سنة 1935، ومع اتساع المدينة جنوباً وغرباً، نقل المدفع إلى تلة الخياط (خلف مبنى تلفزيون لبنان اليوم) التي كانت تشرف على معظم الإحياء الإسلامية، وصار الإشراف على المدفع وإطلاقه بعهدة رجال القناصة اللبنانية التابعة لجيش الشرق. أما بعد الاستقلال فقد استلم الجيش اللبناني هذه المهمة.

وصف المدفع وموقعه

كان المدفع قديم مثبت على عربة بدولابين تنقل على البغال من مركزها بثكنة مار إلياس أي ثكنة الحلو حالياً، ودام هذا الأسلوب حتى سنة 1923. أما القذيفة فكانت عبارة عن حشوة قماش محشوة بالبارود متصلة بكبسولة تطلق من المدفع بواسطة حبل رفيع.

يشير المؤرخ عبد اللطيف فاخوري أن موقع المدفع كان في الثكنة العسكرية الواقعة على الرابية المطلة على بيروت، عند ما يعرف اليوم بمجلس الإنماء والإعمار. وكان يشرف على إطلاق المدفع ميقاتي من الأوقاف آنذاك، فيسحب من جيب سترته ساعة معلقة «بكستك» ذهبي، تبيّن إشارة إطلاق المدفع، فيحدث دوياً ترتج له المدينة الصغيرة. وكان الجيش العثماني يتولّى مهمة إطلاق المدفع من أعلى ربوة في بيروت آنذاك وكانت تعرف بمنطقة «الثكنات» أي ما بين السرايا الحكومية ومجلس الإنماء والإعمار الآن.

نقل المدفع إلى تلة الخياط

يضيف عيتاني: بعد العام 1935، أي بعد 17 سنة على دخول جيوش الحلفاء وانقضاء الدولة العثمانية اتسعت مدينة بيروت جنوباً وغرباً، وظهرت أحياء جديدة كانت تعرف خلال الحقبة العثمانية بظاهر بيروت أي الأحياء الواقعة خارج السور.

وعليه، قررت المفوضة العليا الفرنسية التي كانت تشرف على هيئة شؤون الإفتاء والأوقاف الإسلامية بصفتها جزءاً من الدولة، وبعد مشاورة مفتي بيروت وعلمائها نقل مدفع رمضان والعيدين الى منطقة تراعي المتغيّر، فآختارت محلة تلة الخياط التي كانت تطل على معظم أحياء بيروت بسبب إرتفاعها عن باقي المناطق، فأشرف على المدفع وإطلاقه رجال القناصة اللبنانية (جيش الشرق)، وعُيّن المايجور المتقاعد غيناردي مسؤولاً عنه، ومن بعدهم الجيش اللبناني بعد الاستقلال.

وبقي إطلاق مدفع رمضان والعيدين قائماً قبيل الحوادث اللبنانية عام 1975، ولكن من منطقة تلة الخياط، التي تُعدّ أعلى مرتفع في بيروت. ولكن خلال الحرب التي عصفت بلبنان، توقف إطلاق المدفع لأنه كان يتعذر التمييز بينه وبين المدافع التي كانت تستخدم للأغراض العسكرية!

بعد نهاية الحرب الأهلية العام 1990، أصدرت الحكومة اللبنانية قراراً قضى بإعادة العمل بمدفع رمضان في الأول منه العام 1995، ولأن المدافع الحديثة يجب إبعادها عن تجمعات السكان كون مساحة بيروت وضواحيها قد تضاعفت، جرى استحداث مربض خاص لأحد مدافع الجيش اللبناني قرب السفارة الكويتية في بئر حسن، وتم توجيه المدفع ناحية البحر.

مدفع رمضان في ذاكرة البيارتة

في هذا المضمار لم أجد أجمل مما كتبه صاحبنا الأستاذ محمد كريّم حفظه الله، في كتابه الممتع «في البال يا بيروت» عن ذكريات طفولته مع مدفع رمضان فقال:

«قبل الإفطار، كان السكون يلف المدينة، حتى لتكاد الحركة تتوقف كلياً، ولكأن الزمن قد توقف معها هو الآخر، فتخلو الشوارع من العابرين والمارة، اللهم إلا من بعض العائدين متعجلين إلى منازلهم، وهم في سباق مع مدفع الإفطار.

كنا نقف، مجموعة من أبناء الحي، أمام منازلنا، بانتظار مدفع الإفطار، الذي كان يطلق من منطقة «تلة الخياط» الهضبية الرملية المرتفعة والمشرفة على معظم أحياء بيروت، من مكان ثابت، بالقرب من مقهى «أبو النور» الشهير، الذي يعرفه كل متذوّقي النارجيلة في بيروت.

ما إن ينطلق مدفع الإفطار حتى كنا نتراكض، كلٌ إلى بيته صائحين: ضرب ضرب... وكنا نرسل هذه الصيحة منغّمة فيها الكثير من الفرح، دون أن نعرف سبباً محدداً لذلك. ربما كانت لالتئام شمل العائلة، وما يخلفه ذلك من أجواء الألفة التي كنا نحس بدفئها، أو بسبب ما كان ينتظرنا من مآكل شهية وحلويات لا تكون حاضرة في غير موائد رمضان، أو بسبب ما سوف نقوم به بعد الإفطار من زيارات تحمل التغيير في نمط حياتنا اليومي؛ ولربما أيضاً بسبب انقضاء يوم من شهر، آخره عيد، سيحمل إلينا البهجة: الثياب الجديدة، والعيديات، وفرح «حرش العيد».

وكل عام وأنتم بخير.

------------

* رئيس جمعية تراث بيروت

info@beirutheritage.org